الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«فورين بوليسى»: «داعش» ستشق طريقها دون الحاجة إلى «مارتن لوثر» إسلامى

«فورين بوليسى»: «داعش» ستشق طريقها دون الحاجة إلى «مارتن لوثر» إسلامى
«فورين بوليسى»: «داعش» ستشق طريقها دون الحاجة إلى «مارتن لوثر» إسلامى




ترجمة وإعداد - وسام النحراوى
 

نشرت مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية مقالا يتضمن نبوءة بالغة الأهمية تشير إلى أن «داعش» ستشق طريقها لا محالة خلال السنوات المقبلة دون الحاجة إلى ما اسمته «مارتن لوثر إسلامى» يقوم بعملية «إصلاح دينى» كالتى قام بها لوثر للمسيحيين.

واستعرضت المجلة أن البابوية فى الفاتيكان باختلاف أبوابها الـ250 كانت تفهم نصوص الكتاب المقدس على طريقتها الخاصة، على الرغم من عدم المساس بالنصو ص المقدسة، وهو ما يمكن أن يحدث بالنسبة للمسلمين الذين لا يحتاجون من أجل إقامة دولتهم إلى تغيير النصوص المقدسة، وإنما عليهم فهمها وقراءتها جيدًا، حيث إن السياسة والتاريخ هما اللذان ترتكز عليهم «داعش» فى تطبيق مفهوم مختلف للدين، مع بقاء العقيدة والنصوص الشرعية على حالهما دون تغيير.
وبدأت المجلة فى عرض مقارنه بين ماحدث فى أوروبا فى العصور الوسطى وما يحدث الآن داخل العالم الإسلامى، فقد ذكرت «فورين بوليسى» أن البابا فرانسيس بابا الفاتيكان قد صلى الأسبوع الماضى لأجل ضحايا الإرهاب فى سوريا والعراق خلال خطابه السنوى فى ذكرى عيد الميلاد، حيث كانت صلواته لأجل الضحايا المسيحيين والمسلمين الذى سقطوا نتيجة عنف الجهاديين، لكن كلماته أظهرت تناقضا صارخا بين تواضع الفاتيكان ووحشية «الخلافة» المعلنة حديثا من قبل «داعش».
وأدى هذا التناقض أن يقوم بعض الخبراء السياسيين بالتصريح بأن الغرب يجب أن يتخلى قليلا عن قواعد التهذيب والعبارات الدبلوماسية، ويقر بالحقيقة الواضحة وهى أن الإسلام ما يزال عالقا فى العصور الوسطى، حيث إن الكثير من دول الغرب وصلت إلى طريقه لفصل المؤسسة الدينية عن الدولة، فى حين أن دول إسلامية، من ضمنها السعودية ،مصر، وتركيا ما تزال غير قادرة على ذلك.
ونقلت المجلة الامريكية أن أكثر التفسيرات شيوعا فى تفسير ما يحدث هى إن العالم الإسلامى يحتاج إلى إصلاح دينى من الداخل، أى إلى «مارتن لوثر جديد مسلم» يأخذ بدين محمد إلى العصر الحديث، مشيرة إلى أن السنة الماضية شهدت انضمام شخصين فقط إلى القائمة القصيرة لـ«مارتن لوثر الإسلامى» المحتمل وهما: فتح الله كولن من تركيا، وعبد الفتاح السيسى من مصر.
ويبدو أن العديد من محللى الإسلام ومنتقديه لا يزالون متمسكين بفكرة أنه لابد من وجود شخصٍ بإمكانه أن يزيل حيرة المسلمين بشأن العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة فى بلادهم، ويساعد فى انتقال الإسلام من الأصولية الشمولية، إلى دينٍ ليبرالى مستنير، سواء كان هذا الشخص واعظًا تركيًا منعزلاً مثل فتح الله كولن، أو جنرالا مصريا عسكريا مثل السيسى.
لقد نتجت الثقافتان السياسيتان المختلفتان بين الدول المسيحية والمسلمة عن تاريخ شديد التعقيد، تطور فى مسار ملتو لا يقدم لنا إلا أقل القليل من الدروس المستفادة.
واستعرضت «فورين بوليسى» تاريخ كلا من أمريكا التى دمجت الدين والدولة وبين دول أوروبية أخرى مثل ايطاليا وفرنسا ، فقد كان الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة فى معظم التاريخ الأمريكى غير ممكن إلا بفضل ترويض الإصلاح البروتستانتى لسلطات الفاتيكان فى القرن الـ 16، فقد رأى الغالبية أن الكاثوليكية باعتبارها دينا ينتمى إلى العصور الوسطى، يتعارض مع التقاليد العلمانية المستقرة فى إنجلترا وأمريكا.
ولم يكن العداء الأمريكى تجاه الكنيسة الكاثوليكية بلا مبرر، فلم تكن الفاتيكان تمثل بأى حال وجها معاصر للدين فى ذلك الوقت، فقد أعلن قادة الكنيسة معارضتهم للقواعد الأساسية للديمقراطية مثل الاقتراع، وأصدر البابا «بيوس التاسع» منشورا فى عام 1864م يدين الليبرالية، وحرية العقيدة، والتقدمية.
كان الأمر الوحيد الذى اتفق عليها قادة الكنيسة ونظراؤهم من الملوك عبر أغلب تاريخ أوروبا، هو أن الكنيسة والدولة يجب أن يكونا كيانًا واحدًا، كان اختلافهم فقط على من يجب أن يملك زمام القيادة، فكان الأمر الوحيد الذى أبقى الكنيسة والدولة منفصلتين هو صراع القوة بين المعسكرين: قادة الكنيسة والملوك.
وحين فقدت الإمبراطورية الرومانية سيطرتها على أوروبا خلال الألفية الأولى، حافظ البابا على سيطرته على الكنيسة عبر امتداد الإمبراطورية الرومانية، لكن سلطة البابا الدنيوية وليس الدينية، كانت تدفعه إلى الصدام مع ملوك أوروبا حين كان هؤلاء الملوك يحاولون الاستيلاء على أراضى الكنيسة، أو يشرفون على تعيين الأساقفة، هذا الصراع هو ما دفع بعضا من قادة أوروبا الأقوياء إلى الوقوف ضد البابا بشأن معضلة اختيار الملوك والباباوات: من يجب أن يعين من؟ كان كل منهما يرغب فى لعب دور «الخليفة»، ويجمع السلطتين: الروحية والدنيوية، لكن وبرغم أن كلا الطرفين كانا يعتمدان على بعضهما البعض لاكتساب الشرعية، فإن واحدا لم يستطع السيطرة على الآخر لقرون طويلة.
وفى النهاية ، أعطى الإصلاح البروتستانتى ملوك أوروبا أمثال «هنرى الثامن» تبريرًا دينيًا للجمع بين الكنيسة والدولة تحت سلطة واحدة، بدلا من سلطة الفاتيكان، ودعم البروتستانت فصل الكنيسة عن الدولة، فقط إذا كانت هذه الكنيسة هى الكنيسة الكاثوليكية، وحرر «هنرى الثامن» نفسه من سيطرة بابا الفاتيكان.
لكن لا يبدو أن أحد فى المجتمعات الإسلامية يطالب بظهور «هنرى الثامن الإسلامى»، فلا يسعنا التهرب من حقيقة أن «هنرى» حول إنجلترا إلى مملكة ثيوقراطية، أعلن نفسه فيها كأرفع سلطة سياسية ودينية فى إنجلترا بذات الطريقة التى قد يتصورها المسلمون لدور الخليفة.
جاء توحيد الكنيسة والدولة تحت الملوك البروتستانت داعما للعلمانية الحديثة؛ لأن الحكام الجدد كانوا جادين بشأن سلطاتهم السياسية الجديدة، لا سلطاتهم الدينية، فقد أرادوا لبلادهم أن تكون أكثر ثراء وقوة، وفى ظل ما يتمتعون به من سلطات دينية، كان بإمكانهم لى عنق النصوص الدينية لتحقيق أغراضهم الدنيوية، مثلما تحاول «داعش» أن تفعل الآن فى العالم الإسلامى.
وبينما أصبحت الدول الأوروبية أكثر ثراء واستقرار وقوة عبر القرون المتعاقبة، أصبحت الثقافة السياسية الخاصة بهم أكثر ليبرالية وديمقراطية، وأصبح وضع الدين مستقر فى يد الملوك البروتستانت، ومن ثم تم تحجيم سلطات الملكة «إليزابيث» عن طريق البرلمان والقانون العام فى إنجلترا، ولن تعد تستطيع استخدام سلطاتها فى قرارات مثل دعم استعباد أسرى الحرب، على سبيل المثال، كما فعل تنظيم «داعش» باختصار.
لكن تطور العلاقة بين الكنيسة والدولة كان مختلفا فى الدول التى حافظت على الكاثوليكية، مثل فرنسا وإيطاليا، وبدلا من أن يصبحوا قادة لكنائس جديدة، سعى قادة الثورة مثل «روبسبير» فى فرنسا و«جاريبالدى» فى إيطاليا إلى إلغاء المؤسسات الكاثوليكية بالكامل.
فعلى سبيل المثال، صادرت الثورة الفرنسية أراضى الكنيسة، وحظرت الأوامر الرهبانية، وأجبرت الأساقفة على حلف يمين الولاء للدستور المدني، وبالتالى أمضت الفاتيكان أغلب فترات القرن الـ 19 على هامش الحياة السياسية، ورفضت التعاون مع الأنظمة العلمانية فى أوروبا.
فى بداية القرن الثامن عشر، خضعت الكنيسة الكاثوليكية للوضع الجديد الذى تلعبه الدولة، ولبعض من جوانب أيدولوجيتها الليبرالية، وجاء اتفاق الفاتيكان مع الدولة الإيطالية ليمنح المتدينين حق التصويت فى الانتخابات المدنية، دون خوف من الملاحقة بطريقة ما، مكنت هذه التنازلات الكنيسة والدولة من أن يجدا حلا وسطا لخلافاتهم، وفى أثناء ذلك، وضعت الحكومة فى فرنسا وإيطاليا قواعد الوضع الأوروبى الحالى، وأعطت الفاتيكان الحق فى استعادة بعض من نفوذها ومملكاتها السابقة.
يذكرنا تطور تاريخ العلمانية فى الدول البروتستانتية والكاثوليكية بأن السياسة والظرف التاريخى يشكلان الدين وتطبيقه فى المجتمع أكثر من أى فقه دينى نظري، تستطيع هذه العوامل إحداث تغيير جذرى فى أية عقيدة، حتى إذا بقى النص المقدس على حاله لم يمس.
لكن، إذا كان فصل المؤسسة الدينية عن الدولة أمرا سياسيا لا فقهيا، فيجب علينا أن نطرح سؤالا ملحا: أى النماذج السابقة فى تاريخ الدول الغربية يصلح للعالم الإسلامي؟ هل حقا التجربة الفرنسية فى تحديد العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة هى ما يحتاجه المسلمون، أم التجربة الإنجليزية فى دمجهما تحت مسمى «الخليفة» كما حدث فى عهد «هنرى الثامن»؟.
وأعطت «فورين بوليسى» مثالا من داخل العالم الإسلامى لدولة من أشهر الدول العلمانية الإسلامية وهى تركيا.
فقد رأى «أتاتورك» أن المؤسسة الدينية الإسلامية هى العدو الذى يجب القضاء عليه، مثلما رأى الثوار فى فرنسا الفاتيكان عدوة لثورتهم، فصادر أتاتورك ممتلكات المؤسسات الدينية وحظر الفتاوى الدينية، كما فرض رؤية معادية للكاثوليكية فى تدريس تاريخ أوروبا، لدرجة أن الكثير من الشباب التركى يعتقد أن البروتستانت هم المسيحيون العصريون، وأن الكاثوليك هم المسيحيون الرجعيون.
لكن من يتابع الأخبار القادمة من تركيا خلال العقد الماضى تقريبا يعلم جيدا أن سياسة «أتاتورك» العلمانية لم تنجح تماما؛ فقد ظلت السياسة التركية منقسمة بشكل حاد بين الذين يعتقدون أن بلادهم أصبحت علمانية أكثر من اللازم، وبين الذين لا يتوقفون عن الشكوى من أنها ليست علمانية بما يكفى.
لذا فإن تركيا لم تستطع أن تفعلها، فهل يبقى لدينا أى أمل فى التوصل إلى إجماعٍ بشأن دور للدين فى الحياة العامة يكفى لإقامة ديمقراطية ليبرالية فى الدول ذات الأغلبية المسلمة؟ أو حتى يكفى لتخفيف حدة العنف الذى شهدناه فى عام 2014؟
إذا كنا ننظر إلى عام 2015 الجديد بعين التفاؤل، يمكننا استخلاص درس واحد من قرون طويلة من الصراع بين الكنيسة والدولة فى أوروبا هو أن الدول الإسلامية ستشق طريقها مثلما فعلت الفاتيكان، حتى دون اتباع نموذج معين، ودون «مارتن لوثر إسلامى» يقود الإصلاح الدينى.