السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مقاتلون بـ البالطو الأبيض

صورة الطبيب فى الأدب العالمى

فى هذه الجائحة التى اجتاحت العالم بفيروس كورونا يقف العالم عاجزا أمام هذا الوباء الذى اجتاح كل بلدان العالم بلا استثناء، وقد تصد له الأطباء فى كل دولة حتى إن الكثير منهم مات متأثرا نتيجة إصابته بفيروس كورونا. 



وباعتبارهم حائط الصد الأول لهذا الفيروس نذكر بدورنا القراء بصورة الطبيب فى الأدب والعلاقة بينهما، وأشهر الأدباء الذين تخلوا عن الطب واستجابوا لنداهة الأدب.

يوسف إدريس

البداية مع ملك القصة القصيرة المتوج يوسف إدريس الذى ولد فى 19 مايو 1927 بإحدى قرى محافظة الشرقية، وشهدت طفولته الأزمة الاقتصادية العالمية وصورا من النضال المصرى ضد الاستعمار، ومن أجل الديمقراطية، وأصبح إدريس خلال تلك الفترة واحدا من العناصر التى صبت فى مجرى هذا النضال فى الأربعينيات حصل على بكالوريوس الطب عام ،1952 وعمل نائبا للجراحة بالقصر العينى لكنه فضل الحياة الأدبية بعد ذلك، وعمل بجريدة الجمهورية ثم رئيسا لقطاع المسرح وكاتبا بجريدة الأهرام. حصل يوسف إدريس على جائزة جمال عبدالناصر للأدب عام 1964 وكان مرشحا لنيل جائزة نوبل ونشب جدل شديد بينه وبين نجيب محفوظ بعد حصول الأخير عليها. كتب يوسف إدريس 11 مجموعة قصصية وتسع مسرحيات وعشر روايات، وترجمت أعماله إلى أكثر من 24 لغة، كما أثرى المكتبة العربية بخمسة عشر كتابا فى أدب الرحلات وعالم الفكر.

ومن القصص الجميلة التى استوحاها يوسف إدريس من خلال عمله كطبيب قصة «العم محمد» حيث يدور حديثه حول العمارات التى يملكها والتى يتآمر الناس جميعا لانتزاعها منه ويتعاطف مع الطبيب باعتباره مجنونا فقيرا فإذا كان الفقر فى حد ذاته يهدر كرامة الإنسان، فما بالك إذا كان مجنونا فقيرا؟! 

كانت حالة الرجل واضحة وتهيأ الطبيب لكتابة الاستمارة التى بموجبها يتمكن المريض من التمدد على سرير المستشفى الكالح فيقول يوسف إدريس على لسان الراوي: وفى العادة كنت إذا وصلت إلى هذا الحد، وتأكدت من المرض تنتابنى موجة من اليأس، فأهاود المريض على عقله وأمزح معه، وأحدثه بأى كلام قد يخطر لى على بال،هكذا سأله الطبيب أن يبيع تلك العمارات ويتخلص من همها، وافق الرجل على بيعها، فقال له الطبيب: أقولك يا شيخ: بيعهم للإنجليز واخلص.فيقول المريض: الانجليز لا .. من رابع المستحيل.وفوجئت بزوجته تسأله: ليه ؟ اشمعنا الانجليز لأ. وعاد الشريط يدور: ابيع لربنا، حتى» ..» لكن الإنجليز لا .. حتى فى قاع احتراق العقل، لا يستطيع المجنون الفقير أن ينسى عداءه وعداء بلاد للإنجليز.

وفى قصة «البطل والجرح» كان احمد جندى عسكرى تحمى كتيبته شرق القاهرة «مصر الجديدة» وانهالت عليها قذائف الطائرات، ولكنه تمكن من إسقاط طائرة فرنسية بمدفعه الرشاش، ولكنه غير مصدق ما فعله، ولم يجد أحدا يتصل به سوى الراوي: انت عارف إدونى ساعة إجازة بعد الحكاية دى.. أنا معرفش نمرة حد اتصل عليه إلا نمرة حضرتك. قلت أكلم حضرتك .. دى حاجة هايلة أوى ..مش كده؟.. تصور طيارة تقع.. أنا أوقعها.. أنا مش مصدق.. بيتهيأ لى وقعت من نفسها، ولا يمكن حد تانى وقعها.

كان يوسف إدريس من المؤمنين بأن كل فرد من هؤلاء الناس العاديين – ملح الأرض- ينطوى كل واحد منهم على قوى هائلة لا تنفجر إلا فى لحظة الإحساس بالخطر الداهم.

ويرى الناقد الكبير صلاح فضل أن يوسف إدريس هو الأديب الذى سار بفن القصة القصيرة بمصر خطوات عملاقة إلى الأمام واضعا علامة فارقة فى تاريخ تطور هذا الفن الصعب الجميل، وبغض النظر عن المحاولات الطليعية الأولى التى قام بها البعض فإن الفضل يعود لإدريس فى تطوير هذا الفن القصصى وبأعماله وجد القراء أن القصة القصيرة ليست هذا الشيء الجامد الثابت بل الزاخر بالقوة والحيوية والحياة المعبر عنهم وعن آمالهم وطموحاتهم وأدق مشاعرهم الإنسانية، فالأديب الكبير يوسف إدريس أرسى أسسا أتاحت لغيره أن يشيدوا عليها ويطوروا أبنيتهم التى قد لا تتفق فى تصميمها وتنفيذها مع تصوراته الأصلية والأسس التى أرساها إلا أنهم استفادوا من عطائه كثيرا، ويعود تميز يوسف إدريس ليس لغزارة إنتاجه وإنما بتنويعاته وريادته فى الفن القصصى الذى سار به إلى آفاق أرحب وأكثر بكارة وأعمق غورا، بالإضافة إلى أنه كان مشاكسا عنيدا بمقالاته وبمسرحياته الذى أسس فيها لنظرية السامر الشعبى كما فى مسرحيته الفرافير.

المنسى قنديل

 أما محمد المنسى قنديل قاص وروائى مصرى ولد عام 1949 فى مدينة المحلة الكبرى بغرب الدلتا فى مصر. تخرج من كلية الطب فى المنصورة عام 1975 إلاّ أنه بعد أن عمل فى مجال الطب لمدة عام ونصف العام فى الريف المصرى (المنيا)، وفترة أخرى فى التأمين الصحى فى القاهرة قرّر اعتزال الطب والتفرّغ للكتابة. فكتب القصة القصيرة، والقصة المخصصة للأطفال، والسيناريو للسينما، إلى جانب الاستطلاعات المصورة العالمية التى كان ينشرها فى مجلة «العربي» الكويتية الشهيرة، أثناء عمله فيها.

فاز وهو مازال طالبا فى عام 1970 بالجائزة الأولى فى نادى القصة عن قصة «أغنية المشرحة الخالية» التى ضمها كتابه الأول: «من قتل مريم الصافي» الحائز جائزة الدولة التشجيعية فى مصر عام 1988. كما فاز بجائزة نجيب ساويرس للأعمال الأدبية عن رواية «قمر على سمرقند»، وقامت الجامعة الأميركية فى القاهرة بترجمة الرواية إلى الانجليزية ونشرها. فى روايته « يوم غائم فى البر الغربي» بدأت كتابة الرواية بفكرة بسيطة ومتواضعة، وهى تقديم قصة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون من وجهة نظر مصرية، وقد فتنه هذا الحدث منذ أن كان صغيرا، ولكن هذا الاكتشاف الذى هز العالم منذ 96 عاما لم يظهر فى الأدبيات المصرية، رغم انه قد لفت الأنظار بشدة إلى مصر فى هذا الوقت، بل ولفت أنظار المصريين إلى أنفسهم أيضا، بدأ المنسى عملية الكتابة والقراءة معا، أصبح لديه رف كامل من الكتب عن أحوال مصر والعالم فى هذه الفترة من التاريخ، وببطء بدأت تتفتح أمامه مسارب جديدة لم يكن يتوقعها، وأخذت أسئلة الهوية تطرح نفسها عليه بشدة، فقبل هذه الفترة كان المصريون كما مهملا، بشر بلا أسماء، ولا وجوه أو ملامح، يموت الآلاف منهم فى حفر قناة السويس وفى حروب السودان وكوهية والبلقان والمكسيك وحتى فى جزيرة العرب، وتحصد الأوبئة والمجاعات آلافا أخرى، مجرد أرقام تسقط من ذاكرة التاريخ دون أثر، ولكن فى هذه الفترة بالذات، وكرد فعل للاحتلال البريطاني، استيقظ المصريون من سبات القرون الطويلة، بدأوا يفطنون إلى أهمية البحث عن «ال» التعريف التى تخصهم، عن أسماء وسمات وملامح تخصهم كأفراد، وكان من الطبيعى أن يخرج مصطفى كامل هاتفا: «لو لم أكن مصريا» قول عاطفى وفيه الكثير من المبالغة، ولكنه كان ضروريا، وكذلك الأمر مع مختار الذى حاول أن يلملم أطراف التاريخ فى تمثال لفلاحة مصرية معاصرة تضع يدها على رأس أبوالهول، من المؤسف أن هذه الفترة الخصبة من تاريخنا كانت قصيرة العمر، وعاد المصريون كما كانوا، مجرد أرقام تموت بالآلاف فى حوادث العبارات وحرائق القطارات وانهيارات الصخور، وحتى عندما كان يكتب فصول الرواية كانت الحرائق تتوالى، قصور وآثار ومصانع ومؤسسات، كأننا ننسحب مهزومين من هويتنا المؤقتة ولا نترك خلفنا إلا رماد الأرض المحروقة.

خليل النعيمى  

الروائى السورى خليل النعيمى والمقيم فى باريس يفسر سبب اتجاهه لدراسة الطب دون الأدب فيقول: «جاء تخصصى بالطب بشكل عابر عندما قرأت كتاب «مدخل الى الطب التجريبي» وكنت حينها مولعا بقراءة الكتب الفلسفية فقررت أن أدرس الطب من أجل فهم الفلسفة وحزت على قرار خاص بالسماح لى بدراسة الفلسفة والطب بنفس الوقت وخلال دراستى كتبت أول ديوان شعر وكان عنوانه «صور من ردود الفعل».

وقد منع فى سوريا حينها لأسباب كثيرة فنسيت كتابة الشعر فجأة واتجهت للرواية وكان ذلك الحدث كأنه مصادرة للفعل الشعرى فى حياتى واكتشفت أن هناك مستويات للقراءة.. مستويات للفهم وأخرى للإدراك قد تسمح الرواية بمقاربتها فبدأت بالرواية وكتبت روايتى الأولى التى كانت تحمل عنوان «الرجل الذى يأكل نفسه»، وكان مصيرها المنع أيضا من دخول دمشق وأثناء دراستى للطب اكتشفت الجـــراحة فقلت إما أمارس الطب كجــــراح أو أتركه، وعندما ذهبت إلى باريس واصلت دراستى فى الطب والفلــــسفة وكنت أتابع كتابة أول رواية فى باريس «الشيء» وهى محاولة للانفلات من قيود يحس بها الروائى وفيها الكثير من الجنس وقد طبعت فى بيروت». والنعيمي»عضو الجمعية الجراحية الفرنسية»، و»جراح المستشفيات» فى فرنسا، حيث يقيم فى «باريس»، ويعمل جراحاً متخصصاً فى جراحة الكبد وجهاز الهضم طرحت سؤالا مفاده  إن كان يفكر بترك الطب ويتفرغ للأدب، كما فعل د.يوسف إدريس فأجاب «الوضع مختلف، فيوسف إدريس تخرج من كلية الطب ومارسه لمدة محدودة بينما صرفت سنوات طويلة من عمرى فى الجراحة وفى هذا المسار الإنسانى، وقد اكتشفت أهمية الجراحة فى الكتابة فهى تعطينى الحرية بأن أكتب بدون تنازلات فلست مجبرا للعيش فى أى جهاز ثقافى عربي». 

وأضاف النعيمي «الممارسة اليومية للجراحة أعطتنى أبعادا أخرى حتى فى صياغة العبارة، والمبدعون فى عالمنا العربى يشتغلون فى الجو الإبداعى نفسه، وقد أتاح لى عملى فى الطب فرصة الخروج من الثقافة العربية العرجاء التى تمشى على قدم واحدة فى اللغة إذ لا يوجد بعد علمى للغة فالكثير من كتابنا يستخدمون اللغة الإنشائية الخالية من البعد العلمي».

أنطون تشيخوف

أما العبقرى الروسى أنطون تشيخوف فقد جمع بين الطب والأدب وله وعبارة شهيرة: «الطب زوجتى والأدب عشقي» لقد تميزت كتابات تشيخوف بتحرير الروح من قيودها داعيا إلى حرية التعبير من اختياراته للأحداث الواقعية والتى يقتنصها من الواقع الاجتماعي، ويعالج مشاكلها من خلال نظرة إنسانية معتدلة وبأسلوب ابداعى تمتزج بين الواقعية والرمزية، ولعل العديد من النقاد لم يكتشفوا هذا الأسلوب، ولكن ومن خلال الاطلاع على نص «مسرحية العنبر رقم 6» توضحت لى صورة جمالية ممزوجة بتعبير فنى حاذق، هذا العنبر الذى هو عبارة عن ردهة فى مستشفى الإمراض النفسية، فيه مجموعة من المرضى الذين ذاقوا مرارة عذاب الحياة خارج العنبر، هذه الحياة الغير المستقرة والمليئة ظلما واستعبادا للإنسان ومما دعتهم هذه الظروف للمقاومة رغبة منهم فى تحقيق المساوات والعدالة الاجتماعية، الا انهم لاقوا من القمع والاضطهاد مما ادى بهم الى احتجازهم فى هذا العنبر واعتبارهم افرادا مجانبن فيهم مس من الجنون، هذا العرض الاستهلالى لمقدمة مسرحية العنبر ولقد عالج احدثها تشيخوف بأسلوب واقعى ومنطقى فيه من براعة الحبكة والصراع ما بين طبقتين الأولى مهضومة الحقوق، والثانية طغمة فاسدة غرضها قمع صوت الآلاف من الجياع والمهضومة حقوقهم، إلا أن براعة تشيخوف للتعبير عما يؤمن به، فى مشهد من داخل العنبر يحاول توجيه رسالة إلى المتلقى فيها حالة من حالات التعبئة الثورية والدعوة إلى الثورة ضد الظلم والاستبداد، تجلت فى صورة رمزية فى العنبر الذى يمثل نموذجا من المضطهدين الذين وقعوا تحت هيمنة حارس العنبر الذى لا يعرف طعما للعرف الانساني، نموذجا يحركه تبعيته لأزلام من يوجهونه من المسئولين عن إدارة هذا العنبر، والذى يلاقى تصدى قويا ونقدا لتصرفاته الغير الإنسانية بحق نزلاء هذا العنبر من قبل الطبيب والخاص للأشراف على التطورات الصحية لنزلاء هذا العنبر، نتيجة لهذا الصراع ما بين الطبيب والذى يمثل الشريحة المسحوقة، وبين الحارس الذى يمثل السلطة الهاضمة لحقوق نزلاء هذا العنبر. وهنا يبدأ تشيخوف بتنمية الصراع ما بين الحارس والطبيب، مما يؤدى به إلى لصق حالة الجنون بالطبيب والذى ينتج عن هذا الاتهام حبس الطبيب فى العنبر مع بقية النزلاء واعتباره مجنونا أسوة ببقية نزلاء هذا العنبر، وبهذه التصفية للطبيب والذى يرمز له للفكر السياسى الحر، يخلو الجو للحارس بان يمارس أنواع التعذيب بحق نزلاء العنبر. لقد كانت نظرة تشيخوف إلى المجتمع بأنه تحت وطأة طائلة من الأمراض الوبائية والفتاكة، ولهذا يجب على الإنسان أن يكون طبيبا لإنقاذ المجتمع من الأمراض الوبائية من خلال وضع حد لمنع انتشار هذ الوباء الذى فيما إذا استمر فى انتشاره فسيقضى على المجتمع ولاسيما الشريحة من العوائل الفقيرة والمسحوقة.