الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

المكفرون والظلاميون فى مزابل التاريخ

المكفرون والظلاميون فى مزابل التاريخ
المكفرون والظلاميون فى مزابل التاريخ




كتب: عاطف بشاى

ما يفعله «التتار الجدد» من الداعشيين فى العراق بذبح الكتب كما يذبحون البشر وقتل التماثيل بغية محو تراث وتاريخ وحضارة الشعوب.. حيث فجروا مكتبة الموصل المركزية وحرقوا محتوياتها التى تضم عشرات الآلاف من الكتب والمخطوطات أمام جموع الناس فى تدمير منهجى يعكس كراهية التيارات الإرهابية للحضارات الإنسانية ومعاداتهم لفكرة الجمال وفلسفتها التى تمثل أصل الفنون والغرض من وجودها.. ما يفعلونه من حرق وتدمير هو امتداد يذكرنا بالعمل الإجرامى البشع.. حينما حرقوا ودمروا المكتبة العظيمة فى بغداد.. والتى كانت من أعظم المكتبات على وجه الأرض فى ذلك الزمن.. حيث تحتوى على عصارة فكر المسلمين فى أكثر من (600) عام.. لقد حملوا الكتب الثمنية وألقوا بها جميعاً فى نهر دجلة.. وتخلصوا من شر القراءة لينعموا بالجهل والدمامة والهمجية..
إن المكفرين والظلاميين يكرهون الفنون والآداب والثقافة.. كما يكرهون المرأة.. وهواء البحر.. وبياض الياسمين وعناوين العصافير.. وقصائد العشق.. وشواطئ الحرية.. فضيقوا علينا الأوطان حتى تصير مدناً من ملح وليس أرضاً من بشر.. أتوا يحملون التوكيلات الإلهية لفرض فتاواهم المسمومة وتحريماتهم المفزعة.. واحتكروا كتابة التاريخ لتصبح سطوره دجلاً وخرافة وشراً.. وغيروا المناهج وعلوم الحضارات ليدونوا أسماءهم فى قوائم المبشرين بدخول الجنة.. تحت ستار زائف وادعاء كاذب وفرية شوهاء تربط دينا سمحا باستباحة القتل والدماء..
منذ أكثر من عشر سنوات وهؤلاء الإرهابيون الذين يشيعون ثقافة التحريم والتجريم والمصادرة قد أثروا تأثيراً خطيراً فى العامة الذين اعتبروا الخزعبلات أوامر ونواهى دينية.. والخرافات مسلمات فقهية لا تقبل المناقشة والمراجعة.. مما دفع سيدة ملتاثة منذ فترة إلى أن تقفز سور فيلا متحف المثال «حسن حشمت» وتحطم أحد التماثيل الموجودة فى حديقة الفيلا باعتبار أنه صنم يعبده الكفار.
وفى ظل تنامى التيارات السلفية والوهابية بعد وصول الإخوان إلى الحكم وتصاعد نشاط التكفيريين الذين وصفوا الحضارة الفرعونية بالعفن واعتبروا الآلات الموسيقية غير جائزة شرعاً.. والموسيقى حرام.. مطالبين بإلغاء النشيد الوطنى وتحية العلم لمخالفتهما الشريعة الإسلامية لكونها بدعة.. والمحاولات المتكررة لإلغاء الحفلات الموسيقية الغنائية.. وبروفات العروض المسرحية وتغطية صدور النساء فى لوحات الفنان «عبد الهادى الجزار»..
فى ظل هذا الهوس واللوثة العقلية فإنى على عكس الكثيرين لم أندهش حينما طالب الشيخ الطالبانى «مرجان الجوهرى» بتحطيم الأهرامات وتمثال «أبو الهول» باعتبارهما أوثاناً تعبد حتى الآن أسوة بما حدث فى تماثيل «بوذا» على يد «طالبان» بدعوى أن الأصنام لا يجب وجودها فى أرض الإسلام.. مثلما دمر إرهابيون متحف «ملوى» فى صعيد مصر كرد فعل لثورة المصريين ضد حكم الإخوان..
بل إن الذى أدهشنى كل الدهشة – وقتها – هو استضافة مثل تلك الشخصيات ومناقشتها فى البرامج التليفزيونية بالفضائيات بدلاً من الدعوة إلى محاكمتهم بتهمة التحريض والسعى إلى تخريب الآثار والتراث والفنون والعدوان على الحضارة والثقافة والتاريخ..
وفى أثناء وصول الإخوان إلى الحكم.. بدأوا فى قتل التماثيل فأطاحوا برأس تمثال «طه حسين» فى مسقط رأسه فى «المنيا».. ونقبوا تمثال «أم كلثوم» فى المنصورة.. وداهم زوار الفجر سوق كتب «النبى دانيال» وسط الإسكندرية مدعمين بقوات الأمن المتمثلة فى شرطة المرافق بالإضافة لفرق الحماية المدنية (الإسعاف والمطافى) مدججين بالمعدات الثقيلة لإزالة أكشاك الكتب.. وأسفر الاعتداء الغاشم عن ظفر مؤزر بتحطيم تلك الأكشاك ومصرع مئات الكتب فى شتى أنواع المعرفة.. فتناثرت أشلاؤها على الأرصفة.. لقد أتوا بهذا الجيش العرمرم واحتشدوا بذلك العتاد الضخم متسللين فى الفجر خوفاً من عدوهم اللدود.. الكتب التى تبدو وديعة مسالمة لا تنوى شراً ولا تضمر كراهية.. لكنها فى غضبتها ضد قوى التخلف والجهل تبقى أقوى وأشد بأساً وأعظم هولاً..
إن هجومهم البربرى هذا يعكس جزعاً دفيناً من الثقافة والمثقفين.. من الأوراق التى تفضح الاستبداد.. والسطور التى تندد بالفاشيين وصفحات التاريخ التى تنتصر للتنوير وللحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. وتمهد الطريق للنهضة والتنمية.. الرقى والتقدم.. وتدافع عن حرية الإبداع والتفكير والاعتقاد.. وتقديس العقل.. واحترام المرأة.. والاحتفاء بالفنون.. وهى التى صنعت حضارات انسانية عظيمة أضاءت الوجود بنور العلم والفكر والمعرفة والفن.. وقاومت تيارات أصولية ظلامية تعود بالبشرية إلى عصور محاكم التفتيش وثقافة الهكسوس.. وزمن العصور الوسطى وعهود الجاهلية.. والتصحر.. يذكرنا ذلك برواية «برادييرى» الكاتب الأمريكى (451 فهرنهيت) الرمزية التى افترضت أن حكومة استبدادية حرقت الكتب وأمرت رجال الإطفاء فى مفارقة تراجيدية صارخة أن يتحولوا إلى رجال إشعال حرائق الكتب تحت درجة (451 فهرنهيت).. لكن قائد الفرقة «مونتاج.. أخفى كتاباً من الكتب المصادرة وقرأه فاكتشف أنه يعيش حياة جاهلية تخلو من المعرفة الإنسانية  فقرر أن يضحى بكل شىء ويتحول إلى النقيض يقرأ ليتثقف ويتعلم ويمارس إنسانيته المفتقدة.. فأعداء الحرية والحياة لا يقرأون.. ألم يعترف بذلك السماك الذى انقض محاولاً قتل أديبنا الكبير «نجيب محفوظ».. لقد صدرت له أوامر الفاشيين فذهب لتنفيذها تحت وطأة غسيل الأدمغة.. لقد أخافتهم روايات صاحب «نوبل».. لأنها تعلم الناس التفكير وحرية التعبير وحرية الاعتقاد..
لكن لأن الإبداع لا يموت وحرية الرأى والفكر لا يمكن لأعداء العقل سحقها ويرمز إلى ذلك صاحب رواية (451 فهرنهيت) إلى المثقفين الذين خرجوا من المدينة مكرهين بسبب قمع الفاشية وإجرامها وقد اتفقوا أن يحفظ كل واحد منهم كتاباً حتى يحافظوا على تراث البشرية من الدمار .
نقول لأن الإبداع لا يموت فسوف تبقى الفنون والآداب ما بقيت الإنسانية.. صامدة فى الزمن بينما يمضى المكفرون والظلاميون وأعداء الحرية والحياة إلى مزابل التاريخ..
وإذا كان «غاندى» يقول «حيث يكون الحب سيكون الرب» فنحن يمكننا أن نقول أيضاً حيث تكون الفنون والآداب يكون الرب.. فالعهد القديم يبدأ بجملة فى البدء كانت الكلمة وفى القرآن الكريم بـ «اقرأ».. ولأن الله جميل يحب الجمال فهو «فنان يحب الفنون»..