الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

حضارة تغرق فى البرك والقمامة

حضارة تغرق فى البرك والقمامة
حضارة تغرق فى البرك والقمامة




كتب: عاطف بشاى

حينما تعرض قناع الملك الذهبى «توت عنخ آمون» الذى يعود عمره إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد والذى يزن نحو (11) كيلو جرامًا من الذهب الخالص المرصع بأحجار كريمة.. لترميم خاطئ فى المتحف المصرى بالقاهرة ألحق به ضررًا بالغًا من الصعب إصلاحه وذلك باستخدام لاصق قوى تسبب فى وجود طبقة صفراء شفافة بين اللحية وبقية القناع وأن أحدهم حاول إزالتها بآلة حادة مما أدى إلى حدوث خدوش أكد أحد المسئولين عن متابعة حالة القناع بشكل منتظم أنها حديثة..
حينما حدث ذلك كثرت وتعددت ردود الأفعال الغاضبة وأعلن وزير الدولة لشئون الآثار فى مؤتمر صحفى أنه سيتم تحويل المرممين المتسببين فى هذا الخطأ للتحقيق موضحًا أن هناك مدارس علمية مختلفة فى استخدام مادة «الإيبوكس» فى ترميم الآثار والمعادن.
هذا الترميم الخاطئ كان أيضًا مثارًا للتهكم ورسوم الكاريكاتير المختلفة على مواقع التواصل الاجتماعى وصفحات الجرائد والمجلات منهم ورسم يصور «توت عنخ آمون» يبرر الحادث قائلا «وقعت فى حلاق غشيم شلفط خلقتى وذلك فى حوار بينه وبين مكتشفه «هوارد كارتر» فى مقبرة «توت عنخ آمون» بوادى الملوك فى الأقصر حين توصل إليها عام (1922).. وكارتر «عالم آثار بريطانى.. وهو أول إنسان منذ أكثر من (3000) سنة تطأ قدماه أرض الغرفة التى تحوى التابوت.. وهناك كاريكاتير آخر يقول «ممنوع الاقتراب لحد اللزق ما ينشف».. والحقيقة أن الإهمال.. وعدم الاكتراث.. والتسيب الإدارى الذين أدوا إلى هذا الحادث لا أراه غريبًا ولا مفزعًا ولا مفاجئًا.. بل إنه أمر متوقع تمامًا ويمثل إحدى النتائج المنطقية لتدهور مفهوم الفن خاصة فن النحت عند العامة والذى تصاعد تصاعدًا مؤسفًا خلال الثلاثين عامًا الماضية وصولا إلى حكم الإخوان الذى مازالت تداعياته وتأثيراته تحكم عقول وسلوك الناس نتيجة فتاوى الظلاميين والتكفيريين والسلفيين والدعاة.. وشيوع ثقافة «الحلال والحرام» التى انتشرت وذاعت وشملت كل نواحى الحياة..
فمن ينسى ذلك الإرهابى قائد مفجرى تماثيل «بوذا» الذى أعلن عن نيته فى تفجير تمثال «أبو الهول» لأنه رجس من عمل الشيطان صنع لكى يعبده الكفار.. ومن ينسى تدمير رأس تمثال «طه حسين» فى مسقط رأسه فى «المنيا» وتنقيب تمثال «أم كلثوم» فى المنصورة.. وتشويه التماثيل فى الميادين.. ومنهم تمثال «الحوريات» على كورنيش الإسكندرية.. وليست تلك الاعتداءات الغاشمة على فن النحت - ذلك الفن العظيم - الذى ميز الحضارة المصرية منذ الأزل - ليس من فعل البسطاء والجهلة الذين تم غسل أدمغتهم وتشويه وجدانهم.. لكن المفارقة - والتى لمستها بنفسى - وهى مفارقة «تراجيكوميدية» تتمثل فى رأى بعض أساتذة النحت فى كلية الفنون الجميلة حيث يصرح أحدهم للطلبة أن النحت حرام.. ولولا لقمة العيش لما استمر يدرسه لهم.. بينما تؤكد أخرى لهم أن عيون التماثيل تطلق شرارات حارقة تصيب المؤمنين بالأذى.. وقد استطاع هؤلاء المكفرون أن يتوجوا جهودهم المباركة فى هذا الاتجاه بإلغاء الموديل العارى من مادة الطبيعة الحية..
لكن المفزع حقًا أن الإهمال متراكم.. والتسيب سمة بغيضة أصبحت طقسًا اعتياديًا متوارثًا يكشف عن جريمة تدمير تراث فنى وحضارة عظيمة شيدها الأجداد.. كشف عنها ملف خاص قرأته منذ أيام بجريدة «الوطن» يتحدث عن أكوام القمامة والحيوانات النافقة وقطعان الماعز والكلاب الضالة التى تحيط بالكثير من المعابد والمناطق الأثرية فى الأقصر بعد أن ظلت صامدة على مدار (3) آلاف عام.. لكن الإهمال ضرب كل أرجائها فأصبحت مقالب للقمامة وبركًا للمياه الجوفية ومياه الصرف وسط صمت من وزارة الآثار التى تتحجج دائمًا بعدم وجود ميزانيات لتطوير وترميم المعابد أو وضع حراسة كافية لحمايتها.. فمعبد (كومير) بمركز إسنا جنوب الأقصر والذى يعتبر تحفة هندسية تمثل أهم المعابد فى مصر وشيد منذ ألفى عام تحول إلى خرابة كبيرة وأطلالا تخفى معالمها منازل الأهالى وروث الحيوانات وتلال التراب.
أما أبشع ما جاء بالتقرير هو ما حدث فى مدينة «أخميم» الأثرية فى «سوهاج» حيث معبد «رمسيس الثانى» الذى تم الكشف عنه فى عام (1981) عندما كان يتم بناء معهد أزهرى بالمنطقة.. بعدها تم إيقاف الحفر ليتم الكشف عن أكبر تمثال لسيدة فى العالم وهو تمثال «ميريت أمون» ابنة رمسيس الثانى الذى يبلغ ارتفاعه (11.5) متر ووزنه أكثر من (20) طنًا.. لكن المشكلة الكبرى تمثلت فى أن المعبد يمتد أسفل مقابر ومنازل الأهالى.. وتم وضع خطة لإخلاء المقابر وبناء مقابر بديله لهم فى منطقة «الكوثر» على الجبل الشرقى.. وتكلف ذلك أكثر من (150) مليون جنيه.. وتم وضع خطة أخرى لتهجير الأهالى من المنطقة.. لكن مع ثورة (25) يناير ذهبت كل الجهود سدى فبعد أن توقف دفن الموتى فى المقابر.. عاد الأهالى من جديد لدفن موتاهم فى المقابر القديمة والهدف من وراء ذلك استمرار أعمال السلب والنهب للأثار من داخل المقابر والمنازل والتى تتم بشكل يومى حتى أن رجال شرطة السياحة والآثار والمباحث لا يتمكنون من ملاحقة عصابات التنقيب بسبب كثرة عملياتهم التى يقومون بها فى المنطقة واستخدامهم وسائل ومعدات متطورة فى الحفر.
وليس من المضحك ومن دواعى السخرية المرة إذًا أن نحمد الله على لصق ذقن توت عنخ آمون بالأيبوكس أو حتى بالأوهو.