السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الاستقامة والعمل الصالح






من بين ما ننتهجه فى حياتنا وأفكارنا تصورنا للعمل الصالح أنه الاستقامة، وأن الاستقامة عمل صالح، وهذا خلط عجيب، إذ يبقى العمل الصالح فى أبهته برجا عاليا شامخا، بينما أصحاب الاستقامة هم الذين يمهدون بالاستقامة لخصوبة ينشدونها ليكونوا من أهل العمل الصالح.
 
فالاستقامة هى أداء الفرائض والامتناع عن المعاصى، فمن كانت هذه حاله كان من أصحاب الاستقامة، وهو يقع فى المعصية أحيانا بغير عمد، لكنه يتوب من قريب، لكن العمل الصالح هو الإبداع فى رضوان الله، وهو الثمرة الخالصة للاستقامة، ولا يكون العمل الصالح إلا تفانيا فى رضوان الله، ولا تكون الاستقامة إلا استجابة لتعاليم الله.
 
فالصلاة والصوم والزكاة والحج من أعمال الاستقامة، وهى عوامل مساعدة للوصول إلى العمل الصالح، فهى الفرائض التى افترضها الله علينا لتأهيلنا لنكون عبادا صالحين، لكنها ليست الصلاح، ولا هى الأعمال الصالحة التى عناها القرءان، فالأعمال الصالحة هى تلك التى ينشدها المسلم ليرتقى ليكون مؤمنا، ثم يرتقى ليكون تقيا، ثم يرتقى ليكون محسنا، فذلكم الإبداع الذى ينتهى بالعبد ليكون من الصالحين الذين تتطلع إليهم همة الرسل وأهل القدوة والرضوان.
 
فالصلاة تؤهل العبد لينتهى عن الفحشاء والمنكر، وهى من أمور الاستقامة، حيث يقول تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }العنكبوت45؛ فالصلاة عامل مساعد للعبد لينتهى عن الفحشاء والمنكر، لذلك فكلما أكثر العبد من السجود فإنه يدخل دائرة الاستقامة التى أرادها الله للمبتدئين، حيث نهى سبحانه عن الفحشاء والمنكر قائلا: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}النحل90.
 
والصوم من أعمال الاستقامة أيضا، وهو يؤهل للتقوى، وذلك من قول المولى عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183؛ لذلك فإنه كلما أكثر العبد الصوم كلما ارتقى فى التأهل لدرجة التقوى، فالصوم عامل مساعد للوصول إلى ذلك.
 
والزكاة أيضا من أعمال الاستقامة المؤهلة للصلاح، والمؤهلة لرحمة الله ولدخول الجنة، حيث يقول تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}النور56؛ فهى إحدى وسائل الوصول إلى رحمة الله، والشعائر جميعا من أعمال الاستقامة.
 
ومن بين أعمال الاستقامة الوصايا العشر التى أوحى بها الله إلى موسى، ونفذها عيسى، وأنزلت على محمد بالقرآن، حيث يقول تعالى بسورة الأنعام: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{151} وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{152} وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}153؛ وكلها أعمال سلبية أو إحقاق لحق قائم لا يجوز الحَيْد عنه.
 
وأعمال الاستقامة المذكورة تصورها الناس أنها الصلاح، لكن رؤيتى للصلاح والعمل الصالح أكبر بكثير من أداء فرائض جبرية لازمة، فتلك الفرائض من رحمة الله بنا ليؤهل عزائمنا لحسن استقبال الصلاح والإبداع فيه، وليست هى العمل الصالح، إنما هى مهد للأعمال الصالحة، ومن الجدير بالبيان أن اجتناب الكبائر من أعمال الاستقامة ويؤدى إلى تكفير الذنوب.
 
ولابد أن نميز بين الفرائض والواجبات، فتكليف الله للعباد لأداء الفرائض، أمر يدخل فى طاقة كل العباد، لكن ما عدا ذلك من أمور أوجبها القرءان، فهى لا تنطبق إلا على من يستطيع، فتلاوة القرءان وتدبره من الأمور التى قد لا تدخل فى طاقة وإمكانية الكثير من أهل الأرض، لكن من كانت فى طاقته فإنه يحاسب على هجرانها وعدم أدائها، وذلك لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }البينة5؛ فإخلاص العبادة أن يبذل العبد قصارى جهده لأداء تكإلىف أوجبها الله عليه، وتلاوة القرءان وتدبره من بين ما أوجبه الله علينا، وذلك من قوله تعالى فى سورة النمل: ِ{انَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{91} وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ{92}؛ لكن الخلق الحسن وهو من أعمال الصالحات لكنه فى مُكنة البشر جميعا، بل يمكنهم تنميتها فى نفوسهم إن أرادوا فلاحا.
 
والوفاء بالعهد من الواجبات لكنه قد لا ينطبق على كل الناس، ويحاسب العبد المستطيع الوفاء على تركه، وهو من أعمال الاستقامة، وأعمال الاستقامة عموما يمكن حصرها من خلال كتاب الله، فهى ليست مثل أعمال الصلاح التى لا تقع تحت حصر، ومنعا للإطالة سأكتفى بما ذكرت من أمثلة الاستدلال على عناصر أعمال الاستقامة وأثرها على العبد.
 
ومن يقوم بأعمال الاستقامة فهو مسلم حسن الإسلام، وهو فى حد الكفاف بالنسبة لرضوان الله، وذلك من قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ }الحجر2؛ فهو الذى أسلم قياده لتعاليم الله، ولكنه ليس بمؤمن كامل، وأعمال الاستقامة تؤدى للهداية، ولدخول الجنة فى درجتها الصغرى، ويرجى منها الولوج إلى ساحة العمل الصالح والدرجات العلا، وقد جعل الله دواء القلب فى الشعائر» من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فإن فعل العبد ذلك بإخلاص كان ذلك خلاصا» لأمراض قلبه وبذلك يستطيع ممارسة الإسلام عمليا».
 
وأعمال الاستقامة أعمال سبق أن خطَّها الله للعباد ليحتذوا بحذوها، وينفذوها وفق ما بيَّنه لهم الرسول، وأولها الإيمان بوحدانية الله، والإيمان باليوم الآخر، فليس فى الإسلام والانقياد لله إيمان بوحدانيته مشكوك فيه أو إيمان بوحدانيته قدر الطاقة، كذلك ليس هناك إيمان باليوم الآخر والجزاء قدر الاستطاعة، لكنه تسليم مطلق، وذلك أول أعمال الاستقامة التى لا يقبل للمرء عمل بدون وجودها فى الضمير كعقيدة راسخة، وكلها أمور موجودة بكتاب الله ومفصلة فيه تفصيلا.
 
 لكن العمل الصالح يكون قدر الطاقة، وليس فى مُكنة الرُّسل أن يبينوا كل دروب العمل الصالح، فهم منارات الهدى، لكنهم لا يستطيعون أن يسلكوا كل طرق وعناصر العمل الصالح، وليس ذلك لقصور فيهم، لكن لكون العمل الصالح يتميز بالإبداع والتباين وفقا لحاجات المجتمع والعصر الذى نعيش فيه، لذلك فبالعمل الصالح فرصة أن تكون فى مصاف الأنبياء يوم القيامة، بل إن بعض الأنبياء يطلبون أن يلحقهم الله بالصالحين، وذلك من قوله تعالى فى شأن سيدنا يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّى فِى الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ}يوسف101.
وما سردناه بالفقرة السابقة يُبطل فكرة احتكار البعض للولاية، والمشيخة، والصلاح، فليس بإيماننا نحن المسلمون احتكار ولا كهنوت، إنما هو العمل الصالح الذى يتمايز به العباد، فالمؤمن الكامل هو الذى تعمُر بأعماله الأرض صلاحا وفلاحا فى إبداع.
 
ولنا فى سورة الكهف فيما قصَّهُ الله علينا من نبأ سيدنا موسى والرجل الصالح آية، فقد كان موسى نبيا ورسولا، بل من أولى العزم من الرسل، لكن الله بيَّن له كيف يتعلم على يد عبد من عباد الله، وكيف أن ذلك العبد أوتى مفاتيح وحلولا لمشاكل المجتمع، وأوتى بصيرة لم تكن لموسى عليه السلام، وهو الأمر الذى يبين عدالة الله فى فتح باب الاجتهاد للوصول إلى رضاه مفتوحا على مصراعيه لمن شاء، وأن اصطفاءه سبحانه وتعالى للأنبياء ليس عن تفضيل لهم إنما لأنه فضل البشر على سائر خلقه، فاصطفى من خلقه بعضا منهم ليبلغوا رسالته للباقين، وهو أمر يدل على اصطفائه سبحانه وتعالى للبشر جميعا، وجعل باب التنافس مفتوحا، والنتيجة غير محسومة إلا لصاحب الجهد الأعلى بين الناس جميعا، لكن يبقى المقام المحمود حكرا لصاحب المنة العظمى الذى ندعو جميعا الله أن يكون له صلى الله عليه وسلم.
 
لذلك أرى سقوط نظرية تحديد تقديس الأشخاص من البشر ـ خلا الرسل ـ ووقف أمر القدسية عليهم، فالقدسية قد تلحق بشخص يعيش بيننا ولا ندركه، وفيما قصَّه علينا الرواة من الرجل الصالح الذى نبأ به رسول الله والذى يدعى أويس القرنى آية لمن شاء أن يستزيد فى هذا المقام، ولا يعنى هذا عدم قدسية الرسل، فالرُّسُلُ رضوان الله عليهم مُقدَّسون لما اصطفاهم الله له، وما اصطفاهم به.
 
أما العمل الصالح فهو من أعمال الإبداع كما أسلفنا، وهو متطور بتطور الأزمان والظروف، وتطور الحاجات، وله درجات عُلا، فالمقربون هم من أهل العمل الصالح، والمحسنين أيضا من أهل الصلاح، ويلحق بهم المتقون، ثم يقع فى قاع درجاتهم المؤمنون.
 
والعمل الصالح ليس من الشعائر، لكنه قرين الإيمان، فدوما يقول تعالى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، فالعمل الصالح قرين الإيمان دوما لمن كان مؤمنا عن حق سماوى ويقين، والأعمال الصالحة هى التى تعمُر بها الحياة، ويتم بها التآخى والمرحمة بين البشرية وجميع الموجودات مما خلق الله.
 
فالموظف والتاجر والصانع وصاحب الحرفة كلهم موكول عليهم عبادة الله من خلال إخلاصهم فى أعمالهم والامتياز فى أدائها، ففى ذلكم صلاح الأعمال، ونقيضها فساد الأعمال، وبين صلاح الأعمال وفسادها رضوان الله أو غضبه، ولا يظنن ظان بأن صلاة أو صومًا أو غير ذلك من فرائض ونوافل الشعائر تنفع عبدا أفنى عمره فى إهمال مصالح العباد، أو الركون إلى الدعة فى أدائه لعمله، فلو كان العبد مصليا حقا لا ننتهى عن منكر الإهمال والارتجالية والروتين الغبى بلا عقل، ولتفنن فى خدمة خلق الله، وفى ذلك يقول تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }النساء114؛ فمن علامات قبول الشعائر أن يندرج العبد فى لفائف الصلاح فيكون من المصلحين.
 
وتستقيم الحياة ويتبسم وجهها من خلال الأعمال الصالحة، وليس من خلال أداء الشعائر، فالصلاح خير يرضى الله ويعم على الجميع أو على من حولك، أما أعمال الاستقامة فلا تلحق إلا بك.
 
 فاعتناق مفهوم أن أداء الصلاة من العمل الصالح فيه خلط على حساب قيمة العمل الصالح، فالعمل عمل، لا يؤديه إلا من عمل، والصلاة شعيرة مفروضة، والقيام بها يُعبر عن الصلاح، لكن أداءها ليس بالضرورة أن يؤدى إلى تلك الحقيقة، لأن التكليف يكون بالقيام بواجباتها وليس أداءها [وأقيموا الصلاة].
 
وعمل الصالحات مُقَدَّمٌ على الصلاة وعلامة على قبولها، وذلك من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة277؛ وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }الأعراف170؛ فالاستمساك بتعاليم الكتاب أولا ثم الصلاة.
 
وليس معنى أن يكون العبد من الصالحين ألا يُذنب، بل ستكون له ذنوب حتما لكن الله قد غفرها له سلفا، وذلك فيما أنبأ به من قرآن قائلا: {وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }المائدة9؛ وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ }محمد2.
 
وعمل الصالحات يكون وفق طاقة كل عابد، فلا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، وذلك من قوله عز وجل:{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }الأعراف42.
 
ويتضاد عمل الصالحات مع الفساد، كما تتضاد التقوى مع الفجور، ولا يستويان فى المصير أبدا، وفى ذلك يقول تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ص28؛ ويقول تعالى: {وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ }غافر58.
 
وكل لحظة فى عمرك تمضيها فى عمل صالح ترفع درجتك يوم القيامة، ولن يلحق التائبون عن المعاصى بأصحاب الأعمال الصالحة أبدا، مهما تابوا، لأن الله يبدل سيئاتهم حسنات، وقد كانت سيئاتُهُم تُحسب عليهم بواحدة فتستبدل بحسنة واحدة، لكن من كان يقوم بالصالحات فكانت تُحتَسَبُ له بعشر أمثالها ـ على أقل تقدير ـ لذلك فإن تمضية الوقت فى الأعمال الصالحة هو من كنوز الأرض يجمعها الصالحون زادا لهم بالآخرة، وفى ذلك يقول تعالى: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}الجاثية21.
 
والصلاح هو هدف من أهداف الرسالات، والخُلُق الحسن أول الصلاح، وقد أرسل الله خاتم المرسلين على خلق عظيم إيذانا بافتتاح عهد جديد للحضارة الراقية على يد محمد، وفى ذلك يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}الأنبياء107؛ وفيما رواه البخارى عن حُسن الخُلُق بالحديث رقم 5688: [ لم يكن رسول الله فاحشا ولا متفحشا وإنه كان يقول إن خياركم أحاسنكم أخلاقا]، لذلك لا يضن العبد على نفسه أن يكون على خُلُق طيب.
 
وأهل الصلاح هم أصحاب السبق والفوز على كل الخلائق وذلك من قوله عزل وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ }البينة7؛ فهم بذلك متميزون عن أهل الاستقامة.
 
ومن أراد أن يعلم أسبقية الأعمال التى تُرضى الله فعليه بالقرآن الذى قال الله فيه: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}البقرة177 وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة277؛ فيستفاد من الآيتين أن الإيمان الذى يدفع صاحبه للعمل الصالح هو أول خطوة على طريق الرضوان، ثم يساعد ذلك العبد المؤمن نفسه بالالتزام بالطاعات المفروضة والشعائر المحددة لتساعده فى عبور مكائد إبليس....وهكذا.
 
وإنه مما يؤسف له أن فقهنا الإسلامى لم يجعل للعمل الصالح قيمة، فحين تم تقسيم وتوزيع العناصر بين الإسلام والإيمان لم نجد العمل الصالح قد دخل فى حسابات الفقهاء، فقالوا إن الإسلام له أركان هي: [شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا]، وعندهم للإيمان أركان هي:[أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره واليوم الآخر]، ومن الأركان السابقة عن الإيمان والإسلام تجد خلو فكر الفقهاء عن قيمة العمل الصالح، بل خلوها من القِيَم الأخلاقية، خاصة بعد أن انقلبت فريضة إقامة الصلاة إلى مجرد أدائها، وذلك بالرغم من وجود حديث صحيح روى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال فيه:[إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق]، ومع ذلك لا تجد أثرا ملموسا للأخلاق فى مناهجنا الأكاديمية، فضلا عن الواقع العملى للغالبية.
 
وإنهم حين أوردوا للإحسان أركانا فإنهم أيضا لم يذكروا العمل الصالح، وكأنه يتم ضمنيا داخل طقوس الشعائر، فلا عجب إذ اعتبروا أداء الصلاة من قمم الأعمال الصالحة، وتصوروا أفضل الذكر عند الله قراءة القرآن، فقالوا ذلك ولم يدرون أنهم حرموا ملايين الناس من الذين لا يعلمون اللغة العربية، أو العرب الأميين، ثواب أفضل من الذكر.
 
وهدموا قيمة العمل الصالح حين تصوروا أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله، لكن يدخلها برحمة الله، بل أراهم قد هدموا جميع نصوص القرآن التى تُعَظِّم قيمة العمل وتجعله مناطا لدخول الجنة، ومن خلال تلك الأركان والتصورات، قام الناس بأداء الصلاة وسرقوا وزنوا، ونشروا الرعب والقتل، وأساءوا لدينهم وبلادهم الإسلامية، وتخلفوا عن ركب العلم والحضارة وهم داخل صوامعهم ومساجدهم وبأياديهم المسابح، والمصاحف، لكنهم ذاهلون عن الحق والحقيقة، ومعادون للتقدم وللحضارات الأخرى، وفاقدون البصيرة لبلوغ الطريق القويم.
 
ورغم أن كلمة (إقامة الصلاة) تعنى تنفيذ كل ما أمر الله، ولا تنحصر فى أدائها، فإن مشكلتنا أصبحت مُرَكَّبة بإهمال أصول الدين، وزاد الطين بِلَّة حتي تطور مفهومنا التنفيذى ليكون أغلب المصلين مجرد مؤدين للصلاة وليسوا مقيمين لها، فأصبح المصلون يشتركون مع غير المصلين ومع غير الأسوياء من شعوب الرسالات الأخرى فى الفساد التنفيذى لتعاليم الله، ففقدوا بذلك الاستقامة والعمل الصالح معا.