الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

حساب بلا عذاب




هذه الحلقة تخص الموحدين بالله المؤمنين به ربا وبملائكته وكتبه ورسله، ويؤمنون بالغيب واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولا أتوجه به لمن يجحد عنصرا من تلك العناصر، فلقد بدا لى تسلط الفقه القديم على دعاتنا لذلك تراهم يجعلون مصيرنا جميعا إلى النار طالما أذنبنا، بل يخلطون بين مصيرنا ومصير آل فرعون أحيانا، وحيث إنه من الطبيعى وبلا شك أننا جميعا نُذنب، فبمنطقهم فنحن نخضع جميعا للعذاب، بينما تراهم يقتضبون حين يتكلمون عن النعيم، أو مصير الصالحين.
 
 من آفات ذلك الفقه أنك مُعذّب على كل ما تقترفه، وهم يستدلون فى ذلك بقوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}النساء123؛ ويتأولون بالخطأ قول المولى عز وجل بسaورة الزلزلة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8}؛ وهم أيضا يقولون بأن قوله تعالى: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }الفاتحة6؛ تعنى جسرا على جهنم عليه أشواك تتخطف الناس وفق ذنوبهم وتغمسهم بالنار بقدر معاصيهم، ثم يدخلون الجنة بعد ذلك إن كانوا أهلا لها، وجعلوا سندا لمقولاتهم مرويات يقولون عنها (قال رسول الله) وهى مدونة عندهم بكتب الصحاح.
 
وما أرى كل ما سبق إلا أنه يخالف كتاب الله، فمصير الإنسان صاحب الإيمان بالله معلق بمحصلة حسناته وسيئاته، فالحسنات تمحو السيئات، والسيئات تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والله تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }هود114؛ فهل من ذكرى الذاكرين ألا ننتفع من قوله تعالى: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ] وندعى بأن السيئات لا يمحوها إلا العذاب بالقبور ونار جهنم؟!، وقد ورد الحديث النبوى الذى أخرجه الإمام أحمد بمسند الأنصار عن أبى ذر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له:- [اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن].
 
والذين يقولون بأن الناس ستتعذب بعضا من العذاب على قدر سيئاتهم ثم يدخلون الجنة، إنما تثقفون بثقافة بعض اليهود الذين ذمهم الله تعالى بقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }آل عمران24؛ فالأعمال توزن أولا بموازين الحق، ثم بعدها يكون المصير، إما جنة أبدا، وإما نارٌ أبدا، حيث يقول تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}الأنبياء47؛ ثم اسمع قول ربنا بسورة القارعة: { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ{6} فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{7} وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ{8} فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ{9} وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ{10} نَارٌ حَامِيَةٌ{11}؛ فالأمر إنما هو محصلة أعمال فإن ثقلت الموازين فذلكم الفوز والعيشة الراضية، وإن خفت فذلك الخسار والعياذ بالله.
 
 ثم تكون رؤية الناس لنتيجة وزن أعمالهم يوم القيامة حين يتسلمون كتبهم بأياديهم حيث يقول المولى عز وجل: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ{25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ{26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ{27} مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيهْ{29}؛ فبعد ميزان الأعمال يتسلم كل منا كتابه الذى يُبَيِّن حسابه النهائي، وبالتالى مصيره النهائي.
 
أما من يتصورون عذابا بعضا من الوقت على ما اقترفه العبد من ذنوب ففضلا عن مخالفة مفهومهم لكتاب الله، فإنهم يُنشئون تضاربا بين الآيات بذلك الفكر، إذ كيف يُصَرِّح الله بالقرءان أنه يمحو السيئات بالحسنات، بينما هم يقولون بأنه يُعذب الناس الذين فعلوا الحسنات على ما اقترفوه من سيئات!؟.
 
والمتدبر لكتاب الله يجد بأن دخول النار أو الجنة يوم القيامة يصاحبه خلود، فما صرَّح القرءان أبدًا بعذاب فى النار يوم القيامة يعقبه نعيم بالجنة، أو عذاب قبر بعده جنة الخلد، ولست أدرى من الوجهة العقلية البحتة هل يدخل النار من كانت حسناته بالملايين وسيئاته بالآلاف؟، بالطبع لا، وإلا فما فائدة الميزان؟!، ومن غير المتصور حين يخبرنا الله عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه يتكلم عن ملائكة لم تذنب، أو أنه حين يخبرنا عن الجنة ومصيرهم فيها أنه يكون قد عذبهم قبلها فى النار.
 
وتدبر قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة102؛ فكلمة (عسى) تعنى وجوب رحمة الله ومغفرته لكل من اعترف بذنبه وجاء يوم القيامة بحسنات وسيئات، فلو كان الله يعذبهم على ذنوبهم التى اقترفوها ما غفرها لهم، فضلا عن أن الله دوما عند حسن ظن عبده به، نعم للاعتراف قيمة كبرى فى حدوث المغفرة، ولقد أقسم الله بالنفس اللوامة، لكن من وجه آخر من وجوه التدبر فإن الله يجمع محصلة الحسنات والسيئات ليوجب المغفرة لمن ثقلت موازينه فيكون فى عيشة راضية كما ورد بسورة القارعة، وما ورد بسورة هود من محو الحسنات للسيئات، وما ورد بالحديث النبوي.
 
والله تعالى حين يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }آل عمران185؛ فالزحزحة إنما تكون باقتراف الحسنات، لأن كل من عصى الله يدخل النار إلا إن جعل للصالحات من أعماله تَفَوُّقا على سيئاته، فيتزحزح رويدًا رويدًا حتى يكون من أهل الجنة، وإن قوله تعالى بسورة مريم: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً{71} ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً{72}؛ إنما يعنى ذلك الزحزحة، ولا يعنى بحال جسر على جهنم وعليه أشواك تتخطف الناس إلى النار وفق ذنوبهم فذلك إخراج مسرحى لآية محكمة من كتاب الله.
 
والصراط المستقيم الذى تسأل الله أن يهديك إليه هو أن يوفقك الله وييسر لك طريق طاعته فى الحياة، وليس جسرا على جهنم كما يحلو للوعاظ أن يتشدقوا، لذلك يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }آل عمران51؛ ويقول جل فى علاه: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }آل عمران101؛ فالأمر جلى فلا جسور سينيمائية فى دراما بالآخرة، إنما الأمر أن الصراط المستقيم ما هو إلا اعتصام بتعاليم الرحمن ونحن نطلب من الله أن يوفقنا لتلك الهداية.
 
الكبائر والتوبة والاستغفار
 
لكن تبقى إشكالية اقتراف الكبائر فإن لها بذاتها ضرورة التوبة قبل الموت لمن اقترف شيئا منها، وتدبر قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً}النساء31؛ فكيف سيُكَفِّر الله باقى السيئات إن لم يكن الأمر مُحَصِّلَة حاصل طرح السيئات من الحسنات، وقد يكون تكفير السيئات بسبب حسنات جمعها العبد لمجرد تحمله اجتناب الكبائر.
 
ولابد أن يعلم هؤلاء بأن الله ربنا رحمن رحيم ودود غفور عفو كريم، قبل أن يكون جبار مُنتقم مُذل، فمن رحمته مضاعفة حساب الحسنات، وتبديل السيئات بحسنات بعد الاستغفار أو التوبة، فهو سبحانه القائل:{وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}الشورى25 ؛ ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }الأنفال33؛ ولا يتوقف الاستغفار على العصاة فقط بل تستغفر الملائكة للناس، حيث يقول تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الشورى5؛ ولا شك بأن الله يقبل التوبة عن عباده ويقبل الاستغفار، بل ويقبل كل عمل يُرجى به وجهه سبحانه وتعالى، ولا يعنى ذلك أنى أنتهى إلى أن الجنة للمستغفرين والتائبين فقط، بل والمحسنين أيضا مهما كثرت سيئاتهم طالما زادت حسناتهم على سيئاتهم فهى تمحها.
 
لكن من الجدير بالبيان أن تعلم بأنه سواء تم تبديل سيئاتك حسنات أم لا فالعاصى خاسر لا محالة، والقرءان قد حسم تلك المسألة، فما أرى عليك من جهد يذكر لتتدبر قوله تعالى:{أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}الجاثية21.
 
فها هو النص المحكم يقرر أن حسابات العاصين لن تتساوى أبدا فى المقام والمآل مع حسابات الذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء حال الحياة أو حال الممات، فإن عدالته سبحانه تقتضى أن يتمايز الذين يعملون الصالحات عن العصاة لكنه تمايز بالجنة.
 
وإنه بإجراء عملية حسابية بسيطة فإنك حتى إن كنت من التائبين فلن تستطيع اللحاق بأخيك الطائع، إذ أنه حين يقبل الله توبتك فإنه يبدل سيئاتك حسنات، وكما تعلم فإن السيئة تحتسب بواحدة، والحسنة تحتسب بعشرة، فإن تاب الله على التائب عن معصية واحدة واستبدلها له حسنة، فستحتسب له فى سجلاته ببنط واحد، بينما أخيه الطائع الذى فعل حسنة واحدة فتحتسب له بعشرة بنط على أقل تقدير، فعلى ذلك فسيكون أقل فرق بينهما فى الثواب هو تسعة.
 
ومن يتمعن النظر بالآية السابقة التى تمايز بين الذين اجترحوا السيئات يجد أن الله نفى عنهم الإيمان بينما الطرف الآخر هم من المؤمنين وهو وجه آخر من وجوه البحث والتدبر بالآية، ووجه آخر من وجوه التمايز لا نغفله.
 
لذلك فلابد أن نعيش حياتنا ونحن نستشعر رحمة الرحمن تحيط بنا فى كل ثناياها وجوانبها، ونصرف جهدنا بعد الاستغفار والتوبة لتحصيل الحسنات من كل حدب وصوب، وخاصة أداء الفرائض بشرائطها الواردة بكتاب الله، فهى التى تعيننا على أن نكون من الصالحين، ولابد أن يكون ذكرنا قياما وقعودا وعلى جنوبنا، وعلينا بالاستحياء من الله الرزاق ذو القوة المتين، ولنعلم بأن الحياة التى نحياها ما هى إلا فرصتنا الوحيدة لبلوغ الجنة الأبدية بلا عذاب، فإن أنفقناها فى خير فالمحصلة خير أبدي، والله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}الزخرف72؛ وإن أنفقناها فى غير الخير فالمصير أبدى من جنس العمل، فذلكم هو طريق لمصير أبدى محتوم إما جنة أو نار بلا عذاب مؤقت أيا كان نوعه، وبلا خروج من شقاء النار ولا نعيم الجنة، بعد رحلة حياة قصيرة.
 
والفوز بالجنة يكون بعد الحساب ولا يكون بعد العذاب، فلا يكون لمن تعذب فوز، ولا يكون دخوله الجنة بعدها فوز إنما يكون نجاه من النار، وهو الأمر الذى لم يقرره القرءان أبدًا، إنما قرر الفوز بالجنة لمن فاز بعد الحساب لذلك فهو يدخل الجنة بلا عذاب.