الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الأتوبيس النهرى لـ«المخدرات» و«العلاقات المشبوهة»

الأتوبيس النهرى لـ«المخدرات» و«العلاقات المشبوهة»
الأتوبيس النهرى لـ«المخدرات» و«العلاقات المشبوهة»




تحقيق - عمر حسن
الأتوبيس النهرى فسحة «الغلابة» ومتعة البسطاء.. داخله يحلو الحديث.. ويسطر الركاب خلاله أجمل الذكريات.. لحظات لن ينساها الكثير منا.. ارتبط دائما عند الفقراء بالمناسبات والأعياد والاحتفالات، لا يكلف رب الأسرة الأموال الطائلة بينما فقط بـ12 جنيها يمكنك الإبحار فى رحلة نيلية إلى القناطر الخيرية بصحبة العائلة.
ناهيك عن أنها تستخدم كوسيلة مواصلات، لا يوجد بها متسولون، ولا تعرف استغلال السائقين، علاوة على أنها بعيدة كل البعد عن الازدحام، أو إشارات المرور، أو الحوادث التى تجنى أرواح الكبار والصغار من وقت لآخر، فضلا عن الراحة النفسية ومنظر النيل الذى يعكس لون السماء.

لكن ورغم تلك الامتيازات إلا أن الوضع الآن انقلب رأسا على عقب، بسبب الإهمال الشديد الذى وصلت إليه الاتوبيسات النهرية، من جانب الدولة تارة ومن قبل المواطنين تارة أخري، لتدنى المستوى الثقافى لدى الزائرين، ولانعدام الوعى فى التعامل معه بالنسبة للركاب.
ظهر الأتوبيس النهرى  فى أوائل الستينيات من القرن الحالى، كان يتبع محافظة القاهرة، التى استخدمته فى نقل السياح الأجانب إلى المناطق السياحية القريبة من النيل فى «مصر القديمة ـ الجيزة ـ برج القاهرة»، فكانت الشركات السياحية تضع الأتوبيس النهرى دائما ضمن برامجها السياحية، لكن فى منتصف السبعينيات انتقلت هذه الأتوبيسات وأصبحت تابعة لهيئة النقل العام وأُدرجت ضمن اختصاصات قطاع النقل النهرى، من وقتها والإهمال أصابها وقاطعها المواطنون.
عدد محطات الأتوبيس النهرى 16 محطة، أشهرها محطات «ماسبيرو أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون ـ الجامعة بجوار كوبرى الجامعة ـ الساحل ـ محطة إمبابة ـ القناطر ـ مصر القديمة»، حيث تغطى تلك المحطات محافظات القاهرة الكبرى «القاهرة ـ الجيزة ـ القليوبية ـ حلوان»، فضلا عن أن عدد الأتوبيسات بداخلها يصل إلى نحو 30 أتوبيسا، يعمل منها 10 فقط، علاوة على أن مواعيد العمل تبدأ من السابعة صباحا حتى منتصف الليل فى الأعياد فقط، وحتى الثامنة مساء خلال الأيام العادية.
يوجد منه نوعان: المكشوف للنزهة والرحلات، ويقطع المسافات الطويلة مثل رحلات القناطر فى شم النسيم أو الأعياد الرسمية والتى تصل سعر التذكرة فيها إلى 12 جنيها، وهناك مسافات أقصر تصل سعر تذكرتها إلى 6 جنيهات، ويتفاوت السعر أحيانا تبعا للمناسبة ومدى إقبال الجمهور، وفى الغالب لا يعمل هذا النوع إلا فى أوقات المناسبات فقط، والثانى المغطى يخصص فى النقل، وتتراوح سعر تذكرته من جنيه إلى ثلاثة على حد أقصى.
حاولنا الإبحار ومعايشة إحدى الرحلات النهرية من خلال تلك الأتوبيسات للوقوف على أبرز المشاكل، ومعرفة نسبة الإقبال عليه من المواطنين، ومدى الحالة الفنية الخاصة به.. وإليكم التفاصيل..
محطة كوبرى الجامعة
كانت المحطة ساكنة بها أتوبيس واحد فى انتظار الركاب، به من المقاعد ما يتجاوز المائة، إلا أنه أقلع من المرسى بنسبة إشغال 40% تقريبا، تلاحظ خلال تلك الرحلة أن فئات الركاب تنوعت ما بين الأسر التى اتخذته للنزهة، والحبيبة للتسامر ومعايشة الذكريات، بالإضافة إلى الأشخاص الفرادى الذين يتخذونه باعتباره وسيلة مواصلات لا أكثر من ذلك.
أقلع الأتوبيس من المرسى برفقة سائق، وشخص يبيع «التسالى» للركاب وسط عوادم سوداء وأصوات مزعجة تصدر عنه، فهذا الصوت الذى يصدر عن محرك الأتوبيس كفيل أن يمنعك من ركوبه مرة أخرى، ورغم كل ذلك ترتسم البسمة على وجوه الأطفال وذويهم.
أثناء الرحلة تحدثنا مع سائق الأتوبيس الذى رفض ذكر اسمه خوفا من بطش المسئولين به كما فعلوا مع زميله من قبل الذى صرح لأحد الصحفيين بأن الأتوبيسات النهرية فى أمس الحاجة إلى التجديد، وتفتقر الصيانة، فما كان جزاءه سوى الإيقاف عن العمل وتحويله للتحقيق.
أبدى السائق استياءه الشديد من الحالة المتدنية التى آلت إليها الأتوبيسات النهرية، منوها إلى أنها أصبحت تؤثر سلبا على البيئة، حيث تتصاعد منها الأدخنة، فضلا عن الأصوات المزعجة التى تصدر منها خلال الرحلة، واصفا إياها بـ«أتوبيسات» متهالكة وحالتها تعبانة.
وأشار السائق إلى أن الصيانة شبه غائبة، ووسائل التأمين تعتبر متواضعة نسبة لعدد الركاب، حيث لا يوجد سوى 14 طوق نجاة من المفترض أنها ستفقد نحو 150 شخصا فى حالة الغرق أو التعرض لأى حادث كان.
رغم سخط السائق عن الحالة الفنية للأتوبيس إلا أنه يجده أفضل بكثير من أى وسيلة برية أخرى، قائلا: «الأتوبيس بيقطع الرحلة دى فى ربع ساعة وبجنيه، فى الوقت اللى لو الواحد ركب فيه تاكسى هيقطع نفس المسافة فى ساعة وبـ10 جنيهات، مضيفا: «الحالة بتبقى مريحة فى الشتا إنما الصيف بتكون شادة لأن الناس بتحب الأتوبيس النهرى وخصوصا العشاق».
وعن دخوله المهنة يقول: «كنت أعمل صيادًا وكانت الحالة ماشية والحمد لله، الحكومة طلبت سائقين وقدمت فى الاختبارات وتطابقت عليا الشروط من ايجادة للسباحة وقدرة على التعامل مع حالات الطوارئ ونجحت وأخدت الرخصة وبقالى سنتين بشتغل هنا وفى ناس أقدم منى بتلاتين سنة وبيقبضوا ملاليم».
وألمح السائق إلى أن حالته المادية ضنك، قائلا: «أول ما اتعينت كنت باخد 203 جنيهات ومرتبى الآن بالمكافآت يصل إلى 1000 جنيه، مش بيأكلونى عيش حاف وباضطر أقلب رزقى من النيل بعد مواعيد الشغل الرسمية، لأتكيف مع الغلاء اللى فى الشارع ووصلنا له مؤخرا».
وأبدى سخطه على هيئة النقل لسماحها للمراكب النيلية الخاصة التى اتخذت من مرسى الأتوبيس النهرى «موقفاً» لها «بلطجة»، متسائلا: كيف تترك الدولة تلك الخارجين عن القانون دون رقيب رغم أنهم لا يمتلكون تراخيص لتلك المراكب النيلية؟ فضلا عن التجاوزات التى تتم بداخلها، والتى تعتبر أفعالا فاضحة.
وأضاف السائق: إن تلك المراكب يحدث بداخلها تجاوزات يندى لها الجبين، قائلا: «فى الأعياد بنشوف بلاوى يا بيه والله.. المخدرات، والدعارة بتبقى عينى عينك، والحكومة بتبقى واقفة على راسهم، يعنى بالعربى المخدرات والدعارة فى حمى الحكومة».
وعن الخدمة التى تقدمها تلك المراكب، وصف إياها السائق بأنها «ضحك» على الناس، فالجولة تتكلف 3 جنيهات ولا تستمر أكثر من 10 دقائق، ولكن عوامل الجذب تكمن فى بنات يستأجرهن صاحب المركب للرقص على الأغانى الشعبية الهابطة، لجلب الشباب المتهافت على الخلاعة ـ على حد وصفه ـ هذا مالا يجده تلك الفئة بالطبع فى الأتوبيس النهري.
وتمنى فى نهاية حديثه لو أن الدولة تولى اهتماما أكبر بقطاع النقل، خاصة الأتوبيسات النهرية وتعمل على صيانة وتجديد الأتوبيسات بشكل دورى لإعادة الحياة له من جديد، علاوة على استغلال حب الناس له، مطالبا برفع أجور العاملين فى ذلك القطاع.. هنا انتهت الرحلة وصولا إلى مرسى محطة «ماسبيرو» الذى كان محاطا من الجانبين بمراكب نيلية ويخوت خاصة لا حصر لها.
محطة الساحل
عند دخول تلك المحطة وجدناها خاوية تماما، بها عدد كبير من الأتوبيسات، ووجدنا «الكلاب» تلهو داخلها بجانب العمال الجالسين يتسامرون ويتناولون «الشاى»، حينها يجول بخاطرك أن تلك المحطة لا يذهب إليها أحد قط، فالأبواب المؤدية للأتوبيس مغلقة والقمامة تحاصرها من جميع الاتجاهات.
وعند سؤال أحد العمال «ميكانيكي» صيانة أتوبيسات: «هى الأتوبيسات مش شغالة ولا إيه؟»، فأجاب: «لا لا كلها شغالة، عايز أعملك رحلة؟»،  كان السؤال يثير الشك حول نية العامل فى الاقلاع فعلا بالأتوبيس، فى الوقت الذى يغطى فيه التراب جميع الأتوبيسات، التى يبلغ عددها نحو 12 أتوبيسا.
حدثنا عامل الصيانة أن تلك الأتوبيسات تخضع لصيانة من حين لآخر بشكل دورى ومنتظم، منوها إلى أن وسائل الأمان بداخلها تصل لـ100%، مؤكدا أنه لا مجال للغرق، علاوة على أن حالتهم ممتازة على عكس ما يدعى بعض المغرضين ـ على حد قوله ـ الذين يحاولون تشويه الصورة فقط.
الغريب هنا أن ذلك السائق كان يرى الحياة «وردية» داخل محطات الأتوبيس النهرى بعكس السائق الأول، لدرجة أنه أوضح أن مرتبه يصل إلى 2000 جنيه بعد مرور 30 سنة من العمل، لافتا إلى أنه بدأ بمرتب 12 جنيها سنة 1980، وكان يعمل سائق تاكسى بعد الظهر بحثا عن سد العجز المالى الذى يعانى منه وقتها، إلى أن جاءت تلك الوظيفة وانتشلته من الضنك.
اختتم بقوله: «الشباب بيحب الأتوبيس النهرى والحكومة عايزة تدلعهم، خلى الشباب ينبسط ومصر بخير ياعمنا»، الأمر الذى دعانى أستشعر بأنه ليس سائق وإنما مسئول حكومى يتحدث أمام كاميرات التليفزيون رغم كونه «أميا» لا يقرأ ولا يكتب، إلا أنه أبدى براعة فى الحديث وتفاؤلا كبيرًا.. وانتهت حلقة النقاش مع ذلك العامل الفصيح.
محطة المظلات
تلك المحطة التى رأيناها مغلقة بالضبة والمفتاح، وبالسؤال عن سبب الغلق قال أحد الحضور «بتفتح بالليل عشان دى بتاعت فسح بس»، وعند محاولة تدوين رأى بعض الأشخاص قال أحدهم: «مفيش اهتمام بالنظافة، والعوادم بتخرج منها وتتطاير على الركاب، بالاضافة أنه لا يتحرك إلا بعد اكتمال العدد، ما يتطلب الانتظار فترة طويلة قد تصل إلى نصف ساعة أحيانا نظرًا لقلة مستخدميه، ناهيك عن ارتفاع صوت «الموتور» ما يسبب إزعاجًا للركاب.
وأشاد آخر بالقرارات التى اتخذتها الحكومة مؤخرا، والتى تضمنت جلب أتوبيسات جديدة لترتفع بذلك عدد المحطات من 16 محطة حاليًا إلى 28 محطة مثلما صرح عاطر حنورة، رئيس وحدة الشراكة مع القطاع الخاص بوزارة المالية بأنه تم الاستقرار على 6 تحالفات عالمية قدمت عطاءاتها لتطبيق المشروع ويتم فتح المظاريف حاليا لتحديد أيها سوف تفوز بعطاء الشراكة، ويتضمن المشروع شراء أسطول جديد للنقل النهرى وتمويله وتشغيله بقوة 30 وحدة، مع تطوير 16 مرسى حاليًا وإضافة نحو 12 أخرى باستثمارات 470 مليون جنيه.
من جانبه قال الدكتور حمدى برغوث، خبير النقل النهري، إنها خطوة موفقة من جانب الحكومة، لكن التغيير يكمن فى السياسات أكثر منه فى إنفاق المال، فالأتوبيس النهرى حينما بدأ كان بحالة جيدة ثم تدهور بسبب الإهمال فى الصيانة وسوء الاستخدام أيضا من جانب الركاب.
وتابع البرغوثى: حينما نتحدث عن الأتوبيس النهرى فنحن نتحدث عن أمن وسيلة مواصلات يمكن أن يستخدمها الراكب، فلم نسمع يوما عن حادث غرق لأحد الأتوبيسات النهرية، بالاضافة إلى زهد سعره مقارنة بوسائل نقل أخرى، فضلا عن كونه غير ملوث للبيئة - اذا اُستخدم الاستخدام الصحيح - علاوة على أنه يرحم المواطنين من زحام المواصلات والتكدس المرورى المهدر للوقت والجهد.
25 يناير
وأشار خبير النقل النهرى إلى أن مصر تخسر سنويا عشرات الملايين نتيجة للساعات التى يهدرها زحام المواصلات يوميا، مشيرا إلى أن الدول المتقدمة تتخذ من الأتوبيس النهرى وسيلة نقل من الدرجة الأولى وتوليه عناية خاصة، مطالبا بإحياء مشروع الأتوبيس النهرى الفاخر المطروح قبل الثورة، الذى توقف بسبب الأحداث السياسية التى أعقبت ثورة 25 يناير.
وأوضح البرغوثى أن ذلك المشروع ضخم يتم تنفيذه بتمويل القطاع الخاص تحت إشراف حكومي، وتكمن معالم المشروع فى إقامة خط للأتوبيس النهرى مواز لخط مترو «حلوان - المرج»، بحيث يقطع الراكب نفس المسافة فى ساعتين تقريبا بعيدا عن إزعاج السيارات والعوادم المتصاعدة فى الشوارع.
واستكمل: يتم تنفيذ هذا المشروع من خلال الدفع بالاتوبيس الفاخر الذى يسير بسرعة 40كم/ساعة بدلا من الحالى الذى يسير بسرعة 10كم/ ساعة، ومزود بمقاعد مريحة بدلا من تلك المقاعد البلاستيكية المرهقة للظهر، بالاضافة إلى دعمه بخدمة «الواى فاى»، فضلا عن إقامة مطاعم صغيرة أعلاه ما يعطى له شكلاً جمالياً مميزًا.
ونوه خبير النقل النهرى إلى أن الأتوبيس الفاخر ينقسم إلى 3 درجات، الأولى يصل سعر تذكرتها 5 جنيهات، والثانية 3 جنيهات، والأخيرة جنيهين، بحيث يلائم جميع فئات المجتمع من الغنى إلى الفقير، منوها إلى أنه سيدفع كثيرًا من مالكى السيارات إلى ترك سياراتهم والاستمتاع برحلة نيلية صباحية فى الهواء الطلق دون خجل.
وطالب البرغوثى الدولة بإعادة النظر بعين الاعتبار لهذا المشروع الذى سوف يساهم فى القضاء على نسبة كبيرة من المشكلة المرورية، بل وسيدر أرباحًا مالية جيدة على الدولة، مؤكدا أن المشروع مطروح ومكتمل المعالم ولا ينقصه سوى اختيار شركة متخصصة للتنفيذ وما أكثرها.