الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

آخر تداعيات فوضى الفتاوى عند الإرهابيين

آخر تداعيات فوضى الفتاوى عند الإرهابيين
آخر تداعيات فوضى الفتاوى عند الإرهابيين




د.عبد الله النجار

مسلسلات الفتاوى الهزلية مازالت مستمرة ولا يكاد يمر يوم أو بعض يوم حتى نرى ونسمع من تلك الفتاوى ما يثير الحسرة والألم ليس على من يطلقون تلك الفتاوى الغوغائية ولكن على دين الله الخاتم الذى اتخذه بعض السفهاء ألعوبة تثير السخرية والتهكم ممن يستمع لتلك الفتاوى فيشعر فى أعماق نفسه بأن من ينطقون بها سفاء وجهلة، بل ومرضى نفسيين يحتاجون إلى علاج نفسى وعقلى يعيدهم إلى الصواب، ويصلح الخلل الذى انتاب تقديرهم للأمور حتى أصبحوا من فرط ما أصابهم من ضعف الإدراك لا يفرقون بين ما يقال وما لا يقال، ولا يميزون بين دين الله وألاعيب السياسة، فهم مختلون نفسيا ومرضى عقليا، ويتعين عليهم أن يعترفوا بذلك وأن يسلموا أنفسهم لأقرب مصحة نفسية لكن يبدو أن ذلك المطلب لن يروقهم، لأن مريض النفس والعقل يشعر فى قرارة نفسه أنه وحده على صواب، وأن من عداه على خطأ، وما يقوله هو الحق الذى لا يعتريه الباطل، وما يقوله غيره هو الباطل الذى لا يعتريه ذرة من صواب.
ولعل من أهم ما يدل على ذلك ما صدر عن شخص موتور يعيش فى تركيا، واشتهر بمثل تلك الرعونة فيما يقوله بما يسميه «فتوى» وهو جاهل أحمق امتلأ قلبه غلا وحقدا على بلده الذى ولد فيه وارتضع من خيره ولهذا لا تسمع منه إلا التكفير واستحلال الدماء والدعوة إلى قتل من يخالفهم فى الرأي، هذا الموتور الذى يرقص الشيطان على رأسه وأنت تنظر إليه وهو يحملق فى مشاهديه بعينين زائغتين، قال: إن كل الصحفيين والإعلاميين كفرة، وأن دماءهم حلال، ودعا إلى قتلهم واغتيالهم ولم يكن ذلك الكلام الأهوج الداعى إلى القتل والاغتيال هو الأول من نوعه الذى يتلفظ به ذلك الجاهل الأحمق، بل سبقه نزعات من مثله وبحق أناس شرفاء أبرياء حيث أفتى هذا الجاهل بقتلهم دون أن يرعى فى دين الله إلاَّ ولا ذمة، فجاء كلامه بعد ذلك كالحذاء يجىء فى آخر ما يلبس.
والعمل الإعلامى ليس كفرا بل هو عمل شريف يصب فى أقدس غاية دينية، وهى كفالة حق الناس فى المعرفة، هذا الحق الذى نزل بشأنه أول ما نزل من كتاب الله - تعالى - حين قال: «اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الإكرم الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم»، والأمر بالقراءة فى قول الله تعالى: «اقرأ» يقتضى كفالة ما يقرأ من المواد التى تخدم هذا المطلوب الشرعى ومنها - بالقطع - ما يقدم فى وسائل الإعلام من تلك المواد التى تنير العقل وتزوده بعدد لا يحصى من المعارف الحياتية المتجددة التى تساعد السياسى فى تكوين رأى سديد، كما تساعد الفقيه فى إصدار فتوى تنسجم مع واقع الحياة وفقا لما تتحدث عنه وسائل الإعلام فهى تعتبر من ضمن أنواع العلم المطلوب، والقائمون عليها يعملون فى هذا الثغر العظيم ومن ثم يكون رميهم بالكفر، واستحلال دمائهم، بل والتحريض على قتلهم اعتداء على كتيبة إنسانية تعمل فى مجال حفظ العقل البشرى بصد الجهل عنه وامتداده بالمعلومات التى تنيره وتنميه وتزيد من تجاربه وسعة أفقه حتى يستطيع صاحبه أن يستعمل عقله على نحو يفيد نفسه، ويفيد الإنسانية ولا يلحق بها ضرراً يشبه ذلك الضرر الذى انطوى عليه هذا الكلام الأحمق الذى تلفظ به ذلك المجرم الذى أفتى بحل دماء الإعلاميين.
ولو افترضنا أن من بين الإعلاميين من لديه وجهة نظر مخالفة لهذا الذى يراه من أفتى بقتلهم فإن الخلاف فى الرأى لا يجوز أن يفسد للود قضية، وقد اختلف أكابر الفقهاء من قبل، ونتج من اختلافهم تلك الثروة الفقهية والعقلية والفكرية التى تمخضت عن المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها من المذاهب المعلومة والتى لم يتح لها حظ التواصل مثل مذهب الليث بن سعد وغيره من مذاهب كثير من الصحابة والتابعين، ولم يكن ذلك الاختلاف مدعاة لانقلابهم على بعضهم أو تطاولهم على أنفسهم بالتكفير أو السباب والشتائم، بل كان خلافهم راقيا محترما يبحث عن الحقيقة، وإذا ما رآها فى قول غيره، فإنه لا يتردد لحظة فى التمسك به والعدول عما كان يقول به، بل قال الإمام أبوحنيفة عندما قيل له: هل ما تراه هذا من مذهبك هو الصواب الذى لا يعتريه خطأ، قال: وما يدريك لعله خطأ لا يعتريه صواب وأثر عن الإمام الشافعى قوله: رأيى هذا صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب، وقد نص علماء أصول الفقه على أن الرأى الضعيف لا يجواز إهداره أو احتقاره، بل يجب قيده كتابة، والنص عليه صراحة مثله فى ذلك كمثل الرأى القوى عند من يرى قوته، وقالوا: إن القول بضعف رأى لا يلزم منه أن يكون ضعيفا فى ذاته، لاحتمال أن له أدلة أو دليلا يقويه، لكن صاحبه لم يطلع عليه، وقد يقيض الله لهذا الرأى الضعيف من الطلاب أو الباحثين من يجد له دليلا يقويه، أو سندا يرفعه من الضعف إلى القوة، أو من الحكام ليختار العمل به فيقويه اختيار الحاكم له إذا رأى أن فى هذا الرأى مصلحة أو تخفيفا على الناس.
ذلك هو المسلك العلمى الرشيد لمن يختلفون فى الرأى من العلماء والفقهاء، وهو نتاج عادى لنيتهم الصادقة وغايتهم المتجردة النزيهة لأنهم لا يريدون غير الوصول إلى الحق أو الاقتراب من الكمال لأن الوصول إلى الكمال غير مقدور عليه من الناس، وهو لا يكون إلا لله وحده، أما هؤلاء التكفيريون ومنهم ذلك الأهوج الجاهل الذى يطل على الناس كالشيطان اللعين من تركيا، فهو لا يريد الوصول إلى الحق، بل ولا يعرف الحق أصلا، ولذلك فإنه يتخذه مطية للوصول إلى أغراضه الدنيوية المقيتة ومآربه الشخصية الحقيرة، نعم إنه لا يريد برأيه إلا الوصول إلى كرسى الرئاسة، ولهذا فإن من لا يساعده على ذلك يكون عدوا له ويستحق أن يقتل، ألا لعنة الله على الجاهلين.
ومن الفتاوى المارقة الضالة ما تلفظ به أحد أئمة المساجد عن صلاة الغائب زاعما أنها ليست مشروعة، وامتنع عن أدائها على الملك الهمام عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين ملك المملكة العربية السعودية رحمه الله، ولم يكن كلامه هذا نابعا عن علم صحيح أو معرفة سليمة بأمور الدين، لأنه بتلك الفتوى قد منع عبادة مطلوبة للشارع الحكيم سبحانه، وظلم نفسه وأهله والمسلمين أجمعين.
أما أنه قد منع عبادة مطلوبة للشارع، فإن صلاة الغائب أو الصلاة على الغائب لها أركان أولها: النية، وأكرر النية، والنية معناها أن يتوجه المصلى بصلاته لله سبحانه، عملا بقوله - عز من قائل - «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء»، وقوله تعالى: «فأعبد الله مخلصا له  الدين»، ومن هذين القولين الكريمين نظهر أن التوجه بالعبادة إلى الله مطلوب بإخلاص النية فيها له سبحانه، وقد منع ذلك الإمام المخطئ هذا المطلوب الشرعى، ومنع آلاف المصلين أن يتقربوا لربهم بها فكان ظالما صادا عن عبادة الله وإخلاص النية له، وكفاه بذلك إثما وإجراما.
ثم إن جريمته لم تقتصر على ذلك، لأن صلاة الغائب فيها تكبير وفيها دعاء للميت وللمصلى ولأهله، وقد منع الإمام بذلك التكبير لله كما منع الدعاء، وهو من أشرف العبادات، وللقارئ أن يتصور إماما فى مسجد مهمته أن يؤم الناس ويقودهم فى عبادة ربهم وتبصيرهم بالصواب من أمر تلك العبادة، فإذ به يصرفهم عنها - عمدا وجهلا ومكابرة - ليس عن دليل شرعى أو مبرر إنسانى يمكن قبوله، لأن المصلى عليه أفنى عمره فى خدمة دين الله وفى خدمة بيته الحرام، وحتى لو لم يكن كذلك، فإنه قد أفضى إلى ربه فأصبح بجواره، ولا يجوز أن يكون وجوده بجوار ربه مثارا لكل هذا الحقد الجهول الذى تنادى فى صياح وزياط بالمساجد مطالبا بمنع الصلاة عليه، لقد ركبه الهوى وقاده الشيطان إلى هذا الدرب المظلم الذى أفقده الصلاحية للاستمرار فى عمله كإمام فى مسجد وأصبح غير صالح له، ولهذا يتعين إبعاده عن المسجد لأنه قد غلب هواه وشيطانه على دين وهدى شرعه.
وأما أنه قد ظلم نفسه وظلم أهله والمسلمين جميعا، فإن من ضمن الدعاء فى صلاة الغائب أن يدعو لنفسه وللمسلمين بعد التكبيرة الرابعة وذلك حين يقول عن نفسه وعن جميع الناس «اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده» ويكون قد حرم نفسه من الأجر هو وجميع المسلمين، كما امتنع عن الدعاء بما يدفع الفتنة عنهم جميعا وهو منهم، وهذا سفه وحمق، يقدح فى صلاحيته ويدل على حمقه، كما أنه قد ظلم أهله لأن الدعاء للميت يشمل جميع موتى المسلمين وأهله الموتى منهم، ومن ثم يكون قد منع عن أهله هذا الخير، فظلم نفسه وظلم أهله وظلم المسلمين جميعا، كما ظلم ربه من قبل حين صدَّ عن ذكره والتكبير له، والتوجه بنية العبادة إليه، وهذه الموبقات كلها لا تصدر من شخص حصيف عاقل أو أمين مخلص على دينه ومن ولاه الله أمر تعليمهم أمور دينهم وإمامتهم فى الصلاة.
وللقارئ الكريم أن يتساءل عن سر ذلك الحمق، والدافع لذلك الجهل والضلال، إنه الحقد الأعمى الذى حوَّل هؤلاء الحاقدين إلى كتلة صماء لا دين لها ولا خلق، ولا تعرف حقا تلتزم به أو خلقا يقوم سلوكها، إنه الجاه والمنصب، إنهم يضلون الناس فى العلم، ويفتنونهم فى أمور دينهم تنكيلا بهم وعقابا لهم على ذنب لم يرتكبوه وجريمة لم تنسب إليهم، وهى اقصاؤهم عن حكم البلاد والعباد، ووالله إن هذا الإمام الجاهل وقبله ذلك المفتى الماجن الذى افتى بقتل الإعلاميين، قد برهنا على أنهما ومن ينتصرون لهم لا يصلحون لحكم البلاد أو أى شيء، بل لا يصلحون لحكم أنفسهم لأنهم لا خلاق لهما، نسأل الله أن يقينا شر الحقد والحاقدين ومكر الجهل والجاهلين آمين يا رب العالمين.