الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«فاتن حمامة» وبراثن «الحرام»

«فاتن حمامة» وبراثن «الحرام»
«فاتن حمامة» وبراثن «الحرام»




كتب - عاطف بشاى

«جدر البطاطا هو السبب ياضنايا»
تلك الصرخة الموجعة التى أطلقتها الرائعة «فاتن حمامة» فى فيلم «الحرام» المأخوذ عن رواية المبدع الكبير «يوسف إدريس» ومن إخراج «بركات».. لم تكن مجرد صرخة تبرير أو دفاع عن النفس فى مواجهة خطر داهم يوصمها المجتمع من خلاله بالعار والعهر والفضيحة.. لكنه كان تجسيدا بالغ التأثير والدلالة للقهر والشقاء والظلم الاجتماعى الذى يشمل كل الغرابوة.. كل الفقراء..
والغرابوة هم شريحة اجتماعية بائسة تنتمى اليهم «عزيزة».. يفدون الى القرى لتنقية الدودة.. ويعتبرهم اهل تلك القرى غرباء عنهم فيما يتصل بأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم.. وينفرون من معايشتهم رغم البؤس المشترك.. حتى ان «فكري افندي» مأمور الزراعة حينما ابلغوه ان ثمة لقيط مولود حديثا وجدوه فى الحقل.. هتف فى ثقة وعنجهية: «همة الغرابوه.. فيش غيرهم.. ولاد الكلب» بل ان صرخة.. «جدر البطاطا» تبدو وكأنها صرخة احتجاج وارهاصات ثورة.. ومرادف لصرخة عبده عبد المنعم جعفر صاحب كشك الفول الصغير بالقنطرة غرب بمحافظة الاسماعيلية الذى شعر ان الموت هو وسيلته الوحيدة التى لا يملك سواها للتعبير عن وجوده.. وعن وجود امثاله الذين يعيشون حياة تعسة يعانون فيها فقرا وظلما اجتماعيا يفوق قدرتهم على الاحتمال والتجاوز.. فهم عاجزون عن تلبية ابسط حقوقهم فى الحياة.. لقمة يابسة تسد الرمق.. وهدمه متواضعة تستر البدن وقروش قليلة لاحتياجات اساسية كتعليم اطفال او سداد ايجار مسكن متداع.. لم يطلب «عبده» الا زيادة حصة العيش والوحدة المحلية تتعسف معه فى صرف الخبز المدعم المخصص له ولوالدته فوقف على رصيف مجلس الوزراء.. وسكب على نفسه البنزين وصرخ صرخته الموجعة.. «منكم لله.. قطعتم عيشى.. آكل منين انا وعيالي.. حقى ضاع» ثم اشعل النار فى جسده..
فكانت ثورة (25) يناير التى رفعت شعارات العيش والحرية والعدل والكرامة الانسانية.. انها ثورة الطبقة المتوسطة التى جاءت من اجل التعبير عن احلام بسطاء الوطن الذين يمثلون اغلبيته البائسة فى حياة اكثر عدلا وانسانية.
أما «فاتن حمامة» فقد برعت فى ادعاء شخصية «عزيزة» براعة استولت على جماع مشاعر المتلقين مستوعبة بدرجة فائقة ابعاد الشخصية بمستوياتها النفسية والاجتماعية رغم صعوبتها رغم صعوبتها واختلاف مفرداتها عن كل الشخصيات التى جسدتها من قبل ورغم انه ببعض التأمل نجد ان شخصية «عزيزة» لا تختلف فى اطارها العام.. او فلتقل تعتبر امتدادا لطبيعة اخلاق الشخصيات التى جسدتها من قبل فقد لاقت نجاحا ساحقا فى ردود الافعال وكانت احد الاسباب القوية فى جماهريتها.. وهى شخصية المرأة الضعيفة التى تحيا فى ظل ظروف قاهرة اقوى منها ومن كل قدراتها وحيلها الشخصية السلبية التى لا تؤذى احدا.. ولكن الناس والاقدار هى التى تجور عليها.. وكل ما نفعله كما يرى «يوسف ادريس» نفسه فى رأيه المنشور وقتها بعد عرض الفيلم جماهيريا - ان تتألم امام المتفرجين لتجسد وليس تطارد ظلما حتى تقهره ولا تجرى وراء قضية حتى تكسبها ولكنها تظل طوال الرواية كالعجينة التى تنغرس فيها الاحداث وتعتصرها المواقف وتسحقها الاقدام.. انها تتعذب كفقراء الهنود على مسامير كتاب السيناريو وكتاب الروايات..
لكنها فى «الحرام» رغم التشابه فى ادوارها الاخرى بصفتها ضحية الحرمان وانعدام العدالة الاجتماعية الذى يوقعها فى براثن «حرام».. الا ان القيمة الكبيرة للفيلم التى تم الاعتداء على شرفها فى مقابل «كوز البطاطا».. انما هو الحرام قرية بأكملها مارس كل شخصياتها كل انواع الموبقات والخطايا فى الخفاء.. وظهروا فى العلن اطهارا كالملائكة.. اى ان الازدواجية فى السلوك هى التى تعتبر عنوانا عريضا للحرام عند «يوسف ادريس» فى تلك الرواية.. وفى معظم قصصه القصيرة مثل «بيت من لحم» و«العيب».. و«حادثة شرف».
«فمحجوب» بوسطجى القرية يشك فى زوجته البدينة الشرسة حيث سبق ان قرأ خطابا لها الى رجل فى القاهرة اعطته له امرأة فى القرية ليرسله وشك فى ان الخط خط زوجته.. أما معظم الاهالى فيشكون فى «نبوية» بائعة البيض والتى يرونها امرأة لعوب..
والجميع ينتهزون الفرصة - وكأنهم ينتظرونها - ليسقطوا حرامهم على «عزيزة» من قبل ان يتيقنوا من ذلك.. وبقسوة بادية ليلقوا عن كأهلهم ذلك العبء النفسى الى يجللهم ويوصمهم بالتعامل والتعايش مع الحرام المسكوت عليه.. وغض الطرف خوفا من الفضيحة والاحساس بالمسئولية طالما حل فى الخفاء لا يعلم احد شيئا عنه..
والحقيقة ان فيلم «الحرام» - ورغم كثرة الافلام السينمائية التى قامت ببطولتها سيدة الشاشة (150 فيلما) يبقى درة الدرر فى مشوارها السينمائى والذى تم اختياره على رأس الافلام الـ (18) من افلامها من اجمل ما انتجته السينما المصرية.. مثل «صراع فى الوادي» و«دعاء الكروان» و«امبراطورية ميم» و«اريد حلا».. و«الخيط الرفيع.. و«ارض الاحلام» و«الطريق المسدود».. وتم تكريمها بموجبهم ووضعها أفضل «ممثلة فى احتفال السينما المصرية بمناسبة مرور (100) سنة على تاريخها.. كما فازت بلقب نجمة «القرن» فى الجائزة التى منحتها لها منظمة الكتاب النقاد المصريين عام (2000) لقد كان رحيلها المفاجئ هو صدمة مستهل هذا العام فقد كنا نظن - رغم غيبتها عن الشاشتين - منذ فترة طويلة - ان الشجرة الوارفة ما زالت تعدنا بكنوز مخبوءة وانها حتما سوف تفاجئنا بعطايا مبهرة وثمار مدهشة فوهج النبع الصافى لا ينطفئ.. وزهرات البساتين تشتاق الى زهرات جديدة من نار تألق وابداع.. لكن العزاء كل العزاء فى خلود افلامها.