الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

ثورتان بينهما مرشد وإمام فى مصر و إيران




 دستور 1989 يقر السلطة المطلقة للمرشد!
 
بحثت كثيرا طوال الفترة الماضية.. أيها تأثر بالآخر.. الإمام «الخومينى» وعقيدة وطنه فى إيران.. أم «حسن البنا» وجماعته فى مصر؟! فالهيكل التنظيمى والأفكار التى جرى بها تأسيس «الجماعة».. تبدو بعيدة عن الفكر الدينى ولا الجماعات الدعوية فى مصر.. تبدو أقرب إلى النظم الشيعية.. فنحن لا نعرف فكرة الإمام أو المرشد أو «آية الله».. ولا نعرف كهنوتا، ولا مكتبا للإرشاد.. ولا نستسيغ ولا نعترف ولا يطالبنا ديننا بـ«السمع والطاعة» لبشر أيا كان وضعه ووصفه وقيمته.. ولا نفهم فكرة الأسر الهرمية.. والمسئوليات التصاعدية داخل التنظيم.. التى تحوله إلى ما يشبه الستار الحديدى الذى لا تستطيع منه فكاكا.. لا نعرف فكرة «الرتبة» داخل أى تنظيم.. فـ«الرتب» فى يقيننا أمور تنفرد بها المؤسسات العسكرية فقط.. من أين جاء «البنا» بفكرة هذا التنظيم الهرمى «الهيكلى» لجماعته؟ فى العشرينيات القرن الماضى.. بكل ما اعتمل فيها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.. لم تكن فكرة الهيكل التنظيمى بهذا الشكل رائجة أو حتى مطروحة، ناهيك عن ان تكون مألوفة.. وباستثناء كيانين فقط، لم تعرف التنظيمات الدينية أو السياسية أو السرية هذا النوع من الترتيب الهرمى للتنظيم أو الجماعة.. هذان الكيانان: أحدهما دينى، وهو الحركة الشيعية فى إيران.. والآخر سرى، هو الحركات الماسونية!
 
ولاية الفقيه وطاعة المرشد!
 
عندما خرج أحد «الولاة» فى طهران بعد الثورة.. يخطب بالعربية محييا المصريين على ثورتهم الإسلامية.. استفزت كلمات الرجل جموع المصريين، إلا «جماعة الإخوان».. التى رحبت بالكلمة.. بل وسارعت بالذهاب للحصول على «البركة» من طهران.. وبدا المصريون فى عمومهم غير مطمئنين لما يجرى وراء ستر سميكة تحجب الرؤية كثيرا.. وبدأ النبش فيما حدث فى إيران من أكثر من 30 عاما.. وكانت الصخرة الأولى التى اصطدم بها «النابشون» فى الأمر.. مسألة الولى الفقيه، أو ولاية الفقية، أو نظام آيات الله.. ولاية الفقيه فى إيران.. نموذج وقف الكثير من المصريين متحيرين أمامها.. مشاركة الولى الفقيه فى الحكم.. وهو نموذج فريد، لن تجده فى أى نظام حكم فى العالم.. الولى الفقيه أو آية الله فى إيران، فكرة سياسية قامت بانتهازية شديدة على أكتاف العقيدة الدينية الشيعية.. فالإمامة عند الشيعة، من أجل الأمور العقائدية تأتى فى ترتيب أهميتها بعد الرسالة نفسها.. وهى فرض لا تقوم الفرائض ولا تقبل إلا به.. والإمام عند الشيعة عامة، مكانه على رأس الجماعة الإسلامية حاكما وفقيها.. موهوب من الله بقوى روحية فائقة تسمو به عن مستوى البشر.. فروحه أنقى من روح المواطنين العاديين، تخلو من نزعات الشر.. وتتحلى بالصفات القدسية.. وبعض متعصبى الشيعة يرتفعون بالإمام «على» والأئمة من بعده، إلى مراتب تجعل منهم صوراً يتمثل فيها الجوهر الإلهى ذاته.. فيرون أن جثمانية هذا الجوهر ليست سوى حادث عارض!
والإمام عند الشيعة، إضافة إلى أنه معصوم من الخطأ، فهو يتوارث علما باطنيا وآيات رمزية متواترة.. تشمل حقائق الدين وكل حوادث الدنيا.. ومن هنا فلا يصح عند الشيعة الفصل فى المسائل الدينية إلا برأى الإمام.. ولا يكون للإجماع – وهو من المبادئ الأربعة المتفق عليها – قيمة إلا بمساعدة ومعاونة ورأى الإمام.. وهناك بعض الطوائف الشيعية التى تعتقد بخلود الإمام.. ثم عودته ليملأ الأرض عدلا بعد امتلائها ظلما..
 
 
 
 
 
 
عندما قامت الثورة الإيرانية.. التى بدأ غليانها فى العام 1977 بزعامة قوى يسارية وقومية تحالفت معها بعض القوى الدينية لإسقاط حكم الشاه.. وانتهت فى العام 1979 إلى خلعه.. لم يكن أبدا ضمن مطالبها أن تكون إيران دولة إسلامية.. يحكمها دستور دينى.. ويقبع على قمة هرمها «آية الله».. ولا كانت شعاراتها تحمل عبارة «الإسلام هو الحل».. ولا كان فى صفوفها الأولى أولئك الذين كفروا مجتمعاتهم.. أو طالبوا بإقصاء أفراده.. لكن فى لحظات الذروة لاشتعال الثورات أو الانتفاضات الشعبية.. يكون من السهل استدعاء العقيدة الدينية الساكنة فى قلوب البسطاء.. وعندما تكون تلك الثورات أو الانتفاضات بلا زعامة أو قيادة واضحة.. تجرى على الفور عملية استحضار زعامات دينية أو ترفع شعار الدين.. وتلك حيلة قديمة جدا.. استخدمت عشرات المرات فى عشرات الثورات التى حدثت فى تاريخ البشرية.. لذا لم يكن صعبا فى النموذج الإيرانى.. أن تجرى بسرعة عملية إلباس هذه الثورة - التى خرجت بمطالب لا تختلف كثيرا عن مطالب ثورة 25 يناير 2011 فى مصر – لباس الدولة الدينية التى يحكمها «آيات الله».. الخومينى ومن جاءوا بعده!
 
الخومينى يقتبس من «البنا»!
 
أما المدهش بالنسبة لى فكان، ما أوردته بعض الدراسات والأبحاث.. عن الإعجاب العميق الذى تمكن من «الخمينى» فى منفاه بفرنسا، بأفكار «حسن البنا» مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.. هذا الإعجاب الذى انعكس فى صورة تسجيلات صوتية للخومينى نفسه.. يورد فيها كل أفكار «البنا».. التى لاقت هوى عنده.. مثل استاذية العالم.. وتحديد مهام للنساء فى دولة الإسلام الجديدة.. وضرورة الخلاص من العضو الذى يخرج عن الجماعة.. حتى ولو بقتله.. لأنه يفسد المجموع.. تلك الأفكار التى تحولت إلى خطب ملتهبة على شرائط كاسيت بصوت الخومينى.. بدأت عملية تهريبها إلى داخل إيران.. فى اللحظات الحاسمة من الثورة منتصف العام 1978.. وتم توزيعها على نطاق واسع، فى القرى والأحياء الفقيرة فى أنحاء إيران المختلفة.. تلك التسجيلات التى تركت أبلغ الأثر فى نفوس مستمعيها من البسطاء.. وكان الخومينى يدرك جيدا وهو يقوم بتسجيلها، أى أثر سوف تؤتيه.. وأى نتيجة سوف يصل إليها.. بينما لعب أئمة المساجد المنتشرة فى كل مكان دورا كبيراً فى غسيل أدمغة أولئك.. جرى التبشير بالخومينى.. واعتباره ملهم الثورة وقائدها المنتظر.. وعلى مدار أشهر ليست بالطويلة.. كان العقل الجمعى للإيرانيين البسطاء مستعدا تماما لعودة الخومينى.. باعتباره قائد الثورة الملهم.. بل لا اتجاوز إن قلت إن أولئك البسطاء باتوا يطالبون بعودته.. حدث هذا والثوار المناضلون من اليساريين والليبراليين منهمكون فى معركتهم الكبرى لإزاحة الشاه.. والقصاص للشهداء من طلبة الجامعة الذين كان يتم قتلهم على مدى أشهر سابقة.. ولما انتهى العام 1978.. لم يكن هناك خيار أمام الشاه.. كان لزاما عليه مغادرة إيران.. وبينما كان الشاه والشاهبانو يغادران إيران فى 16 يناير 1979.. كان الخومينى يستعد للعودة إلى طهران التى هبط إلى أرضها فى 1 فبراير من نفس العام.. أى بعد اسبوعين تقريبا من رحيل الشاه.. لتنطوى صفحة الثورة الإيرانية.. ومطالب العدالة والحرية والتغيير.. وتفتح صفحة جديدة للجمهورية الإسلامية.. جمهورية «آيات الله» التى لا مكان فيها لرفاق الأمس.. فتلك جمهورية لا تحتمل ليبراليين ولا يساريين ولا بدعة الديمقراطية!
 
 
 
 
 
 
ازدواجية المرشد والرئيس!
 
وجرت بسرعة عملية التخلص من رفاق الأمس – اليساريين والاشتراكيين والليبراليين – الذين تم اعتبارهم معارضين للشرعية.. وفيما أسماه الخومينى «الثورة الثقافية الخومينية فى الجامعات الإيرانية» جرت عملية «تطهير» واسعة لكل المعارضين للسلطة الدينية.. وهم أنفسهم الذين كان يجرى قمعهم وحصارهم من حكومات الشاه المتعاقبة قبل الثورة.. بينما كان المجال متاحا أمام المعارضة الدينية.. التى غازلت الفقراء وحصدت تعاطفهم.. بعض الإبعاد لبعض الرموز الدينية.. وبعض الاعتقال لغيرهم، لا يضير!
 
أما الموضوع الأكثر جدلا.. فى إيران وغيرها.. والذى ظل لسنوات طوال محلاً للدراسات والأبحاث فهو «ازدواجية المرشد والرئيس».. وهو موضوع يحسن بنا الحديث عنه لأنه يبدو أن الأمور تنزلق بنا نحو نفس الهوة السحيقة.. التى دخلتها إيران منذ 30 عاما.. ويبدو أنها على مشارف الخروج منها فى المستقبل القريب.. يقول د. أحمد لاشين الباحث المتخصص فى الشئون الإيرانية فى دراسة له حملت نفس العنوان: منذ قيام الجمهورية الإيرانية الإسلامية عام 1979، وهناك جدل دائر حول صلاحيات منصبى المرشد (الولى الفقيه) ورئيس الجمهورية.. فعندما بدأت التعديلات الدستورية عام 1989، التى تمت بعد وفاة الخوميني.. لم يكن قد حُسم بعد أمر صلاحيات الولى الفقيه، فنظرية الخومينى عن الولاية المطلقة للفقيه، وسلطاته اللامحدودة.. كانت مثاراً لجدل طويل بين مختلف آيات الله الكبار، أمثال آية الله حسين منتظري، وآية الله شريعت مداري، واللذين عارضا بقوة فكرة الإطلاق، خاصة منتظري، وكانت نتيجة ذلك وضعه تحت الإقامة الجبرية وعزله من منصب نائب المرشد.. إلا أن تلك الخلافات ما كان لها أن تؤثر بشكل جذرى فى بناء الثورة الإيرانية.. فكاريزمية الخومينى ومكانته كانت كفيلة بتنحية أى خلاف واعتباره هامشياً.. ولكن أفكار الخومينى عن سلطة رجال الدين.. وعدم تنحيتهم مرة أخرى عن الحياة السياسية كما تم فى عهد الشاه، جعل الولاية المطلقة للفقيه تظهر ثانية على ساحة التشريعات السياسية خاصة فى أواخر حياته.. وبعد وفاته
.
دستور 1989 يقر السلطة المطلقة للمرشد!
 
أتت صياغة دستور 1989 وقد أقر تماماً ولاية الفقيه المطلقة.. الغريب فى الأمر أن على خامنئى حينما نال منصب المرشد كان لم يحصل بعد على لقب آية الله.. بل كان حجة الإسلام فقط، مما شكل خطراً حقيقياً على مكانته السياسية النابعة من هيبته الدينية ونفوذه.. وقد كان هذان العنصران مفتقدين بشكل ما لدى خامنئي.. لذلك رغم تمتعه بسلطته السياسية كاملة.. إلا أنه لم يحقق نفس تلك المكانة داخل السياق الديني.. والتى حققها الخومينى.. فظل خامنئى مجرد مرجع تقليدى من ضمن عديدين لهم نفس مكانته الدينية أو أكثر.. وكان لهاشمى رفسنجانى الدور الأكبر فى تولية خامنئى منصب المرشد..
 
 
 
 
 
 
أما ملحوظتى التى لم أستطع الاستدلال على كنهها، فهى أن كلمة «مرشد» لم تكن ضمن المصطلحات الفارسية أو الشيعية المستخدمة فى اللغة الإيرانية.. لا سيما فى تلك الفترة.. فهل كانت ضمن ما اقتبسه الخومينى من «البنا»؟ ولا حتى التريب الهرمى للولاه والأئمة فى السياسة له علاقة بالفكر الشيعى.. ولا كانت سلطة الولى الفقيه أو «آية الله» كانت مطلقة بهذا الشكل.. تقوم على مبدأ السمع والطاعة.. دون اكتراث بمبدأ الإجماع.. وهو أحد المبادىء الأربعة المتفق عليها عند الشيعة!!
 
فالدولة الدينية الإيرانية بتجلياتها الخومينية.. جرى تأسيسها بناء على سلطة الفقيه المطلقة.. ورؤيته الخاصة به فقط والواجب تطبيقها على الجميع بلا استثناء.. فهو الأعلم بمصالح الأمة القاصرة حتى عن الوعى بمصالحها.. ولأن الثورة الإيرانية دفع الشعب الإيرانى فيها الكثير من دماء شبابه.. فإن أفكارا من هذا النوع كان منطقيا أن تلقى معارضة.. وأن تخرج بعض الحركات الرافضة لفكرة الوصاية على حياة الإيرانيين السياسية والاجتماعية.. تلك الحركات التى أنبتت صراعا مع النظام الإيرانى الذى تشكل بعد الثورة.. والذى انتهى بإيران إلى هوة سحيقة فى ماضٍ بعيد!