الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

التوظيف السياسى للهجوم على التراث الإسلامى

التوظيف السياسى للهجوم على التراث الإسلامى
التوظيف السياسى للهجوم على التراث الإسلامى




كتب: د.عبدالله النجار
لا يمكن فصل ظاهرة التشكيك فى كتب التراث الإسلامى ورموز الأمة الذين صنعوا هذا التراث عن التوظيف السياسى الذى أصبح فى أيامنا هذه غاية ميكيافيلية تبرر جميع الوسائل التى توصل إليها حتى ولو كان ذلك على حساب قيم الأمم ورموزها، بل حتى ولو كان على أسباب بقائها، ومن المعلوم أن تراث أى أمة إنما هو تسجيل عملى لنشاط عقلها وما ينتجه هذا العقل من أفكار ومبتكرات، بل ومخترعات تتعلق بأسرار الله فى الخلق والكون، وهذا التسجيل لا يخرج عن كونه عملاً بشريا، شأنه كأى أمر من أمور الدينا والحياة، لا يتمخض عن مصلحة خالصة، أو صواب خالص، ولكنه كغيره من شئون الحياة وأمورها يتضمن من الأمور ما يجمع بين المصالح والمفاسد فى كل أمر على حدة، فى الطعام والشراب والعلاج والفكر والعلم، وجميع أمور الحياة، ولهذا بنيت أحكام التشريع الإسلامى على اعتبارا حجم المصالح فأرشدت إلى رعايتها، واعتبار ارجح المفاسد فأوجبت الابتعاد عنها، لكن يبقى وجود المفسدة القليلة أو المرجوحة مع المصلجة الراحجة أمرًا واردًا، ولا يقدح فى مشروعيته ما غلبت المصلحة فيه على المفسدة، والرأى العقلى، فى ذلك كالفهم الفقهى، حيث يراعى صاحب الرأى ما ترجح فيه المصلحة على المفسدة، كما يراعى الفقيه فى فهمه هذا المعنى، فلا يجوز أن يرد رأيه مقررًا لما تغلب فيه المفسدة على المصلحة ذلك من وجهة النظر العقلى الخالص الذى يدرك ما فى الأمور من المفاسد أو المصالح.
أما من جهة الشرع، فإن تقرير المصلحة قد يكون معتبرًا بتقدير شرعى يتعين على العقل أن يقف عدنه ولا يتجاوزه، لأن الوقوف عن تقدير الشرع للمصلحة فيه يكون عاصما لصاحبه من التحيز، أو الانقياد للهوى أو لداعى الشهوة أو الانتقام أو ما إلى ذلك مما يجر صاحبه جرا إلى تنفيذه دون تدبر لعواقبه وما إذا كان مؤديًا إلى مآلات ضارة، يتعذر النظر إليها فى ظل اندفاع الإنسان وهو جر إلى ما يشبع فيه شهوات الطبع أو نوازع الانتقام.
وإذا  كانت مكونات التراث تمثل فى الأغلب الأعم منها نتاج عقول قد تصيب وتخطئ فيما عدا وحى السماء وما نزل من عند الله كتابًا وسنة.. وهى فى حال إصابتها قد تكون محكومة بزمان معين، أو مكان معين، أو واقعة بعينها، فإذا ما تغير الزمان أو المكان أو الواقعة، فإن التمسك بها قد يكون متناقضًا أو غير ملائم للواقع الجديد، ولهذا كان من الضرورى إعادة النظر فى تلك الأحكام بقصد إحداث الانسجام بينها، وبين واقع الحياة ومستجداتها، وهذه الإعادة، وان كانت تمثل ضرورة فقهية، فإنها - فى نفس الوقت تمثل ضرورة شرعية تصل الدين بالدنيا، وتربط بين التشريع وواقع الحياة، وذلك مقصود شرعًا، لأن الله قد جعل الإسلام خاتماً للأديان، ولهذا كان من اللازم أن يكون حاكمًا لكل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى فى قول الله تعالى «فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره»، ومن المعلوم - بداهة - أن تجديد التناول الفقهى الذى يرمى إلى نزال النص التشريعى على الواقع الجديد للحياة، إنما يهدف إلى أمرين: أولهما: تطبيق النص التشريعى الذى نزل به وحى السماء على واقع الحياة فى كل زمان ومكان وفقًا لما يريده من إنزال التشريع سبحانه. وثانيهما: استلهام الأدوات التى تم بها تفسير النص، والتى تم بمقتضاها إنزاله على الوقائع السابقة، لأن تغير الواقع لا يسحب الصحة من أدوات الاستنباط والفهم التى أحاطت بالنص التشريعى، لأن تلك الآليات إذا كانت قد انتجت الحكم السابق وفقًا لعلة معينة، فإن نفس الأدوات ـ هى بذاتها ـ  تقدر أن تنتج لنا حكمًا مغايرًا على ما يشبه الواقعة السابقة إذا تغيرت العلة، واختلفت المسألة فى الزمان الذى يطلب بيان الحكم فيه، فإن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدماً، كما أن الحكم يتغير بتغير الظروف المحيطة به من جهة عوارض التكليف كالصحة والمرض، والسفر والإقامة، ووجود الاستطاعة وعدم وجودها، وغير ذلك من الأسباب التى تؤدى إلى تغيير الحكم الشرعى فى الشخص الواحد والواقعة الواحدة.
ولهذا كان التراث قيمة حضارية وعملا إنسانيًا خلاقا يجب التعامل معه بأدب وحرص وليس بأسلوب جاهلى يريد نسف كل شىء لبدء آليات جديدة قد تكون من حيل الشيطان أو من تآمر الذين يريدون نسف كل قديم يشكل هوية الأمة حتى تصبح مجهولة النسب فيخلقون لها نسبا جديدا مزيفا بعيدا عن أصلها الصحيح، وسياقها الأمين، إن وجود ما يقتضى تغيير بعض الأحكام التى تغير زمانها ومكانها أو عوارض أشخاصها، لا يعنى أن ننسف التراث، لأن مهمته مازالت باقية، وتمثل مقدمة ضرورية للتراكم المعرفى فى التشريع الإسلامى، بل وفى غيره من التشريعات الوضعية، بل وتعتبر طريقا ممهدًا لمرور المعارف والثقافات عبر الأجيال، ولا يجوز أن يوصف التراث بالنقص، أو بالتخلف، ولو صدر هذا الوصف عليه، فإنه يكون وصفا جهولاً لا يصدر إلا من جاهل بحقائق الأمور وأصول الأشياء، إذ لولا ما تضمنه ذلك التراث من الفروع التى تغيرت أو يتعين أن تتغير وفقا للواقع الجديد، لما ملك هؤلاء الناقدون الساخطون على التراث والمحتقرون له، مادة لفلسفتهم الفارغة، أو فرصة لإطلالاتهم البليدة على الناس ليتشدقوا بهذا الكلام الفارغ الذى يخرفون به على الشاشات أو عبر القنوات، وكأنهم عباقرة العصر، المبشرون بالفتح الفكرى الجديد، وهم أبعد ما يكونون عن مكونات التفكير السليم، أو مقدمات الفهم الرشيد، وربما كان بعضهم أشد جهالة من الجهل نفسه، ويظن أنه من أعلم العلماء وأعظم البلغاء، وأفصح الحكماء، ومن المؤكد أن ما يرجح ذلك المظهر المثير للشك فى تلك الحملات الشوهاء على التراث وأهله ورموزه، أنها جاءت متزامنة، ومتواكبة مع نزعات من مثلها تدعو إلى وقف تسلسل التراكم المعرفى، وقطع صلة الحاضر بالماضى، وتأليبه عليه، ليس فى كتب التراث، ورموز الإسلام الذين صنعوا أمجاده فقط، بل فى العلاقة بين أصحاب الفضل ومن شملهم هذا الفضل. وأصبح من العادى أن نجد تلميذًا يسب أستاذه، ومأموما لا يحترم إمامه، بل وترى من ينتسب للإسلام يسب رموزه، ويقدح فى سيرة قواده ورواده، وأصبحت السمة الغالبة فى هذا الجو التخريبى لتاريخ الأمم ومسخ هويتها هو نسف الماضى بكل ما فيه ومن فيه، وإهالة التراب عليه، حتى يتصرف المحرمون أصحاب هذا المسلك التخريبى وفقا لما يريدون، أو يريد أولئك الذين حبذوهم بالأجر ليكونوا أدوات تقدم لهم بلادهم بالمفتاح، وهى بلا هوية ثقافية أو خلفية تراثية، فيسجلونها باسمهم كما يسجل اللقيط باسم من يتنباه، ولعل ذلك هو أهم وأخطر ما يستهدف من الهجوم على التراث وأهله ورموزه، وجميع صناع الحضارة فى الأمم.
إن الهجوم على التراث لا يتصور حدوثه إلاَّ من جاهل أحمق خائن، إذ لولا الماضى بتجاربه وتراكمه المعرفى ما استطاع الحاضر أن يستلهم الرأى الصحيج لمستقبله، ولغدا من اليسير على من يريد افتراس أمة والانقضاض على خيراتها وأرضها وبلادها أن يفعل ما يريده من غير مقاومة، لأن الطفل الذى فقد أصله ونسبه ونسيه أهله، يسهل عليه أن يسلم نفسه لمن يأخذه، وينقاد مستسلما لمن يمسك بيده من غير مقاومة.
ولا يجوز النظر إلى ظاهرة التطاول على التراث وإهالة التراب عليه بعيدًا عن ذلك التوظيف السياسى الذى لا يخدم الدين أو تراثه أو يمثل حبًا له أو غيرة عليه كما يزعم المشوهون له، وإنما يخدم الطامعين فى بلادنا، ولهذا علت نبرته واسترجل صبيته فى وقت متزامن مع تلك الهجمات الفوضوية التى تتم بتدبير من القوى الاستعمارية على الأمة الإسلامية، إنهم أجراء يؤدون مهمة خئونة يقدمونها بخبث ودهاء ومكر ونفاق يزعمون فيه أن غايتهم التنوير والقضاء على الإرهاب والإرهابيين، وهم لا يقلون خطرا عنهم لأنهم يقدمون بلادهم على طبق من فضة لمن يدفع من المستعمرين، وتلك هى غاية الإرهاب والإرهاب المضاد، وكلاهما شر مستطير.