الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الظلاميون.. والمرأة

الظلاميون.. والمرأة
الظلاميون.. والمرأة




كتب: عاطف بشاى
الإسلام الوسطى الذى نعرفه ويؤمن به الملايين دين سمح يحب المرأة كما يحب الجمال لأن الله جميل يحب الجمال فكان عامة النسوة فى عصر النبى - صلى الله عليه وسلم - سافرات كاشفات الوجوه والأيدى ومعروفات بملامحهن الظاهرة ومنهن من كانت توصف بأنها سعفاء الخدين أوبيضاء أو سوداء.. وكانت «حبيبة» بنت «سهل الأنصارى» زوجة «ثابت بن قيس» معروفة بأنها جميلة.. وكذلك عائشة بين طلحة التى قالت لزوجها.. «مصعب بن الزبير» عندما عاتبها على تبرجها: «إن الله وسمنى بمسيم الجمال فأحببت أن يراه الناس فيعرفوا فضله عليهم وما كنت لأستره.
أما ولادة بنت المستكفى - الشاعرة الجميلة - والتى كانت بغية الكثير من الشعراء الذين يتهافتون إلى مجلسها فى صالونها الأدبى والذى سبق صالون «مى زيادة» بقرون طويلة ليمتعوا أنظارهم بها وليتغزلوا بجمالها ورقتها وحسنها ودلالها.. وكانت هى فى المقابل - ومثلما كانت تفعل مى. تشعر كل شاعر منهم بإعجابها الخاص والأثير به، متلاعبة بمشاعرهم ليجودوا بأجمل ما فى قريحتهم فى تحريض سافر مرددة:
«أمكن عاشقى من صحن خدى / وأعطى قبلتى من يشتهيها».
وقد هام حبًا بها «ابن زيدون» الشاعر المبدع.. كما هام «العقاد» و«جبران خليل جبران» و«ولى الدين يكن».. و«خليل مطران» و«إسماعيل صبرى» و«لطفى السيد» بـ«مى زيادة».
وقد ألهمت «ولادة» ابن زيدون قصيدته النونية الشهيرة التى قال فيها:
فليبق عهدكم عهد السرور/ فما كنتم لأرواحنا إلا رياحينًا/ والله ما طلبت أهواؤنا بدلًا / منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا.
ولا ننسى أن قال سبحانه «قل من حرم زينة الله.. التى أخرج لعباده الطيبات من الزرق.. قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون.. (الأعراف 32).
أى أن الفكرة الإسلامية فى الزينة تقوم على حرية الإنسان فى تحقيق الجمال والإعلاء من قيمته الإنسانية التى خلقه الله عليها احتفالًا بالحياة وتوقًا للبهجة والسعادة.
لكن طيور الظلام وخفافيش الكآبة من التكفيريين الذين انقضوا علينا فى زماننا التعس هذا سلكوا سلوكًا بغيضًا فخلطوا خلطاَ شائنًا بين العقيدة وبين المسلمات المرتبطة بتصورات وأفكار وتعاليم ووصايا ومحظورات الشيوخ وكهنة المنع والتحريم فى ظل سيطرة كاملة ومتأصلة للغيبيات والخرافات على الأدمغة والعقول حيث الإهتمام بالقشور لا.. الجوهر.. السطح لا المضمون.. الارتداد للخلف لمئات السنين حيث أصولية كريهة متشددة.. تتبدى فى أوضح اشكالها فى موقف هؤلاء الظلاميين من المرأة.. فهم يحتقرونها ويحطون من شأنها ويحاولون أن يدوسوا على مكتسباتها وحصرها فى مجرد أنثى محرضة على الفجور.. ولا بد درءًا للفتنة أن ترتدى أكفانًا متراكمة تخفيها عن الناظرين وتبعد شرها عن المؤمنين خوفًا عليهم من الزلل الذى يستوجب نار جهنم وبئس المصير.. وذلك دون أن يدركوا أنهم بذلك أيضًا قد أهانوا الرجل واختصروا وجوده فى عضوه الذكرى فوصموه بالحيوانية حيث ما إن يرى أنثى - أى أنثى - تتحرك فى الشارع حتى تنهار إرادته.. وتتداعى إنسانيته ويفقد فى لحظة واحدة قيمه ومبادئه وأخلاقه وكيانه الاجتماعى.. فينقض عليها ليفرغ شهوته على قارعة الطريق كالكلاب الهائجة.
وبناء عليه فليس بجديد أن نورد كما أوضح صفوة علماء الدين المستنيرين فساد الفتاوى القاتلة بفرضية النقاب.. حين كان مطلوبًا فيما مضى للتفرقة بين الإماء والحرائر بينما لم يعد فى عصرنا إماء أوحرائر.
يذكرنى هذا برواية نجيب محفوظ البديعة «حضرة المحترم» التى حولتها إلى مسلسل كتبت له السيناريو والحوار.. كان بطل الرواية «عثمان بيومى» الموظف الصغير المتحفظ الطامح إلى منصب المدير العام الذى يرسم نجيب محفوظ شخصيته كمؤمن بنفسه بلا حدود.. ولكنه يعتمد فى النهاية على الله ذى الجلال.. لذلك لا تفوته فريضة خاصة صلاة الجمعة فى جامع الحسين.. كإيمان أهل حارته.. لم يكن يفرق بين الدين والدنيا، فالدين للدنيا والدنيا للدين».. وجوهرة متألقة مثل درجة المدير العام ما هى إلا مقام مقدس فى الطريق اللانهائى، وفى سبيل تحقيقه تلك الأمنية الغالية فقد عكف على دراسة خطة دقيقة للمستقبل ترجمها فى ورقة عمل ليذاكرها كل صباح قبل انطلاقه إلى العمل، منها التقشف.. فلم يعرف من عالم اللهو إلا زيارته الأسبوعية للعاهرة «قدرية» فى درب البغاء.. وشرب قدح النبيذ الجهنمى بنصف قرش.. إنها الترفيه الوحيد فى حياته الشاقة والتى يذهب إليها متخفيًا فى الظلام حيث إنه «ذو خلق ودين وسمعة طيبة يجب المحافظة عليها» يواظب على هذه الزيارة الأسبوعية سنوات طويلة حتى يصير كهلًا وأعزب بدرجة وكيل إدارة.. وفى ليلة حمله الليل - كالعادة الرتيبة - إليها فى حجرتها العارية تفاجئه بالقرار العسكرى بإلغاء البغاء (وزارة إبراهيم عبدالهادى باشا 1949).. وترفض أن تعطيه عنوان بيتها مؤكدة أنهن سيخضعن لرقابة مشددة، وحينما يسألها عما ستفعل تردد بثقة أنها ستتزوج لم يبق لها إلا الزواج.
يشعر بوحدته وضياعه ويأسه ويقرر الزواج بها، وهويترنح تحت تأثير السكر.. فلما أفاق فى الصباح فى فراشها بمنزلها أيقن هول ما أقدم عليه.. ومن الإنصاف أن يعترف بأنه مجنون ليتزوج «كهلة نصف سوداء فى ضخامة بقرة مكتنزة تحمل فوق كاهلها نصف قرن من الابتذال والفحش».
ما يلبث أن يقرر الابتعاد بها فى حى جديد ويستأجر «شقة» بروض الفرج ويلزمها بالنقاب باسم الحشمة فى الظاهر.. وفى الحقيقة خوفًا من أن تقع عليها عين زبون قديم أو حديث.. وينصحها بتجنب الاختلاط بالجيران.. وكان يخشى أن يقع خلاف بينها وبين إحدى الجارات فتنسى تحفظها وتنفجر براكين الفحش الكامنة فى أعماقها.
هكذا رأى «نجيب محفوظ» أن وظيفة النقاب - عندما كتب الرواية معبرًا عن حال الناس فى الأربعينيات - تتركز فى الإخفاء والتمويه والخداع الذى يستر العورات ولا يشى بماض شائن لعاهرة تائبة.. وهو إذا كان حالة استثنائية خاصة.. فالنساء فى ذلك الزمان كن سافرات ولا يخجلن من سفورهن، وثقافة الحلال الحرام لا تسيطر على الأدمغة.. والحياة جميلة والألوان زاهية والأضواء ساطعة والمباهج عميمة والفرح بالوجود يعلن عن نفسه فى جلاء وحبور.