الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى ذكرى ميلاده

صلاح جاهين.. فيلسوف الفقراء

غاص فى أعماق الإنسان المصرى المتطلع إلى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة وبليغة فى آن واحد، أجمل ما فيه من أغنيات ومزامير راح ينثر بها البهجة والفرح الحقيقى بالفجر البهى القادم على الأفق، فى أشعاره «الثورية» لم يكتب شعارات باردة جوفاء كانت كلماته مشاعر عفوية صادقة ترقص فى قلبه المتفائل المحب للحياة والمنحاز إلى الجماهير البسيطة يعبر عن أحلامها وآمالها وعن ضحكاتها وأوجاعها حتى لهوها ومزاحها وهو المنحاز أبدًا للفرحة والبهجة فاستحق بجدارة لقب فيلسوف الفقراء «صلاح جاهين».



ولد محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمى المشهور بـ«صلاح جاهين» فى شارع جميل باشا فى حى شبرا بالقاهرة فى 25 ديسمبر عام 1930, كان والده المستشار بهجت حلمى يعمل فى السلك القضائي، حيث بدأ كوكيل نيابة وانتهى كرئيس محكمة استئناف المنصورة. درس الفنون الجميلة ولكنه لم يكملها, حيث درس الحقوق.

لا تستطيع أن تستحضر للذاكرة العبقرى المبدع صلاح جاهين إلا وتحضر معه بالضرورة كوكبة من المبدعين الذين زاملوه واشتركوا معه فى صنع السيمفونية الباهرة للثقافة والفنون والفكر التحررى المثير فى عصر مصر الذهبى فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فيحضر معه بالضرورة زميلاه الشاعران أحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور, وكان الثلاثة يعملون فى غرفة واحدة تضم مكاتبهم الثلاثة فى دار «روز اليوسف» ويقول حجازى: «كان جاهين أكثرنا نشاطًا ومرحًا وحضورًا، كان يرسم وينظم بالعربية وكان أحيانًا يغنى بعض الأغنيات الإسبانية من تراث الحرب الأهلية، بالإضافة إلى أغنيات روسية، وفى تلك الغرفة سمعت من صلاح جاهين معظم أغنياته التى نظمها فى الخمسينيات وأوائل الستينيات, ويقول حجازى: إنه رغم بدانة جاهين فإنه هو الذى علمه رقصة الفالس! ويقول حجازي: «لم يكن صلاح جاهين صوتا بسيطا مفردا، وإنما كان مجمع أصوات، كان صوت مصر وصوت البشرية، صوت الجماعة فى الواقع وفى الحلم معا، صوت جماعة ناهضة حرة متقدمة سعيدة منتمية لحضارة العصر مشاركة فى صنعها، فصلاح جاهين ليس ثمرة تراث قومى مغلق وإنما هو ثمرة التراث القومى والتراث الإنساني، وهو يدين للوركا وبول إيلوار بقدر ما يدين لشوقى و بيرم التونسى».

كما لابد أن يحضر معه للذاكرة أيضا شاعر مصر الكبير صلاح عبد الصبور. ليكون هو المقابل المخالف المضاد لصلاح جاهين ربما فى كل شىء، روحا وجسدا، شكلا وموضوعا، فعبد الصبور هادئ حزين متشائم، يكتب بالفصحى شعرًا للنخبة المثقفة عاكسا ثقافة عالمية نخبوية، بينما جاهين صاخب مرح متفائل يكتب بالعامية لعامة الشعب شعرًا وغناء يفوح برياحين صبايا القرى وأحلام رجل الشارع وتعبه اليومى، دون أن يتخلى عن عمق إنسانى فلسفى بالغ التأثير، ولا يشترك «الصلاحان» – جاهين وعبد الصبور- سوى فى أن كليهما استطاع أن يؤثر تأثيرا حاسما على جيله فى مجال إبداعه. 

وبينما قام عبدالصبور بتشكيل الذائقة الشعرية لجيل كامل من الشعراء من بعده، قام جاهين بتشكيل الذائقة الوجدانية لجيل الثورة بأكمله، شعراء وفقراء وبسطاء وعمالا وفلاحين وموظفين وعاشقين وحالمين، من هنا تأتى أهمية هذا الشاعر الشعبى العظيم، ولهذا أقوم بالمقارنة بينه وبين صلاح عبدالصبور، فبينما نال عبدالصبور تقديرًا كبيرًا مستحقًا فى الوسط الثقافى المصري، فإن جاهين فى اعتقادى لم ينل ما يستحقه من تقدير يناسب إنجازاته الهائلة فى ميادين الإبداع المتنوعة التى طرقها، من الرسم الكاريكاتورى إلى شعر العامية والزجل والأغنية والأشعار المسرحية والسينمائية والفوازير التليفزيونية ومسرح العرائس والسيناريو السينمائى فضلا عن الأناشيد الوطنية التى صنع منها جاهين فنًا جديدًا قائمًا بذاته.

شاعر الثورة

هناك بعض النقاد يطلقون على صلاح جاهين لقب «شاعر الثورة» لأن كل ما كتبه كان يتحول إلى أغنيات ثورية شعبية بصوت فنان الثورة عبدالحليم حافظ بألحان الموسيقار الفريد كمال الطويل، وربما مع بعض التردد فى إطلاق لقب شاعر الثورة عليه، فى ميل للاحتفاظ بلقب شاعر لمن يكتبون بالفصحى، ولا مجال للشك فى وصف جاهين بشاعر الثورة، فهو وحده من استطاع أن يترجم مشاعر وأحلام وأفراح ملايين المصريين إلى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة. فبينما كتب عبدالصبور وحجازى بعض القصائد الفصحى المعبرة عن بعض جوانب تلك الفترة، فإننا لا نجد فى قصائدهم تلك حرارة ولهفة وصدق المشاعر اللافحة التى نجدها فى كلمات جاهين، كما وكيفًا، ولعل من المفارقة أن القصيدة الوحيدة الدافئة الحس المرهفة الصدق التى كتبها حجازى فى تلك المرحلة بأسرها هى قصيدته العميقة فى رثاء عبدالناصر «مرثية الزمن الجميل» بينما –على العكس- كان رحيل عبد الناصر هو نهاية مرحلة الشعر الثورى لدى جاهين. كتب جاهين للثورة وغنى عبدالحليم أناشيد احنا الشعب و«بالأحضان»، و«المسئولية» و«يا أهلا بالمعارك» «وصورة» و«ناصر» وغيرها. وكان من المدهش حقا استقبال الجماهير لهذه الأناشيد وتجاوبها معها حفظا وغناء وكأنها أغنيات فى الحب والصبا والجمال وليس فى الثورة والحرية والكرامة بل والسياسة الاقتصادية«على رأس بستان الاشتراكية، واقفين بنهدس ع المية، أمة أبطال،علما وعمال، ومعانا جمال».

فيلسوف الفقراء

ينفرد جاهين بخاصية مهمة تمنح شعره –على بساطته وعاميته- بعدًا فلسفيًا لا نعرف له مثيلا لدى شعراء العامية الآخرين بل ولا نعرف له مثيلا لدى شعراء الفصحى المصريين، فيما عدا رفيقه صلاح عبدالصبور الذى اتسمت معظم أشعاره بأبعادها الفلسفية والإنسانية الشاملة. وهنا أيضا – وعلى الأخص- لم يحصل جاهين على حقه من التقدير، بسبب النظرة العدائية من الوسط الثقافى النخبوى للعامية، وربما بسبب التحيز للفصحى والخوف عليها، مع قدر من عدم التصديق لإمكانية أن تقول العامية الدارجة معان تقرب من مدار الفلسفة المقدس، ولكن لا يصح أن يمنعنا مثل هذا الموقف الاستعلائى الزائف والخائف من أن نخوض فى رفق وحدب فى أعماق أشعار جاهين لنكتشف ما بها من جواهر فكرية ووجدانية بديعة، فإنك لتجد فى رباعياته أصداء لفلسفة سارتر الوجودية ولمواقف ألبير كامى فى اغترابه ولجرأة نيتشه الذى لم تكن فلسفته سوى شعرًا مكثفًا. بالإضافة الى نهل جاهين من التراث الفلكلورى المصرى، والعربى الإسلامى والمسيحى، ومزجها كلها فى صوت صادق متفرد هو صوته وحده. ولننظر إلى بعض رباعياته التى يمكن اعتبار كل رباعية منها أطروحة فلسفية كاملة تطرح كل منها أحد الأسئلة الوجودية المهمة فى تصوير بالغ الإيجاز والإيحاء والدهشة:

الدنيا صندوق دنيا.. دور بعد دور

الدكة هى.. وهى كل الديكور

يمشى اللى شاف ويسيب لغيره مكان

كان عربجى أو كان إمبراطور

عجبى

أنا شاب لكن عمرى ولا ألف عام

وحيد ولكن بين ضلوعى زحام

خايف ولكن خوفى منى أنا

أخرس ولكن قلبى مليان كلام

عجبى

علمى ان كان الخلق من أصل طين

وكلهم بينزلوا مغمضين

بعد الدقائق والشهور والسنين

تلاقى ناس أشرار وناس طيبين

عجبى

نكسة «جاهين»

لم تصب نكسة الهزيمة فى 1967 مصر وحدها بجرح غائر ورحيل فارسها عبد الناصر عام 70 وإنما كتبت كلمة النهاية سريعًا فى قصة حياة «جاهين» فأصاب شاعر الثورة إحباط الانكسار ودخل فى صمت المطعون المكلوم ولم يجد شاعر الثورة له مخرجا من نفق الإحباط وظلمة الإحساس بالغبن والضياع وربما لوم الذات وإنكار الحلم بل ومعاداته سوى الدخول الى دوامة العمل السينمائى السهل فى حركة هى اقرب إلى حركات مهرج السيرك الذى يضحك الآخرين بقلب نازف – فكتب لصديقة دربه سعاد حسنى أغنيات فيلمها «خلى بالك من زوزو» الذى حقق نجاحا جماهيريا ساحقا، بين جماهير متغيرة كانت قد تعبت من وطأة أحلامها طوال عشرين عاما، وتعبت من الحروب والمعارك والأناشيد، وأرادت أن تنسى وترقص وتلهو على أنغام تقول لها أن «الدنيا ربيع، والجو بديع، قفلى على كل المواضيع» وهكذا نظر بعض المثقفين فى حزن إلى شاعر الثورة وفارسها القديم وقد انكسرت قوادم أحلامه «كما تنبأ صلاح عبدالصبور» وتحول مغنى الجماهير إلى مضحكها.

وفاته

رحل شاعر الفقراء صلاح جاهين 21 أبريل عام 1986 حين ابتلع جرعة زائدة من الحبوب المنومة والتى كان يتناولها للتخلص من مرض الاكتئاب ولكنه أسلم الروح وهو لم يتجاوز السادسة والخمسين من العمر، مخلفا وراءه ثروة فنية هائلة تمثلت فى مئات القصائد ورسوم الكاريكاتير وقد اتهمه كثيرون بالانتحار.