السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عبدالناصر وإحسان والبنات والصيف!

عبدالناصر وإحسان والبنات والصيف!
عبدالناصر وإحسان والبنات والصيف!




رشاد كامل

ليس سرا أن الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» كان من قراء الأستاذ «إحسان عبدالقدوس» قبل ثورة 23 يوليو أو بعدها!
وما كان أكثر المرات التى كان يتردد فيها البكباشى «جمال عبد الناصر» وزملاؤه من الضباط الأحرار على دار «روزاليوسف» وزيارة «إحسان عبد القدوس»، لقد التقت أفكار «إحسان» الثورية والتقدمية مع أفكار هؤلاء الشباب من الضباط الأحرار.
كان عبدالناصر يؤمن بوطنية «إحسان عبد القدوس» وكان إحسان يناديه دائما بيا «جيمى»، لكن ذلك كله لم يمنع من اعتقاله عندما كتب مقاله الشيهر «الجمعية السرية التى تحكم مصر» فى مارس سنة 1954 وطالب فيه بإنشاء حزب يمثل حزب الثورة ويضم المدنيين فقط من أفراد الشعب، وإذا أراد أحد من القادة أو من الضباط أن ينضم إليه فيجب أن يستقيل أولا من الجيش.
وفى نفس المقال طالب «إحسان» بإنهاء الثورة قائلا: ليس هناك بلد يستطيع أن يعيش فى نظام ثورى إلى الأبد ولا حتى عام أو عامين، إنما الثورة تقوم لتقضى على نظام فاسد وتضع نظاما آخر بدلا عنه وفورا، نظاما آخر طبيعيا تستقر عليه البلاد ويحقق الأهداف التى قامت من أجلها الثورة، وإذا حدث هذا تحقق الاستقرار وتوفرت الثقة بين الحاكم والمحكوم.
ويقول «إحسان»: قرأ جمال عبد الناصر المقال وعلق عليه - كما سمعت بعد ذلك من البعض - وعلى رأسهم «أنور السادات» بقوله: والله إحسان عنده حق!
لكن لتصارع القوى وقتها وتداخل الاختصاصات وطبيعة الأجهزة الحاكمة فى تلك الفترة تقرر القبض علىّ.
وفى الزنزانة رقم 19 أمضى إحسان فترة اعتقاله من 28 إبريل حتى 3 يوليو سنة 1954 أى نحو ثلاثة أشهر، وأثناء فترة اعتقاله فوجئ إحسان بمدير السجن يطلبه إلى مكتبه ليتحدث فى التليفون، ولدهشته كان المتحدث هو «جمال عبد الناصر» ثم المشير «عبد الحكيم عامر» وأبديا اعتذارا له، وبعد الإفراج عنه اتصل به عبد الناصر تليفونيا ودعاه لتناول العشاء.
فيما بعد روى إحسان للأستاذ الكبير «محمود مراد» يقول: أذكر جيدا عندما وصلت إلى بيته جاء لاستقبالى ثم دعانى للدخول إلى حجرة الصالون قائلا: اتفصل يا إحسان! لكى أتقدمه فى الدخول من الباب باعتبارى ضيفا لكنى تسمرت وقلت له: العفو يا أفندم.. اتفضل سيادتك!
وكانت إجابتى مفاجئة له إذا كنت أناديه من قبل يا «جيمى» فقال لى:
- جرى ايه يا إحسان أنت اتغيرت خالص!
وكررت: اتفضل سيادتك يا أفندم!
المهم إننا جلسنا نتحدث ثم تعشينا وهو يحدثنى فى كل الموضوعات ولما لاحظ تغيرى دعانى لتناول العشاء معه فى اليوم التالى وقال لى:
- مش معقول أنت اتغيرت خالص.. أنا لازم أعالجك نفسيا! وضحك!
لقد قصد إذابة الجليد الذى أفرزه السجن حتى أعود إلى طبيعة علاقتنا فاستمر بدعوتى للعشاء يوميا لشهر كامل، نتحدث ونتعشى ونتفرج على السينما، لكنى أبدا لم أتغير «تعلمت - وهذا أثر ما حدث - أن أضع حاجزا ما بينى وبين من أعرف وصار حاكما، إن مسئولية الحكم تفرض نمطا معينا على من يتولى السلطة وبالتالى على تصرفاته وتصرفات المتعاملين معه».
وفيما بعد كشف إحسان عبد القدوس عن رسالة مهمة كان قد كتبها إلى جمال عبد الناصر سنة 1955 - أى منذ ستين سنة - يوضح فيها موقفه من اتهام فظيع حول «روزاليوسف»، وكانت التهمة هى الجنس والإلحاد ويقول فى ملابسات كتابة الخطاب لعبد الناصر:
كانت لقاءاتى الشخصية بعبد الناصر قد تباعدت كما تتباعد دائما مع أى رجل مسئول لأنى غالبا لا أستطيع أن أساهم فى تغطية مطالب المسئولين وأصبحت أراؤه الخاصة فيما ينشر بـ«روزاليوسف» تصلنى إما عن طريق الرقابة أو عن طريق أصدقاء مشتركين!
وعبد الناصر رغم ما كان عليه من تفتح فكرى كان فى أحيان كثيرة يبدو متحفظا إلى حد التزمت فى اختيار الكلمة التى تقال والموضوع الذى يبحث حتى خارج مجال السياسة، ولذلك فعندما تعمدت إهمال السياسة والتفرغ للأدب لم أسلم من تزمت عبد الناصر، لقد اعترض على كلمة «الحب» عندما كنت أكررها فى الإذاعة قائلا فى نهاية كل حديث: تصبحون على خير.. تصبحون على حب، وعرض على أن استبدلها بكلمة محبة أى أقول «تصبحون على محبة» لكنى اعتذرت وقلت له - لعبدالناصر - إننى أحاول أن أفرض استعمال كلمة «حُب» بمعناها الصحيح، وتوقفت أيامها عن حديث الإذاعة وإلى اليوم، وعبدالناصر بدأ يستعمل كلمة حُب!
ويبدو أن عبد الناصر أيامها كان يقرأ قصص «البنات والصيف» التى كنت أنشرها فى «روزاليوسف»، فأرسل لى عدم موافقته على ما ينشر أو على الأقل عدم رضائه، وفى الوقت نفسه كنت قد فتحت فى «روزاليوسف» صفحات للأبحاث الدينية، وكان زميلى الدكتور «مصطفى محمود» فى مرحلة معينة من مراحل فكره الدينى وكان ينشر دراسات دينية اعترض عليها أيضا «جمال عبد الناصر» ولعلى عندما أبلغت بهذه الاعتراضات رأيت أن أرد عليها برسالة بدلا من الاعتماد على نقل الكلام عن طريق الأصدقاء!
تقول الحكمة الشعبية «البعيد عن السلطان.. سلطان» وهو ما يعبر عنه «إحسان عبد القدوس» بقوله: كنت قبل الثورة وبعدها قريبا من الحكم، لقد عرض علىّ منصب الوزارة فى وقت مبكر جدا بعد الثورة (1952) واعتذرت عن القبول، وبعده فى السبعينيات واعتذرت أيضا، إن رفضى لم يكن تعففا، إن الصحافة هى المهنة الوحيدة التى أجيدها، والمكان الوحيد الذى أستريح فيه، أعبر دائما عن رأيى عن شخصيتى لا عن رأى الحاكم وعن شخصيته وهذا ما جعلنى بعيدًا عن الحاكم حتى لو كان الحاكم من أصدقائى.
إن إحسان عبدالقدوس بهذه السطور إنما يستعيد موقفه من والدته سيدة الصحافة المصرية «فاطمة اليوسف» عندما تم سجنه فقررت أن تتجاهل المجلة كل أخبار قادة الثورة ثم رفضت أن تذهب لزيارة جمال عبد الناصر فى مجلس قيادة الثورة وقالت لصاحب هذا الاقتراح بحسم وحزم:
إن كان يطلبنى كحاكم، فـ«روزاليوسف» لا تسعى إلى الحكام لا عن رغبة ولا عن رهبة، وإن كان يطلبنى لنتحدث حديث الأصدقاء، فعلى أصغر الأصدقاء سنا أن يسعى لأكبرهم، خاصة إذا كان مكان اللقاء مجلة طالما سعد بالذهاب إليها والسهر فيها مع شباب ثائر مثله.
لكن ما كتبه إحسان لعبد الناصر يستحق القراءة والتأمل أيضا وتلك حكاية أخرى!