الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عفاف راضى.. بدون مناسبة

عفاف راضى.. بدون مناسبة
عفاف راضى.. بدون مناسبة




د.حسام عطا

الفنان شديد الحساسية هو فى الأصل صاحب موهبة كبيرة حقيقية وكما أن الشر والعبقرية فى الفن أمران متعارضان، فالفن الحقيقى والرداءة أيضا أمران لا يجتمعان، ولأننا نفتقد كمؤسسات مستقلة ورسمية القدرة على توفير البيئة الحاضنة للإبداع فقد اختفت فراشات ملونة وصمتت بلابل الدوح، وواحدة ممن تدثرن بكبرياء الموهبة والصمت عصفورة مصر المغردة الرائعة عفاف راضي.
إنه الصمت التام، فهل اكتفت عفاف بما قدمته وقررت تركنا لكل ما قدمته من أغنيات رائعة كما فعلت ليلى مراد عند مرحلة سنية معينة؟ لا أعتقد ذلك.. فعفاف لم يكن يعنيها أبدا مظهرها بل ماذا تغنى وماذا تقول؟ وكنت أدفع لها عبر الإلحاح بمصفف الشعر وبمتخصص فى الزينة عندما أخرجت لها مسرحية للأطفال مأخوذة من رائعة أرستوفان اليونانى الحكيم (السلام)، على مسرح البالون عام 1993.
كانت الكبيرة قيمة وفنا تفرح كلما شاهدت جمهور الأطفال، كانت أشهر وأهم صوت مصرى اهتم بالغناء والتمثيل للأطفال فى النصف الثانى من القرن العشرين، وكان واحدا من مشروعاتها المهمة التى أنجزتها مع الكبار بليغ حمدى وسيد مكاوى وعمار الشريعى وغيرهم.
عفاف تشبه عصفورة الشجر المصرية الرمادية اللون، ليست ملونة، وليس رمادية لونها إلا هذا الشجن المعتق الممتلئ بالحياة والرقة والبساطة، حتى لونها قمحى مثل لون مصر، قمحى لونها ليس إلا كلون الفلاحين، وصوتها الأنيق الحساس المدرب القادر على حمل المعنى والشعور بثقة تتجاوز بكثير دلال الأنثى التقليدي، عفاف واحدة من جيل لحق بالكبار وولدت بينهم نجمة حقيقية أمام محمود ياسين فى مولد يا دنيا من إخراج حسين كمال، هل تتذكرون بهجتها وحضورها وثقلها كممثلة استعراضية.
عفاف عصفورة الغناء المصري، هى بطلة العمل المسرحى الوحيد الذى قدمه الرحبانية بمصر (الشخص) على مسرح البالون.
عفاف لا تحتاج للملابس المزركشة ولا للأضواء المبهرة ولا للتكرار البصرى المملل الذى يتعمد الإلهاء عن الفراغ الفنى للأصوات المتشابهة التى تردد قبحا مشتركا متشابها، يكفى لعفاف أن تقف فى الفضاء المسرحي، أو تجلس فى مكان التسجيل مع مهندس الصوت ليعود للغناء المصرى أصالته الأنيقة.
عفاف راضى بالتأكيد يجب استعادتها إن كانت وزارة الثقافة المصرية، ودار الأوبرا بالتحديد تريد حقا التواصل مع الجمهور العام بفن رفيع.
عفاف راضى حقا تحتاج لمن يجمع لها إنتاجها ويطرحه فى الأسواق فقد بحثت عن قرص مدمج لها لدى محلات بيع الموسيقى التى تكاد تندثر فى مصر، فلم أجد إلا بعضا من إنتاجها القديم، وهى مسئولية شركات الإنتاج الخاصة أيضا.
عفاف الجميلة الأم الزوجة للطبيب البارع كمال خلوصى الأستاذة بالمعهد العالى للكونسرفاتور بأكاديمية الفنون الصامتة الآن صمت الكبرياء، لن تطلب شيئا مما يجب أن يحيط بها من فرص للعمل وللاحتفاء والتكريم.
عفاف لن تثرثر بلا سبب فى برامج الحوار، ولن تطارد الصحف والمجلات لنشر أخبار وهمية، ولن تكلف خاطرها إعلان الاعتزال.
عفاف ستعود عندما يعود الفن المصرى لاختياراته الجماهيرية النبيلة.
ولذلك أكتب الآن عنها بلا مناسبة ففى إطار الضجيج والمشروعات الثقافية المتقطعة، وطوابير البؤس الفنى التى تملأ أرصفة وزارة الثقافة واتحاد الإذاعة والتليفزيون، وتطاردنا فى كل مكان أسأل أين هي؟ التى قال عنها جمال عبد الناصر أنها فيروز مصر فماذا فعلنا بعصفورة مصر المغردة؟!
عفاف راضى نوع من البشر ربما تزعجها مثل تلك الكلمات وربما تغضبها أيضا، عفاف الرقيقة الطيبة الحقيقية قوية الإرادة أذكر موقفها عندما تضامنت معى ورفضت الخروج لتحية السفير الإسرائيلى ديفيد سلطان عندما حضر لمشاهدة مسرحيتنا على مسرح البالون، ورفضت هداياه ورفضت استقبال رجاله أو استقباله بغرفتها بالمسرح، وكانت المرة الأخيرة التى حاول فيها التواجد بين أهل الفن والثقافة نظرا لما أبدته من صلابة واضحة.
إنها امرأة بمائة رجل عند الشدائد، أخلاقها مثل أخلاق فلاحة مصرية عفية من الدلتا، عفاف منحتنا أغنيات للمحبة والإنسانية والوطن وذهبت لصمت لا يريد إلا الترفع والاستغناء هى لا تطلب بل نحن الذين يجب أن نطلب بدون مناسبة عودى يا عصفورة الفن وغردى رقة ونبلا ومصرية.