الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

خلق الإنسان من نفس واحدة إعجاز يفوق الخيال




لا شك أن خَلق الإنسان شيء يفوق التَّصور والخيال، ومع ذلك فإن معايشتنا لأنفُسنا تسمح لنا بالاطلاع على بعض الحقائق الإعجازيَّة، بل إن فى خلقنا من نفسٍ واحدة إعجازًا يفوق الخيال، وفى ذلك يقول تعالى:- [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً{1} النساء 1؛ فالنفس الواحدة هى لآدم عليه السلام، ومنه توالت الأجيال، لكن الله استودع فى تلك النفس خصائص أقسم بها فى كتابه العزيز، فقال جل جلاله:- [ووالد وما ولد] البلد3؛ فالولد والوالد هما الأساس الثَّانى الذى تركَّبت منه الأجيال البشرية، وسوف نوالى بالتفصيل البسيط بعض الأمثلة الإعجازية عن خَلق الإنسان من منظور الإدراك الفكرى والثقافى للأمر الإلهى (وفى أنفسكم أفلا تُبصرون)، دون الدخول فى تفاصيل طبيَّة، فى هذه الحلقة:-
 
أولاً:- معجـزة الوالدين.
 
ها أنت قد خرجت إلى الحياة مولودًا لا يرى ولا يقدر ولا يعلم ....إلخ، لكن الله سخَّر لك مُربِّيًا وُمربية هما الوالدان، وقد سخرهما لك دائبين لرعايتك حتى تصير إلى ما أنت عليه، فتقرأ سطورى هذه، فما ذلك إلا بفضل وبنعمة من الله عليك بتسخيرهما لك.
 
ولقد استودع الله فيهما حُبُّ الخير لك والتَّفانى لأجلك، يفرحان لما يُسعدك ويغضبان لما يُغضبك، ويهفوان للقائك، ويتمنِّيان لك أكثر وأعظم مما تتمناه أنت لنفسك، وعلى ذلك فنظام الوالدين هو من أعظم المنن الخاصة على الخلائق، وهو نظام يدل على الربوبية، فإنك إن قُلت كلمة (ربِّنا) فقد قلت الحق لأنه هو الذى أرسل لك من يُربِّيك على موائد فضله وإحسانه.
 
ثم ها أنت تعتمل فيك الخريطة الجِيِنِيَّة للوالدين، فأنت تحمل الكثير جدًا من صفاتهما التَّشريحية والاجتماعية والنَّفسية والشَّكلية، فأنت أسمر أو أبيض مثل والديك أو أحدهما، وأنت طويل أو قصير مثلهما، وشكلك يُشبههما، فإذا ما اشتد عُودُك أوصاك الله على هذين الخادمين لك، وهما اللذان كان لهما الفضل فى كيانك وكينونتك، فقال:- {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً العنكبوت 8؛ وقال:- [..وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً...] النساء 36؛ فذلك نظام اجتماعى استودعه الله فى البشر، لتكون الرِّعاية لك إجبارية تنبُع من دوافع خِلقيَّة فى الوالدين، وتكون رعايتك لهما بحُسن استقبالك لمعروفهما فيك، وطاعة لله الذى وهبك هذين الأبوين المخلصين، فهما يرعيانك فى صغرك وعليك أن ترعاهما فى كبرك.
 
ثانيًا:- معجـزة تماثل التّكوين البشري.
 
كل البشر سواء بسواء الجميع له يدان وقدمان وعينان وقلب واحد ومِعدَة وأمعاء وهيكل عظمى متماثل، وغير ذلك من الأعضاء والأجهزة.
 
وذلك الأمر ليس إلا رحمة من الله بالخلق، وكان من نتيجة ذلك التَّماثل أن الطبيب يدرس الطب بالهند، ويعالج الناس بالمغرب....وهكذا، وما ذلك إلا للصِّفة التشريحية الواحدة لكل بنى الإنسان، كما أن استجابة الأعضاء للتداوى منظومة فى غاية الدِّقة، لذلك يتم تصنيع الدواء بدولة، ليشفى به مريض فى باقى دول العالم، كما يمكن نقل الأعضاء البشرية بين الأحياء والأحياء بل بين الموتى والأحياء، وما ذلك إلا من رحمة الله بنا.
 
ومكان الأحشاء الداخلية واحد، فالعصب باليد اليسرى مثلاً له مكان ثابت يعلمُه كافة الجرَّاحين فى العالم، كذلك الأمر فى الكبد والكلى وغيرهما، ولولا ذلك لفقد الإنسان الحياة.
 
ولقد جعل الله لأعضائك قطعًا داخلية احتياطية، فيمكنك أن تعيش بكلية واحدة أو برئة واحدة أو بفصٍ واحدٍ من فُصوص الكَبِد، ولقد خلقك الله مكتملا بالهيئة التى أرادها لتؤدى مهمتك على الأرض فى سعادة.
 
ودماؤنا فصائل معروفة، يمكن انتقالها عند الحاجة من شخص لآخر، ويمكن تخزينها فى ثلاجات، ويمكنك أن تشرب وتأكل فتستعيض ما فاتك من الدماء.
 
لكنَّا مختلفون فى الهويَّة الشخصية، فلكل منا هويته، ولقد اكتشف العلم عدَّّّة عناصر متباينة بين البشر تُعين على التمايز والتَّفرقة بين النَّاس لتحديد هوية كلِّ منهم وهي:-
1- نبرات الصوت. 2- شكل قزحية العين. 3- بصمات الأصابع. 4- رائحة الجلد.
 
فبتلك العناصر وغيرها يمكن الاهتداء والتَّعرف عليك، وهكذا ترى أن التَّشابه والتَّمايز فى الخَلق والخُلق رحمة من الله بعباده؛ كى يهتدوا بالتشابه والاختلاف لما ينفعهم.
 
ثالثًا:- الأعراض والعـلامات.
 
يقول تعالى:- {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}النحل16؛ فيكون الاهتداء بالعلامات ويكون بالنُّجوم، فالعلامات جعلها الله لكل شيء لنُميِّز الأشياء، وترشد الأشخاص وتحدد الأمور، ولنضرب أحد أمثلة الاهتداء بالعلامات فى موضوعنا (وفى أنفسكم أفلا تبصرون)، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد جعل للسُّقم علامة، ولكل داء أعراضًا محددة بذاتها، حتَّى يمكن للإنسان أن يهتدى لعلاج نفسه، ولولا الأعراض لتساقط الناس صرعى من حولنا ونحن لا ندرى عن سبب موتهم شيئا، فلن نتمكَّن من طلب الدَّواء لهم.
 
 فتلك إحدى فوائد العلامات، تعتمل فينا برحمة الله دون أن نأبه لها.
 
رابعًا:- أول الإلهامات الإلهية للمولود.
 
يولد المولود لا يعلم شيئاً ولا يقوى على شيء، والله يقول:- {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }النحل 78؛ لكنك بصفتك مولودًا تحتاج للغذاء كى تستكمل رحلة حياتك، فكان أن استودع الله فيك فطرة المَصّ، فما أن وضعت الأُم وجهك على ثديها إلا والتقمته ومَصصتَه، فمن الذى استودع فيك فكرة المص للثدي؟، إنه الله الذى رباّك وسواك وهداك، وفى ذلك يقول تعالى:- {قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}طه50.
 
خامسًا:- الأعصاب وجهاز الاتزان.
 
لا يقوى الطفل على التَّقلب، ولا يقوى على الوقوف، ولا على المشى لكنه رويدًا رويدًا ينمو جهازه العصبى والعضلي، فيشتد عوده ويقف منتصبًا ويسير باتزان ويجرى فى وثوق، وما ذلك إلا لنعم الله عليك فى الجهازين العضلى والعصبي، وفى ذلك يقول تعالى:- { الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ{7} فِى أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ{8}الانفطار؛ وحتَّى وأنت رجل قوىّ إذا ما مال جسدك اعتدلت فذلك هو الجهاز العصبى الذى يؤدِّى مهمته فيك، ولكن بمرور الزمن إذا ما شاخ هذا الجهاز فإن الإنسان لا يتحكَّم ولا يقوى على أداء كثير مما كان يؤديه ويتحكم فيه وما ذلك إلا بقانون الله فيك والذى لا يتبدَّل.
 
سادسًا:- الجـلد.
 
لقد استودع الله فى جلد الإنسان قانونا يعمل به الجلد لصالح الإنسان، فالجلد غطاء للمِهاد السَّريرى للشعيرات الدموية المُغذية لأعضاء الجسم، وهو أداة للإحساس بالخطر، وهو أيضًا للإحساس بالمتعة، وهو أحد جُندُ الله.
 
وللجلد قانون استودعه الله فيه لصالح البشر، فإنه إذا ما قُطع من الجلد جزء فإنه يلتئم وحده، وإذا ما سُحق (جُلِطَ فى العامية المصرية) فإنه يلتئم أيضًا، لكن جلد غشاء البكارة لا يلتئم إذ ما قُطع، وما ذلك إلا لأن الله جعله علامة على عفاف الأنثى.
 
 ولأن الجلد أداة الإحساس بالخطر والمُتعة فإن الله جعله يتكلَّم يوم القيامة، ويتحدث بكل ما كتمه من أحاسيس ضدَّ صاحبه حيث يقول تعالى:- {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}فصلت21؛ فالجلد إحدى أدوات الرَّصد والتَّسجيل المصاحبة للإنسان.
 
 والجلد ليس غُلافًا مُصمتًا، إنما زوَّده الله بمسام، تُفرز العرق الذى تُخرجه العضلات التى لا تتمكن من تصريف تلك المياه الفاسدة عن طريق الكُلى، فتخرج تلك المياه عن طريق الجلد بواسطة الغدد العرقية، ولأن الجلد يحتاج إلى تنفُّس فهو يتنفس عن طريق الشعيرات الخارجة منه، وهو يترطب أيضًا، ويحتمى بتلك الشُّعيرات من سقوط أشعة الشمس الحارقة عليه، وهكذا نجد أن الجلد آية من آيات الله استودعها الله فيك كى تقول وأنت تتدبَّر رحمات الله فيك .....الحمد لله رب العالمين.
 
سابعًا:- العـظام.
 
الهيكل العظمى للإنسان هو الأساس الذى يُبنى عليه الإطار الخارجى لجسم الإنسان، وهو الواقى من كثير من الصدمات أن تتأذى الأعضاء الداخلية للجسم، ويكمن فى نخاعه معمل إنتاج كريات الدم التى بها يعيش الإنسان؛ ليؤدى كل أعضاء الجسم وظائفه، فهو المسئول عن إمداد الجسم بالدم ومسئول عن إمداد الشَّعر بالدم الذى يحمل خصائص اللون، حيث قال تعالى:- {قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبًا ولم أكن بدعائك ربى شقيا} مريم 4؛ فتعنى الآية علاقة العظم بالشَّعر فكلما وهن العظم صار إنتاجه للدم أقل كفاءة، فيقل الغذاء الدموى المندفع إلى الغُدَّة المسئولة عن إفراز اللون الأسود أو الأصفر فيشيب الشعر، وينتج العظم خلايا الدَّم من خلال النخاع الموجود بداخله.
 
وللعظام خصيصة الالتئام، فحين ينكسر العظم يتفاعل الجزءان ليلتئما، ولا تكون وظيفة طبيب العظام إلا وضع الجزء المكسور أمام الجزء الآخر، ويتم تثبيت ذلك الوضع بالجبس أو بالجبائر ثم يقوم العظم بعمله بالالتئام الذاتى الذى استودعه الله فيه.
 
والهيكل العظمى للإنسان مخلوق بدقَّة متناهية ليسهل على الإنسان القيام بوظائفه فى الحياة الدنيا، فتأمَّل تكوين الذِّراع وما به من مرفق (الكوع) ومفصل اليد وتكوين عظام الأصابع ومفصل الكتف، وتأمَّل تلك الزِّيادة اللحمية الموجودة عند المرفق، ليتمدد الجلد واللحم حين تثنى ذراعك، وكذلك الأمر فى أصابعك، وعند ركبتيك، فهل ذكرت رحمة الله فى تكوينك بتلك الهيئة التى أنت عليها والتى تُسهِّل عليك القيام بمعايشك ؟.
 
ثامنًا:- المـاء والحياة.
 
يقول تعالى:- {....وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}الأنبياء30.
 
ويقول تعالى:- {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ{5} خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ{6} يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ{7} إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ{8}الطارق.
 
فأثناء المعاشرة الزوجية عند قذف الذَّكر للسائل المنوى داخل رحم الأنثى يكون الإنسان فى غمرة اللذة، وتكون الأعضاء التناسلية فى حالة احتقان، وتتجلَّى رعاية الله فى أوجها حيث يقوم العصب السمبثاوى بإرسال إشارة، فيغلق صمام المثانة مجرى البول عن المثانة، ويفتح ممر البروستاتا، ويأذن للسائل المنوى بالمرور من بربخ الخصية إلى ممر البول الذى يكون فارغا من البول لغلق المثانة، وهذه الوظائف وتلك الحركات تتم فى ثانية واحدة أو أقل حتى لا يختلط ماء البول مع السائل المنوي.
 
ومن قوله تعالى:- (وفى أنفسكم أفلا تُبصرون)الذاريات 21؛ يلاحظ المرء أنه بعد الممارسة الجنسية إثر انتهاء عملية القذف مباشرة، إنه لو حاول الإنسان التَّبول لوجد شبه احتباس بولى مؤقت، ويحتاج الشخص إلى مزيد من الضَّغط؛ حتى ينزل البول من المثانة، ذلك لأن الصمام البولى للمثانة يكون آنذاك تحت تأثير الإشارات العصبية القوية مغلقا بإحكام وبحسم وحزم، ولا يأذن للبول بالمرور إلا بعد دقائق، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء حتَّى أعضائك الداخلية، وسبحان من إليه يُرجع الأمر كله، كما أن الماء يساعد على سيولة الدم، فيسهل تدفقه فى الأوعية الدموية، (المرجع الموسوعة الإسلامية الكبرى – الإعجاز الطبى فى القرءان د/السيد الجميلى طبعة 1980)،.
 
ويوجد بكل كلية مليون وحدة لتصفية الدم، ويرد لكل كلية 1800 لتر دم يوميا يرشَّح منه 180 لترًا، ثم يُعاد امتصاص مُعظمه إلى الأنابيب الكلوية ولا يخرج إلا 1،5 لتر بول يوميا.