الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

موقف الدكتور عبدالرزاق السنهورى من الخلافة الإسلامية

موقف الدكتور عبدالرزاق السنهورى من الخلافة الإسلامية
موقف الدكتور عبدالرزاق السنهورى من الخلافة الإسلامية




كتب: د.عبدالله النجار

وقت أن ألغيت الخلافة العثمانية (الإسلامية) سنة 1924 كان الدكتور عبدالرزاق السنهورى فى فرنسا يعد رسالته للدكتوراه، وحصل عليها سنة 1925 من جامعة ليون الفرنسية، وكان عنوانها «القيود التعاقدية على حرية العمل فى القضاء الإنجليزى»، ورغم أنه قد أنهى دراسته وبعثته فى هذا العام، إلا أنه قد مدت له بعثته عامًا آخر ليحصل فى العام التالى على درجة أخرى للدكتوراه عن دراسة أعدت خصيصًا تحت اسم «الخلافة»، وانتهى من تلك الرسالة الثانية باللغة الفرنسية فى الوقت الذى تم له المد العلمى فيه، وظلت هذه الدراسة حبيسة الأدراج بلغتها الفرنسية لا يعلم أحد عنها شيئًا حتى تمت ترجمتها سنة 1988،أى بعد إعدادها بثلاث وستين سنة كان الدكتور السنهورى  رحمه الله ــ قبل ترجمتها قد أفضى إلى ربه، وكان نشر تلك الرسالة بالعربية بعد ترجمتها، أشبه بالسر الذى تم إعلانه والإفراج عنه، كما تفرج السلطات عن مواثيق الدولة بعد ثلاثين سنة، وإن كان سر الدكتور السنهورى قد استغرق أكثر من ضعف هذه المدة، وقد قام بترجمة هذه الرسالة كريمته الدكتورة نادية عبدالرزاق السنهورى، وراجعها وعلق عليها وقدم لها الدكتور توفيق محمد الشاوى والأولى كانت تعمل مدرسًا بكلية البنات جامعة عين شمس، أما الثانى كان أستاذًا سابقًا بكلية الحقوق جامعة القاهرة وكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة.
ومجمل ما وصل إليه الدكتور السنهورى فى رسالته: أن فكرة الخلافة الإسلامية بعد القضاء عليها فى تركيا لم يصبح من الممكن استعادتها، لأن سقوطها كان نتيجة ضغوط عالمية لم يكن للمسلمين طاقة فى دفعها، وأن استعادتها إلى ما كانت عليه أصبح نوعًا من ضروب الاستحالة فى ظل ظروف عالمية لا تمكن من إقامتها ولا تسمح به، وإن سقوط الخلافة أو انتهاءها ليس معناه موت فكرتها إلى الأبد، بل يمكن إقامتها فى حدود الممكن وهو الوحدة الإسلامية بين البلاد الإسلامية، وإن هذا الهدف الوحدوى يمكن أن يكون بديلاً عن دولة الخلافة وأنه لا يمكن تجاهله بحجة تعدد الدول أو قيامها على أسس وطنية أو قومية، بل يمكن تطويره وإثراؤه بما يجعل من تلك الدول الإسلامية منظمة دولية إسلامية تحل محل دولة الخلافة التى زالت وتلاشت.
وكما يبدو فإن الدكتور السنهورى كان متأثرًا بالحالة التى واجهها العالم الإسلامى عند سقوط الخلافة، وكان يستشرف المستقبل فلا يرى لعودة الخلافة بصورتها التى كانت عليها بصيصًا من أمل، مع أنها لم تكن مثلاً يحتذى لما يجب أن تكون عليه الخلافة الإسلامية الراشدة من جهة التزامها بقيم الإسلام ومبادئه أو اختيار الحكام وفقًا للمعايير الإسلامية المقررة ولهذا سماها فى بعض صورها ومراحلها التاريخية بالخلافة الناقصة، وكان وجه النقض فى نظره مبنيًا على تلك الاعتبارات المخالفة لمبادئ الإسلام وقيمه فى الأشخاص والتصرفات ولتعدد الخلافة فى العالم الإسلامى، كما حدث فى اجتماع الخلافة العباسية والفاطمية والخلافة الأموية فى الأندلس، لكنه مع ذلك الواقع الذى يصم الخلافة بالنقص فى نظره يتجه إلى وحدة الأمة الإسلامية لتكون بديلاً عنه، وليتكون من مجموعة تلك الدول التى فرقتها الاعتبارات الوطنية أو القومية أو العرقية وأصبحت مستقلة بكياناتها ومقوماتها الوطنية، ما يشبه عصبة الأمم، وقد أظهر المترجمان هذا المعنى فى عنوان الرسالة وطوعاه لخدمة تلك الفكرة فظهرت بعنوان: «فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية»، والذى حدا بالدكتور السنهورى إلى تبنى ذلك التوجه ما ظهر له فى الواقع العملى من هيمنة الدول الاستعمارية على شعوبنا وتحكمها فى مصائرنا، تلك الهيمنة التي فرضت التجزئة علي شعوبنا وتحكمها فى مصائرنا  كما فرضت على الأقطار المستقلة أن يظل على استقلالها الوطنى أو القومى إلى أن ترى فيها رأيًا آخر يؤدى بها إلى التجزؤ والتقسم مرة ثانية حتى يتسنى إزالتها من خارطة الوجود إلى غير رجعة، ويزول الإسلام بزوالها أو يصبح تحت حماية هؤلاء الذين يكرهونه ويعتبرونه مصدر كل شر فى العالم ولا يدينون به.
وانتهى الدكتور السنهورى فى رسالته إلى ملخص لما يراه فى أمر الخلافة الإسلامية وفقًا للمستجدات التى تحيط بها ومآلات التمسك بها إلى أن المطلوب من الخلافة: إقامة نظام يحقق وحدة المسلمين فى صورة تنظيم يضمن لها المكانة التى تليق بها، وتتناسب مع رسالتها السامية وتاريخها المجيد، كما يضمن للشريعة مكانة تليق بسموها وجلالها، وإذا كان من المتعذر إقامة خلافة كاملة فى وقتنا، فليس هناك أقل من إقامة خلافة ناقصة يمكن أن تستكمل تدريجيًا، مع تجديد فقه الشورى وتفعيله عمليًا، والبدء فى عملية تجديد الفقه الإسلامى وتطبيقه تدريجيًا، وتنظيم الإجماع ليكون بجانب الاجتهاد مصدرًا حيًا للتجديد، مع ضرورة أن تسعى الدول الإسلامية للتحرر والاستقلال على أساس وطنى يجب أن يستمر بشرط أن لا يتعارض مع مبدأ الوحدة الإسلامية، وأن يوجد فى كل قطر إسلامى كيان سياسى يكون هدفه إقامة منظمة دولية إسلامية أو جامعة للدول الشرقية (الإسلامية) لتنظيم التعاون فيما بينها ويمكنها من مساعدة الشعوب الأخرى، وعندما تنجح الدول الإسلامية فى تحقيق تلك الأهداف، يمكن أن يختار المسلمون جميعًا رئيسًا للجامعة الإسلامية على أساس وحدة الأمة والشورى الحرة وتطبيق الشريعة والتكامل بين المبادئ الدينية والنظم المدنية، وقد لخص تلك الأفكار الدكتور الشاوى فى تقديمه لتلك الترجمة ومما يلاحظ على رسالة الدكتور السنهورى فى الخلافة الإسلامية، أنها قد أعدت خصيصًا لخدمة هدف محدد لا يمكن التصديق بأنه قد قفز إلى ذهن الفقيه الكبير عرضًا، بل سيق له، كما يساق الحبيب إلى من يحبه ويصادف هوى فى قلبه، فكانت تلك الدراسة أول عمل فى مجال البحوث العلمية يبحث لخدمة هدف معين، وليس لخدمة البحث العلمى، وهى سقطة ما كنا نود أن يساق إليها الفقيه الكبير بذلك المنطق الذى يبدو من خلال كتمان تلك الدراسة والعزوف عن ترجمتها للعربية  وإظهارها للناس أنه كان خجلاً منه، أو لا يحب أن يعلمه عنه أحد، ولولا ظروف المد السياسى الإسلامى فى فترة الثمانينيات وما اقتضاه من حديث عن الخلافة لتكون خادمة له ما تمت ترجمة تلك الرسالة ولا سمع عنها أحد، بل إن ظروف سترها وإخفائها جاءت متواءمة مع الفترة التى شهد فيها هذا المد انكسارًا وانحسارًا، وهذا يؤدى إلى توجيه أصابع الاتهام إلى الفقيه الكبير بأنه لم يكن محايدًا فى دراسته، ولم يكن يبتغى أن ينصر الخلافة لذات الخلافة أو فقهها، ولكنه كان يريد خدمة تيار الإسلام السياسى، وأن كلامه عن وحدة إسلامية وإن كان صحيحًا فى ذاته ونوافقه فيه، إلا أن تجنيد تلك الوحدة لاختيار شخص يمثل المسلمين فى كل الدنيا، وإقامة كيانات سياسية إسلامية فى كل بلد إسلامى للترويج لفكرة الوحدة الإسلامية البديلة للخلافة، كل ذلك يشير إلى أنه كان يهدف إلى خدمة السياسة بالخلافة، وليس خدمة الخلافة بالسياسة، وهو المشروع القائم لتقسيم الدول الإسلامية الآن.
وقد ظهرت رسالة الدكتور السنهورى معاصرة ومتزامنة مع رسالة الشيخ على عبدالرازق القاضى الشرعى والعالم الأزهرى، والتى كانت فى مجمل أفكارها تسير فى اتجاه مخالف ومعاكس لاتجاه الدكتور السنهورى، حيث كان يرى أن الخلافة غايتها الحكم الرشيد الذى يحفظ الدين ويقيم مصالح الدنيا، وذلك معلوم ــ بداهة ــ من مبادئ الشريعة وأحكامها دون حاجة إلى النص عليه فى فقه خاص يسمى فقه الخلافة، ولهذا سمى رسالته (الإسلام ونظام الحكم) فجعل نظام الحكم بديلاً عن الخلافة، وأحكام نظام الحكم ثابتة يتعلق باختيار الحاكم وعزله وحقوقه وواجباته، وهذه الأحكام فيها كفاية عن فقه مستقل للخلافة وتحديدها وفقًا لهوية معينة أو تنظيم معين حتى ولو كان هذا التنظيم يزعم خدمة الإسلام والحكم مما أنزل الله أن هذا التزامن بين الدراستين، دراسة الشيخ على عبدالرازق الذى أغضب الحكم ــ وقتئذ ــ لأنه كان يتطلع للخلافة والتمكن بها من رقاب البلاد والعباد مع تسليمها للوصايات الاستعمارية الجاثمة فوق صدورها، وأدت إلى فصله من الأزهر، ودراسة الدكتور عبدالرزاق السنهورى التى صنعت خصيصًا، وبعد أن انتهى من رسالته التى بعث إلى فرنسا لإنجازها وفى هذا الموضوع تحديدًا، وبتوجيه خاص من الدولة ومساعدة واضحة من الجهة التى أعير إليها (فرنسا) وكانت وقتئذ من الدول الاستعمارية المعادية للخلافة الإسلامية، وساهمت بقسط وافر فى إسقاطها وليس من مصلحتها استعادتها مرة ثانية إلا إذا كانت موجهة لخدمة مصالحها، كل ذلك يجعل إقبال الدكتور السنهورى على تلك الدراسة لهذا الأسلوب المتكلف أمرًا يلفه الارتياب والشك، ويشير إلى أنه قد أعدها للرد على الشيخ على عبدالرازق بإيعاز من أصحاب المصالح فى استمرارها من الحكام الطامعين فيها، والدول الاستعمارية التى تترقب المصالح من ورائها.
إن البحث العلمى يجب أن يقوم على التجرد والموضوعية، وليس خدمة أهداف سياسية أو توجهات بعينها، وقد تورط الدكتور السنهورى فى هذا الاثم، رغم أن ما قدمه فى رسالته لم يخل من أفكار ذات قيمة فى صالح الإسلام والمسلمين إذا ما طبقت بتجرد وموضوعة، ولم تكن تفصيلاً لخدمة تيار معين، لكن يبدو أن التوجه فى التطبيق لم يكن على هذا النحو الصادق، وإنما كان لخدمة القصر والإخوان، وهو ما جعل الدارس يستشعر الحرج بعد الانتهاء من تلك الدراسة، ودفعه إلى كتمانها وحجبها أكثر من ستة عقود، فلم تنشر إلا بعد وفاته، فهل كان المرحوم الدكتور عبدالرزاق السنهورى من الخلايا النائمة؟
ذلك ما يبدو واضحًا من خلال الظروف التى لابست تلك الرسالة والتى تستحق أن تصبح حكاية يتدربها الباحثون ويأخذون من إعدادها عبرة تدفعهم إلى التجرد والموضوعية، وأن يكون عملهم خالصًا لوجه الله، وليس لخدمة السياسة، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انفصل وانقطع، وأورث صاحبه خجلاً منه، وهذا ما يظهر أنه قد حدث للدكتور الفقيه العظيم عبدالرزاق السنهورى، عفا الله عنه وسامحه على تلك الذلة التى اتخذت ذريعة لما نراه من قبل وتخريب وحرق للناس فى وقتنا على يد من يطلبون تطبيق فقه الخلافة الذى سبق أن روج له الدكتور السنهورى فى العالم الإسلامى، وفى بلاد غير المسلمين بهدف خدمة الدين ظاهرا وتوظيفه لخدمة السياسة حقيقة، والله من وراء القصد وهو القاهر فوق عباده وهو اللطيف الخبير.