الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

القرآن يَتَحَـدَّى الإنس والجن




نحن بشهر اختصه الله بنزول القرآن، و القرآن معجزة خالدة ومتجددة،وفى الآونة الأخيرة بدأت بعض القنوات الفضائية تتمايع لُغَوِيًا وموضُوعيًا للنيل من الكتاب المجيد، وبعضها وقف فى خندق مبارزة الإسلام، وجميعها تقف خلفها رءوس أموال تدعُم ذلك الهجوم.
 
وكعادة الذئب فى أنه لا يأكل من الغنم إلا القاصية، فإن تلك الفضائيات توجه جلَّ جهدها لإثناء عوام المسلمين عن التمسك بدينهم، وهم لا يوجهون إعلامهم المضاد للإسلام لرجال العلم الديني، ولا للمؤسسات الإسلامية النشطة فى مجال الدعوة؛ لأن لديها من الفقه ما يمكنها أن تُردى مثل تلك المحاولات إلى هاوية سحيقة، لكنهم يخاطبون القاعدة العريضة من أهل الإسلام الذين لا يقرءون، وإن قرءوا لا يتدبرون، فهؤلاء يسهل التلاعب بعقيدتهم، ونهش عقولهم، لأنهم مسلمون بالميراث وببعض فتات من خُطب الجمعة.
 
لاحظنا عدم وجود أدوات لدى المسلم العادى تُمَكِّنه من الدفاع عن دينه، فلأننا نقرأ القرآن بلا تعقُل لِمَا نقرؤه....إن قرأناه، ونقرؤه لمجرد القراءة بغية الحصول على ثواب القراءة بلا تنفيذ لتعاليمه، لذلك ترانا مهزومين لأننا فقدنا السلاح يوم تخلينا عن تلاوة القرآن بتدبر، وترانا نقول إن القرآن هو المعجزة التى أُنزلت على رسول الله دون أن نعرف أين الإعجاز فيه، وبعضنا يتصوّر انحصار إعجاز القرآن فى نظمه اللغوى دون أن يدرك بنفسه ذلك الإعجاز الذى يقول به، وترانا وقد تركنا أمر الله بالتدبر فى الأكوان والخلائق، وهكذا أصبح نهجنا...
 
 ويوم أصبح شُغلنا الشاغل الحصول على لقمة العيش بعيدًا عن تعاليم العقيدة الإسلامية دولاً وأفرادًا، ومع توالى العهود على ذلك النهج، برزنا مسلمين وقد أصابنا مرض الهشاشة فى العقيدة، وأَعلَمُ جيدًا أن مرض الهشاشة فى العقيدة قد لا يهتز له أحد قدر ما يهتزون لمرض هشاشة العظام مثلا، لأن عنايتنا برعاية الأجسام هى الأَجَلُّ فى أفكارنا، فلم نرع النفوس قدر رعايتنا للأجسام، فكان ما كان من أمر الهشاشة، ومن خلال تلك الهشاشة يستطيع أعداء الإسلام النيل من المسلمين، بل ونصاب بعدم التوفيق وتعثر الهداية لمصالحنا.
 
وقد لا يعلم كثير من أهل الإسلام أن الله تحدى الإنس والجن بالقرآن، نصوصًا، وعلومًا، وأفعالاً، وأنه سبق العلم وسبق الإنس والجن وأنه لا تنقضى عجائبه، لكن الكافرين الخارجين استكبروا عن الحق، والتفوا حول آيات التحدي، وراحوا يطعنون القرآن من الخلف حين عجزوا عن بلوغ القدرة على إجابة التحديات القرآنية.
لذلك فقد عَمَدْتُ إلى تلك السطور أضع فى يد المسلم سلاحًا، يستطيع به الدفاع عن كتابه ودينه ونبيه، ويستطيع به التحدى بعلم وبصيرة والوقوف فى وجه شراذم أعداء الإسلام، ويُمكنُه من خلال ذلك السلاح أن يفخر بدينه، وأن يعلم أن القرآن معجزة كل العصور.
ولا زالت العناصر التى وجهها القرآن لمنازلة أعدائه كما هى منذ أن نزلت من السماء إلى الأرض حتى اليوم، ولم يستطيعوا حيالها شيئا، وتراهم يَتَفَلّتون من التحدى بصفصفات من القول والتَّلون، بينما تجد المسلم لا يستخدم تلك التحديات فى الترويج لدين الإسلام، وتراه يدافع عن دينه دفاع العجزة؛ ويمكننا أن نتناول عناصر التحدى فيما يلي:ـ
 
أولا: التحدى بنصوص من القرآن
 
فلقد تحدى القرآن أعداءه من الإنس والجن أن يأتوا بقرآن مثله، فقال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ }الطور34؛ ولقد أُنزلت هذه الآية فى مكة إبان مهد الدعوة، ومع هذا لم يستطيعوا من زمنها أن يأتوا بقرآن مثله.
ولقد خفف الله التحدي، فبدلا من التحدى بأن يأتوا بمثل كل ما نزل من القرآن، فقد خففها بالآيات 13&14 من سورة هود، فقال جل فى علاه: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{13} فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ{14}؛ وكان هذا التحدى فى مكة أيضا ولا يزال قائما إلى يومنا هذا.
 ثم كرر الله جل جلاله التحدى للمرة الثالثة ـ ولكن بعد تخفيفه مرة ثانية ـ ولا يزال قائما، وكان ذلك بمكة أيضًا، حيث قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }يونس38؛ فبعد أن تحداهم فى المرة الأولى أن يأتوا بحديث مثله، أى كلما أنزلت سورة يفتح لهم القرآن الباب كى يأتوا بمثلها، فلما عجزوا خفف الله التحدى فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله، فلما لم يستطيعوا خففها الله لتكون سورة واحدة فقط، ومع هذا لم يفعلوا، لكنهم لا يزالون على عنادهم وإصرارهم وقد سيطر عليهم إبليس فمنع روافد التعقل أن تصب فى مِخَاِخِهم.
 
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة، عرض الله التحدى المُخَفَّف مرة أُخرى، وهو أن يأتى المعاندون بسورة واحدة مثل القرآن، بل طلب منهم أن يأتوا بمحكمين من البشر ليحكموا بين سور القرآن وسورتهم المفتراة!، لكنهم رغم كل هذا لم يفعلوا، وفى ذلك يقول تعالى: { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ{24} 23&24البقرة؛ وتدبر ـ رحمك الله ـ كيف حوى الله هذا التحدى تحديًا آخر وهو قوله { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ }، لقد كانت لهم فرصة عظمى أن يفعلوا، وأن يثبتوا خطأ القرآن، فحتى مجرد الفعل لم تستطع همتهم الصعود إليه، هذا فضلا عن أنه فى التحدى بسورة يونس طلب منهم سورة {مثله}، أما التحدى بسورة البقرة فطلب منهم سورة {من مثله} أى بأى لغة كانت وبأى شكل كان، فكان التخفيف دوما، وكان ولا يزال عجزهم مستمرًا.
وبعد أن ثبت للإنس والجن عجزهم عن أن يأتوا حتى بمجرد سورة واحدة مكونة من عشر كلمات فقط، مثل سورة الكوثر التى هى أقصر سورة بالقرآن، فقد صرح الله بالتصريح الأخير الذى يؤكد عجز البشر وإعجاز القرآن، فقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }الإسراء88.
وسور القرآن غير آيات الأحكام التى هى بأم الكتاب، والتى تحوى التشريعات، من حلال وحرام، وفرائض، ومواعظ، وهى داخل دفتى المصحف، وتحوى سور القرآن المطلوب التحدى به الكونيات، والحقائق العلمية المكونة للأشياء والكون، والخلق، والموت، والحياة، وقصص السابقين،...وغير ذلك من الثوابت الحتمية المطلقة والواقعية بالحياة حاضرا ومستقبلا مع التذكير بما كان من تاريخ الأمم السابقة وتاريخ الأرض والسماوات.
 وتتميز آيات القرآن بكونها تستمر فى إفراز مفعولها مع الأيام، فضلا عن العصر الذى نعيش فيه، فقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }النحل8؛ فهمها من قرأها من العرب بالقرن السابع الميلادى {حين نزل القرآن}، ويفهمها النَّاس حاليا، وسيفهمها النَّاس بعدنا، لكن لكل منهم مُدركاته فى فهمها، والجميع {البدو، وأهل هذا الزَّمان، والأجيال بعدنا} يعلمون أن ذلك القول حق، هذا فضلا عن الاختصار الشديد، مع وضوح البيان...وهكذا، لذلك فإن القرآن من المتشابه، لكنه يحوى الحقائق المطلقة لكل ما فى الكون، أضف إلى ذلك التوازن الرقمى العجيب فيه، والإعجاز الرقمى القرآنى هو العلاقات الرقمية بين حروف القرآن وكلماته وآياته وسوره، وهو تحدٍ آخر، سنذكره فى موضعه بهذا المبحث.
وتكمن عظمة التحدى فى أن المعلومات العلمية والكونية التى وردت بالقرآن، وردت به فى القرن السابع الميلادي، حيث لم يكن هناك بحث علمى ولا تقدم حضاري، ثم توالت تلك الآيات العلمية والكونية بالظهور تترى، لتؤكد للعالمين حقيقة الوعود الإلهية، حيث قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }فصلت53؛ وهو إعجاز فوق الإعجاز، وقوله تعالى عن أنه ـ سبحانه ـ هو الذى يسمح بتلك الاكتشافات والمخترعات أن تظهر على أيدى مكتشفيها، فقال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }الحجر21؛ فذلكم إعجاز تم البرهان عليه، بل إنه يتم كل يوم، ونحن عنه غافلون ومبتعدون حتى عن أخبار العلم والعلماء. 
ثانيا: التحدى بالأفعال
 
فى معرض إثبات العلم والمقدرة وصحة القرآن وحقيقة صدق رسولية محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الله جل جلاله الذى امتن على عباده بالحياة قد تحدى النَّاس جميعا مؤمنيهم وكافريهم أن يخلقوا أحد أحقر المخلوقات وهو الذبابة، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ{73} مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{74}الحج. وتراهم وهم يفخرون بما وصلوا إليه من العلم، وبينهم تلك الآية تسعى لتُثْبِت عجزهم اليومي، ولتُثْبِت أن القرآن من لدن حكيم خبير بعباده، وتُثْبِت نُبُوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن قل فى الكُفر وقُلُوب مطموسة ما تشاء.
وثمة تحدٍ وإعجازٌ آخر يبُثُه الله للبشر، هل يستطيع أحد أن يوقف خُرُوج الروح؟؟، هل يمكن إيقاف الموت؟؟، هذه نفسك أنت التى بين جنبيك لا تستطيع أن توقف خروجها فى موعدها المحتوم، إنها مُبرمجة مُسبقا من لدن الخالق المُحيى المُميت الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى، وفى ذلك يقول تعالى فى الآيات من 83 ـ 87 من سورة الواقعة: { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ{83} وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ{84} وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ{85} فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ{86} تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{87}؛ فهل استطاع أحد أن يعيد النفس حال خروجها؟؟.
وتحد آخر عن الموت يُبرزه الله من خلال عدم استطاعة أحد أن يدفع الموت عن نفسه، بل وتحدى فيه صحابة رسول الله من المسلمين، ولا زال العلم والعلماء عاجزين، لم يتقدموا خطوة فى هذا الاتجاه، وفى ذلك يقول تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }آل عمران168؛ كما تحدى القرآن النَّاس أنهم لن يستطيعوا الفرار من الموت، فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ .... }النساء78؛ لقد أعلن العلماء هزيمتهم نهائيا فى هذا الصدد، فقالوا بأن كل خلية حية مبرمجة مسبقا وتحمل برنامج حياتها ووقت فنائها.
 
ولقد تضمن التَّحدى طلبًا من الله للناس التنازل ـ ولو بالتمنى عن الحياة، من منا لا يُحب أن يحيا؟، إن الأمر يحتاج لصدق عزيمة تمنى الموت، وهو أمر يمكنك أن تُصارح به نفسك، أتتمنَّى الموت حقًّا؟، وفى ذلك يتحدَّى الله اليهود، فيقول تعالى فى سورة البقرة لمن يشيعون أنهم أهل الفلاح فى الآخرة: { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{94} وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ{95}، ويعلن الله التحدى للمرة الثانية، بل يُعلمهم بخبيئة نفوسهم، فيقول ـ تعالى ـ فى سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{6} وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ{7}، فهم دومًا يفرٌُّون من الموت ويُحبُّون الحياة، لكن الموت هو النهاية المحتومة لكل حي، مهما طال أجله واستطال، فمن استطاع أن يفر إلى الأبد، فليرنا قدرته.
 
 إن القرآن يُقدِّم وجبة غير مسبوقة من التحديات، لم تشملها أى رسالة أخرى سابقة، إنه يقدِّم مساحة علمية جبَّارة تَخِرُّ لها الجبال ساجدة ومُذعنة بأن للكون خالقًا واحدًا جبارًا متكبرًا عن حق، ولا يمكن استباقه.
 
ولقد تحدَّى الله الزُرَّاع أن يُنقذوا زروعهم من هلاك على يد إعصار أو بركان أو صقيع، فقال ـ تعالى ـ فى سورة الواقعة الآيات من 63 ـ67: { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ{63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ{64} لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ{65} إِنَّا لَمُغْرَمُونَ{66} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ{67} ؛ فهل تمكن أحد الزراع من الصمود أمام من بيده مقاليد الصيف والشتاء وتقلباتهما المناخية؟، هل تمكن زارع أن يقسم أنه سيحصد أو يجنى محصولاً من أرضه؟، وإذا حصد كم سيحصد؟...أبدا لا أحد يعلم...لأن الله هو الزَّارع الحقيقي، وهو مانح الحياة لكل المخلوقات، ويعطى كل مخلوق وفق قانون حدده سلفا فى كتاب الرزق.
وتحدى الله النَّاس أن يخلقوا الماء اللازم للحياة، أو حتى أن يُنزلوه من السُّحُب التى تحمله، فقال تعالى فى سورة الواقعة بالآيات من 68 ـ 70: { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ{68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ{69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ{70}؛ ومن الذى جعله عذبا فُراتا ءإله مع الله، وهل حوى كتاب آخر من الرسالات السماوية مثل هذه التأملات فى الخلائق والمخلوقات؟، وأين أصحاب العداوة للقرآن من تلك التحديات؟.
ومن الذى أنشأ شجرة النار التى يستدفئ بها الذين أصابهم زمهرير البرد، والتى يستسيغ بها النَّاس طعامهم بعد أن ينضج على حرِّها، والتى تُسَيِّر القطارات والطائرات، لقد قال سبحانه وتعالى فى سورة الواقعة بالآيات من 71ـ 73 : { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ{71} أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ{72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ{73}؛ أفأنشأ أحد شجرة النار؟، أم هى منحة ممن خلق السماوات والأرض جل جلاله؟؟.
 
لذلك لا تعجب حين يقول الله فى إثر ذلك: { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ{75} وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ{76} إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ{77} فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ{78} لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ{79} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{80}؛ فهو كتاب يستحيل المِرَاءَ فيه.
وعودة مرة أخرى لجولة من جولات التحدى المطروحة على الساحة، لكنها هذه المرة تُنذر بالخطر والهزيمة لمن يحاول، وهى إحدى حلقات عروض النزال دون رد من جبهة المعارضة للقرآن، فيقول تعالى بالآية 33 وما بعدها من سورة الرحمن: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ{33} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{34} يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ{35} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{36} ؛ فأين المناوئون لكتاب الله من كل تلك التحديات؟، وهل يحق لهم تجاوزها والخوض فى القرآن بالذَّم والنقض دون أن ينزلوا ساحة التحدي؟، إنى أرى أن المسلمين هم سبب تصرف الكافرين بتجاوز التحدى والالتفاف لمعاداة القرآن خارج أُطُر التحدي، وذلك بجهلهم وجود آيات التحدى أو خروجها من وعيهم.
 ومن ذا الذى كان يعلم أن داخل أقطار السماوات والأرض شواظًا من نار ونحاس؟، إنهم لم يعلموا ذلك إلا بعد أن صعدت أقمارهم الصناعية إلى إحدى ضواحى الكرة الأرضية {كوكب القمر}، وهم لا يزالون يحاولون الطيران إلى أقطار السماوات دون جدوى، فمن أدرى محمدًا صلى الله عليه وسلم بتلك الظواهر التى بالسماء؟.
 
ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }فاطر41؛ إنه تحد من نوع جديد، هل اجتمع مجلس الأمن الدولي، وقرر أنه اكتشف أن أحدًا غير الله هو الممسك بتلابيب السماوات والأرض حتى لا يزولا؟، وهل ـ مع اعترافهم ـ تطوع أحد وصرّح بمقدرته فى أن يقوم مقام الله بتلك المهمة؟، ومن الذى أعلم محمدًا بأن هناك وقتًا محتومًا لزوال الكون؟.
إن الحقيقة التى يجب على كل إنسان لا يدين بدين الإسلام ألا ينكرها تكمن فى ما إذا كان محمد صلى الله عليه وسلم ليس بنبى مرسل فأنَّى له تلك العلوم التى اكتُشفت بعده بأكثر من ألف سنة، وإن لم يكن نبيًا فكيف استطاع أن يتحدى البشر جميعًا دهورًا وأحقابًا دون أن ينتصر أحد عليه؟، إن كتاب الله زاخر بتحديات أخرى غير ما ذكرت، لكنا نحن الذين تركنا أنفسنا نهبا لثقافات أخرى واستبدلناها بديننا، دون أن نعطى أنفسنا فرصة العلم الحقيقى بدين الإسلام ودستوره ونبيه صلى الله عليه وسلم.
 
ثالثا: التحدى بالعرض العلمى والتَّقَـنى
قبل المضى نحو تفصيل هذا العنصر فإنه من الأجدر أن أُذكِّر القارئ مرة أخرى بأن القرآن نزل بالقرن السابع الميلادي، واستحضار ذلك الأمر فى ذهن القارئ من الأهمية بمكان للوقوف على مدى الإعجاز الذى سأسرد خلاصته فيما يلي:ـ
 
 يقول تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }النازعات30؛ فمن كان على عهد محمد يعلم بأن الأرض بيضاوية الشكل؟، لا أحد !!، وحين يقول تعالى{وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }الحج27؛ فكلمة {عميق} الواردة بالآية السابقة تدل على بيضاوية الأرض، لأنها إن كانت مسطحة لقال تعالى: {من كل فج بعيد} وما كان قال: {من كل فج عميق}، فهل كان محمد يعلم بكروية الأرض وانبعاجها؟، ومن فى زمانه كان يعلم هذا؟، وكيف يكون كتابه مدونًا به ذلك الأمر منذ أكثر من 1430 فقط ألف وأربعمائة وثلاثين عاما، ألا يعقل أهل الملل أن هذه علوم الله سطَّرَهَا فى كتاب وأرسل بها نبيا موحى إليه منه جل شأنه؟.
وقوله ـ تعالى ـ عن شكل الأرض قبل أن يعلم النَّاس شكلها، فَذَكَر أنها كالبيضة، وذلك من قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }النازعات30؛ فهل كان يعلم أحد بالقرن السابع الميلادى بأن الله دحا الأرض فهى كالبيضة؟؟، فهل بعد أن نعلم أنها كذلك من خلال الأقمار الصناعية التى أُطلقت بالقرن العشرين، أيكون القرآن من لدن محمد؟؟، وهل يكون محمد بلا معجزة؟؟.
 
وهنا لا بد لنا من تسليط الضوء على أمر مهم، وهو قول الله تعالى فى الآيات التالية: {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا }الشمس6؛ وقوله تعالى: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ }الغاشية20؛ وقوله تعالى: {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً..} طه؛ وقوله تعالى: {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} البقرة؛ وقوله جل جلاله : {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} الحجر؛ وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً }نوح19؛ وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً }النبأ6، فقد يعترض أحد ما بأن المعانى المستفادة من هذه الآيات الأخيرة لا تدل على معنى الكروية وبأن هناك تعارضًا فى آيات القرآن.
 إن هذه المعانى لا تناقض دعوى أن الأرض كروية، بل إنها تشير بوضوح جلى إلى ثبوتها، فقد نص أئمة التفسير على أنه لا منافاة بين الآيات آنفة الذكر وما هو ثابت عن كروية الأرض، قال الإمام فخر الدين الرازى عن قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ .. }الرعد3؛ الأرض جسم عظيم، والكرة إذا كانت فى غاية الكبر، أصبحت وكأن كل قطعة منها تشاهد كالسطح، وقال فى تفسير قوله تعالى: {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً....}طه53؛ المراد من كون الأرض مهداً أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع.
 
وذكر تفسير البيضاوى فى قوله تعالى: {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} البقرة 22؛ أى مهيّأة لأن يقعدوا ويناموا عليها، كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعى أن تكون مسطحة، لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يمنع من الافتراش عليها، لأن كل قطعة من الأرض ممدودة على حدتها، وإنما التكوير لجملة الأرض.
 
         ولقد سبقت الرحلات البحرية التى قام بها “كولومبوس” و”ماجلان” بين عام {1519 م} {1521م} صور الأقمار الاصطناعية فى تحديد كروية الأرض،وأظهرت الصـور التى التقطتها تلك الأقمار منذ عام {1957 م} أن الأرض شبه كروية، ومفلطحة عند القطبين ويؤدى دوران الكرة الأرضية حول مركزها إلى تعاقب الليل والنهار عليها.