الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الروائى السورى هوشنك أوسي: المُُبدع ابن بار لكل الأماكن والبيئات

هوشنك أوسى روائى سورى مقيم فى بلجيكا ، ترك القامشلى ، هروبا من الاضطهاد والتهميش الذى تعانيه الأقلية الكردية فى الشمال السوري،وقد حمل معه همومه والتطورات والقلاقل المثيرة التى عاناها فى مسقط رأسه وسجلها فى أعماله الروائية والتى صدر منها روايتان هما: «حفلة أوهام مفتوحة»، «وطأة اليقين».وعبر بحرية تامة عن تصوره الشخصى للعالم الذى جاء منه وحرمه من الحرية والتعبير والتطور والعالم الذى هاجر إليه، ومنحه الحرية والكرامة والاعتراف بالإنسانية.وانتقل من الوعى الذاتى إلى الوعى الموضوعى ، هذا الانتقال منحه القدرة على الإبداع. يرى هوشنك أن الكتابة بالعربية لا يتعلّق بتفاضل بين اللغات أو تفضيل لغة على أخرى، بقدر ما يتعلّق بالقدرة على التعبير عن الذات عبر هذه اللغة أو تلك. فيعتبر اللغة العربيّة لغته الأمّ الثانية، بعد اللغة الكرديّة. ذلك أن مفهوم اللغة الأمّ، بالنسبة لي، لا ينحصر فقط فى اللغة التى نأخذها أو نتلقّاها من أفواه أمهاتنا وحسب، بل أيّة لغة نتقنها فى التعبير عما يجول فى خلدنا وفكرنا وخيالنا وأرواحنا، تشكّل هى أيضاً لغة أم. ، تحوّلت إلى أمٍ حنونٍ تمنح الحضن الدافئ  ويضيف حين أكتب بالعربيّة، هذا لا يعنى أننى أفضّلها على اللغة الكرديّة، لأننى أكتب بالأخيرة أيضاً. فأنا كائن ثنائى اللغة .



وأهدى هوشنك روايته الأولى إلى مدينة  «أوستند» البلجيكية اعترافا بفضلها عليه حيث منحته الحرية والحياة الكريمة وفرص العمل والدراسة والضمان الصحّى والإحساس بالوجود، هذه المدن، نحن مدينون لها بالكثير. بلجيكا احتضنتني.. فهل كثيرٌ إذا أهديت إحدى مدنها عملاً أدبيّاً كتبته فيها؟!  ويضيف «ثمّة من عاش فى هذه البلاد سنواتٍ وسنوات، وشرب من مائها، وأكل خبزها، وتعلّم فى مدارسها وجامعاتها، وعمل فى مصانعها ومؤسساتها، وذاق فيها طعم الكرامة والحريّة والنعمة التى كان محروماً منها فى بلده، فردّ لهذه البلدان الجميل بأن «أهداها» الجريمة والقتل والإرهاب والمجازر والتكفير والكراهية والأحقاد. وإهدائى روايتى الأولى «وطأة اليقين» إلى مدينة أوستند البلجيكيّة كانت للتأكيد على أنه مع وجود المتطرّفين الإرهابيين، ثمّة أضعاف أضعافهم من المهاجرين واللاجئين الذين يهدون هذه البلدان الإبداع، ويبادلونها قيم الخير والحبّ والجمال».   ويشير «هوسنك» أنه ليس بدعا فى ذلك فهناك الكثير من الكتّاب الأجانب الذين عاشوا فى المهجر وكتبوا وأبدعوا بلغات بلدانه، ولكنه لم يسمع بأن كاتباً عربيّاً أو كرديّاً أو تركيّاً أو فارسيّاً....، أهدى كتابه إلى مدينة من المدن الغربيّة التى عاش فيها، أو إلى شارع من شوارعها، أو إحدى ساحاتها أو باراتها. ويأمل «هوسنك» أن يصبح هذا السلوك تقليداً دارجاً بين الكتّاب الأجانب الذين يعيشون فى البلدان الأوروبية، كنوع من العرفان بالجميل.

واللغة الشعرية حاضرة بقوة فى أعمال هوشنك حيث تستهويه العناوين والعتبات النصيّة الملتبسة، حين توحى ولا تخبِر، وتستثير طاقة السؤال والتأويل، بنفس القدر الذى تستهويه وتستفزّه المتون والنصوص الملتبسة والوعرة، ذات النفس الشعري. ويحاول هوشنك فى هذا العمل الاشتباك مع القارئ باعتباره أحد منتجى هذا النصّ الروائى ويراهن على القارئ شريكاً فى كتابة الرواية، عبر قراءاته التأويلية لها. ويضيف: «أردت أن أوحى بأن اليقين لا يخلق الطمأنينة العقليّة والروحيّة، بل يزيد من وطأة القلق وكمونهِ لدى الإنسان، حين يجعل منه أسيراً أو رهيناً أو سجيناً لقناعة معيّنة، سواء أكانت دينيّة أو دنيويّة. فاليقين، فى أفضل حالاته، يقوّض حركة السؤال ويعيق شهوة الخيال فى ابتكار أسئلته، فيعطّل حركة الحياة، عبر عرقلة أو إبطال حيوية الأسئلة، واغتيال الظنّ والشكّ. وعليه، فهذا العمل فى كل تفاصيله وأحداثه ومدنه وشخصياته وقصصه، هو محاولة التعبير عن محنة السؤال وشهوة الخيال، تحت وطأة اليقينيّات التاريخيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة والثقافيّة». 

 يرى هوشنك أن الشعر، على عظمته، لا طاقة له على تحمّل ما تحتمله الرواية. نستطيع السرد بلغة الشعر. ولكن يستحيل كتابة الشعر بلغة السرد. فالشِعر شِعر، والسَّرد سَرد، ولا يمكن الجمع بينهما إلاّ فى الرواية. كتابة الرواية امتحان لقدرة الشاعر أو الشاعرة على التعبير عن الحياة وآلامها وآمالها  بطرائق وتقنيات مختلفة. ويعتقد هوشنك أنه مثلما أن أسّ الشعر هو الموهبة، مضافاً إليها خصوبة الخيال وجسارته، وبلاغة اللغة وسعة الاطلاع والمعرفة، كذلك السرد والرواية، يلزمهما الموهبة، والخيال وطزاجة الفكرة.

ويضيف: الكثيرون بدأوا شعراء، وانتهوا روائيين. ولم أسمع بمبدع بدأ روائيّاً وانتهى شاعراً.  فى البداية، كان الشعر والنهاية أيضاً ستكون شعراً. ومع ذلك، لا يمكن أن نغفل أن الساحة الإعلاميّة والأدبيّة تحتفى بالرواية والروائيين أكثر من الشعر والشعراء. وربما هذا أحد الأسباب التى دفعت بالكثيرين من الشعراء إلى الاتجاه نحو الرواية، من باب الهوس والهاجس والتجريب، و انجذاباً لبريق وسحر الرواية وما تحظى به من احتفاء. وربما فى ذلك خيرُ للشعر، بأن يهجره من تطفّل عليه. وفى عالم الرواية، ربما يكون هنالك روائى جيّد وروائى ضعيف ،لكن فى عالم الشعر، إمّا أن تكون شاعراً أو لا تكون. 

ويكشف «هوسنك» أن القضية فى روايته «وطأة اليقين» لا تقتصر على التلاقى بين الشرق والغرب، بل تتناول مسألة الاندماج على أصعدة ومستويات عدّة وما كتبه يختلف عن «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و»موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح لجهة الفكرة والظروف والأهداف والمعالجات. ثمّة أشخاص أجانب مسكونون بروح الشرق، ولم يروا الشرق ولم يعيشوه. بطلى ليس كـ»محسن» فى «عصفور من الشرق» يأتى إلى باريس طالباً، منبهراً بها وجمالها وفنونها، ويقع فى حبّ فتاة فرنسيّة، ثم يتفاجأ ببرودتها وميولها الماديّة. ولا يشبه «مصطفى سعيد» فى «موسم الهجرة إلى الشمال» الذى يأتى إلى بريطانيا طالباً، ثم يعمل محاضراً، ويقع فى حبّ فتاة بريطانيّة، وتفشل تجربته العاطفيّة. بطلى هو ألم شعب وعذابات وطن اسمه سوريا، وصل إلى أوروبا على شكل أشلاء معارض سورى قضى تحت التعذيب، وزرعت أعضاؤه فى أجساد أجانب، وفعلت كيمياء روحه الموجودة فى أعضائه فعلها فى أجساد الآخرين. البطل فى عملى ليس شخص بحدّ ذاته، بل جزء من آلام شعب بأكمله.

ويضيف: يمكن أن يستفيد العمل الروائى من الحكاية أو الواقعة التاريخيّة، لا أن يكررها، بل يحاول الاشتباك معها، والتشكيك فيها، بهدف بناء رواية أخرى لهذا الحدث التاريخي، قوامها الخيال.

ويكشف هوسنك عن إستراتيجيته فى عمله الروائى الأوّل «وطأة اليقين» فيقول:  ترتكز على التشكيك، وأحياناً الطعن أو التنكيل فى الرواية الرسميّة لحدث تاريخى معيّن، عبر سحب خيط من نسيج هذه الرواية الرسميّة او المتداولة عن هذا الحدث أو هذا الشخص، ثم نسج رواية أخرى، بهذا الخيط، ربما تكون على النقيض من الرواية الرسميّة، بهدف تحريض العقل على التشكيك فى الرواية الرسميّة للأحداث التاريخيّة، وطرح فرضيّة موازية مفادها أنه ربما تكون هذه الرواية الرسميّة المتفق عليها، هى أيضاً خياليّة، اكتسبت الثبوت والرسوخ، عبر التكرار والتداول وتبنّى السلطة الحاكمة لها، على مدى قرون. 

وكشف هوسنك أنه حاول إعادة النظر فى الكثير من الأفكار المتداولة والتقليديّة - اليساريّة عن الثورة والحداثة، والإشارة إلى السقوط المدوّى للأفكار والمبادئ الإنسانيّة أمام المصالح الشخصيّة والطائفيّة والأيديولوجيّة.

ويعترف هوشنك أن الإقامة فى أوروبا قد أضافت له الكثير على المستوى الإبداعى وكيف قضى ردحاً من الحريّة والحياة الكريّمة فى بلاد الغرب.

ويكشف هوسنك أنه يستقى شخصيات أعماله من الحياة. التى تعد أكثر ثراءً وغنى منّا جميعاً، بحيث تمنحنا الأفكار الجديدة، أو طرائق أو معالجات أدبيّة جديدة لأفكار مطروقة، وتخلق المفاجأة والدهشة لدى القارئ. تمنحك الحياة نفسها، بقدر ما تكون لها. تجود عليك بالمواقف، والأحداث والأشخاص، الأفكار.. وما عليك سوى إعادة إنتاج ما منحته لك الحياة أدباً، إن كنت تملك ذلك الحسّ الإبداعى والنقدي، وتلك الحساسيّة العالية فى التلّقي، وتلك الموهبة والمهارات فى التعبير عن الحياة أدبيّاً، شعراً أو نثراً.

  وعن علاقته بالمكان يقول:  أنا مهووس بالأمكنة. ربما لأننى كنتُ محروماً من السفر. الأمكنة كالنساء، منها ما تبقى راسخة فى الذاكرة، ومنها ما تكون عابرة. لكن فى كل الأحوال، تمنح الأمكنة حياتنا متعة التنوّع والاختلاف، والمحبّة والفرح والآلام أيضاً، علّمتنى الأمكنة التى مررتُ بها، طوعاً أو كرها، ألاَّ أبقى رهيناً أو أسير مكانٍ معيّن. أحياناً، ينتابنى إحساس مفاده؛ كأنَّ لدى ثأر تاريخى ينبغى الأخذ به من الغربة والاغتراب. ربما لأننى كنت غريباً فى وطني، أعيش الفقر الاقتصادي، والفقر السياسي، والفقر الحقوقي، والفقر الوطنى والقومى والإنساني...الخ. لذا، فى كل مكان مررت به، حاولت وأحاولُ الانتماء إليه، ولو للحظات  . علاقتى بالأمكنة، حميمة وأليمة فى آن.

وأحاول التعبير عن ذلك فى شعرى ونثري. وأعتقد أننى حاولت الاشتباك مع مفهوم الهويّة والانتماء فى روايتى الأولى «وطأة اليقين» والثانية «حفلة أوهام مفتوحة». وطالما الحياة مفتوحة على كل هذه الأمكنة والأزمنة، فلن تضيق الرواية بذلك بتعبير آخر ويضيف: ليس لدى «ماكوندو» ألفّ وأدور حولها أدبيّاً، فى حلّى وترحالي، شأن بعض الروائيين. ليس لدى هاجس المركزيّة الجغرافيّة - المكانيّة أو القوميّة أو الدينيّة أو الثقافيّة أو اللغويّة، ولا تستهوينى مقولة «الفنان أو المبدع ابن بيئته»، بل أرى أن المبدع ابنٌ بار لكل الأماكن والبيئات.