السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

من صفحات التاريخ

عبد الرحمن بدوى.. الفيلسوف القلق

تخصص د.عبد الرحمن بدوى (1917- 2002) فى الفلسفة الوجودية وكانت رسالته للماجستير بعنوان» مشكلة الموت فى الفلسفة الوجودية» عام 1941، وكانت رسالته للدكتوراه بعنوان» الزمان الوجودى» عام 1944التى علق عليها طه حسين أثناء مناقشته لها فى 29 مايو 1944 قائلا: «أشاهد فيلسوفا مصريا للمرة الأولى». وناقش بها بدوى مشكلة الموت فى الفلسفة الوجودية والزمان الوجودي. وقد تأثر بوجودية الفيلسوف الألمانى هايدجر ( 1889- 1976) مع الاهتمام بالنزعة الديناميكية التى تجعل للفعل أولوية على الفكر والتى تستند فى استخلاصها لمعانى الوجود إلى العقل والعاطفة والإرادة معا،وإلى التجربة الحية،وعلى ملكة الوجدان بوصفها أقدر ملكات الإدراك على فهم الوجود الحي.



وقد تبارى المفكرون الغربيون فى التحذير من الإسلام بعد سقوط الشيوعية لأنه مقاوم للعلمنة وسيطرته على المؤمنين به قوية، وقرر الغرب اتخاذ الإسلام عدوا بديلا للخطر الأحمر وشن حملات واسعة من الكراهية والتخويف والتزييف.فكتب المفكر الأمريكى من أصل يابانى فرانسيس فوكوياما  يقول:» إن الإسلام هو الحضارة الوحيدة فى العالم التى ترفض الحداثة الغربية ومبدأها الأكثر أساسية هو العلمانية.. وإن الصراع الحالى ليس ضد الإرهاب، ولكنه صراع ضد العقيدة الإسلامية الأصولية التى ترفض الحداثة والدولة العلمانية.. وهذا الصراع يمثل تحديا أيديولوجيا، وهو فى بعض جوانبه أكثر اساسية من الخطر الذى شكلته الشيوعية». 

وقد انضم فيلسوف صدام الحضارات صمويل هنتنجتون (1927- 2008) إلى فوكوياما وأعلن ضرورة قيام حرب داخل الإسلام حتى يقبل الحداثة الغربية.

ويجد د.عبد الرحمن بدوى كل معالم هذه الحرب على الإسلام فى فرنسا والغرب خلال السنوات التى عاشها هناك .. وفى مواجهة هذه التحديات انتفض عقله فيعود بكل كيانه إلى أصالته الحضارية مدافعا عن الإسلام والقرآن ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فقال: «إن عنصرية الغربيين ضد الإسلام واضحة.. فالغرب فيما يتعلق بالإسلام،يكيل ليس بمكيالين فقط، بل بعشرة أو ربما بمئة مكيال.. فهو أكثر عنصرية ووحشية مع الإسلام مما يمكن أن نتصور.. وفى مكتبات باريس عشرات الكتب التى تقطر سما على الإسلام .. إن كل من هب ودب من الغربيين بات يعطى نفسه الحق فى الحديث عن الإسلام، وترجمة قرآنه المجيد.. ولقد تألمت كثيرا لأن باحثا يهوديا يدعى (أندريه شوراكي) كان يشغل منصب عمدة القدس قام بوضع ترجمة للقرآن الكريم هى عار على الترجمة والمترجمين فى كل زمان؛ لأنها مليئة بالاعتداءات الصارخة على النص القرآنى!.. إن الغرب لا يريد أن يفهم من الإسلام إلا ما يريد هو أن يفهمه .. ولقد لاحظت أن حياة النبى صلى الله عليه وسلم أصبحت تلوكها- عن علم أو عن غير علم- ألسن الأدعياء من الكتاب الغربيين ولذلك أردت أن أقطع عليهم هذا العبث، فقمت بترجمة السيرة النبوية لابن هشام، وأنفقت فيها عامين كاملين من العمل المتواصل. وبهذه الترجمة أكمل سلسلة الكتب التى أدافع بها عن الإسلام – بالفرنسية- وأهمها) دفاع عن القرآن ضد منتقديه) سنة 1989م، و (دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره) سنة 1990م.

إن هناك جرأة جهولة حمقاء عند هؤلاء الكتاب الأجانب،الذين يجهلون العربية،مع معلومات ضحلة عن المصادر الإسلامية وسيطرة الحقد الدفين لديهم ضد الإسلام، ونقلهم الأكاذيب والافتراءات حول القرآن والإسلام بعضهم من بعض، والتزامهم التبشيرى الشديد التعصب، والاجتراء على الإسلام .. لذلك كرست جهودى فى السنوات الأخيرة للدفاع عن الإسلام، وتصديت بالتفنيد والتحليل لكل الكتابات الغربية المغرضة .

أصدر بدوى كتاب «دفاع عن القرآن ضد منتقديه» باللغة الفرنسية وترجمه إلى اللغة العربية كمال جاد الله، وجاء فى مقدمته: «لقد تعرض القرآن الكريم باعتباره الركيزة الأساسية للإسلام لهجمات كثيرة من الذين كتبوا ضد الإسلام، سواء فى الشرق أو فى الغرب، وكان ذلك بدءاً من النصف الثانى للقرن الأول الهجري/ السابع الميلادى حتى الآن». وتناول بدوى فى كتابه القيم ذاك بالرد العلمى والتحليل المنهجى أعمال المستشرقين حول القرآن الكريم، وقد حدد لكتابه خمسة منطلقات لفضح ما وصفه بالجرأة الجهولة الحمقاء عند هؤلاء المستشرقين حول القرآن، والتى يتمثل أولها فى ضعف هؤلاء المستشرقين فى اللغة العربية، وهى ملاحظة اعتبرها «تخصهم جميعاً تقريباً»، والثانى فى كون جميع معلوماتهم مستقاة «من مصادر جزئية ناقصة وضحلة وغير كافية»، وأنهم «يرمون بأنفسهم فى مغامرة طرح فرضيات خطيرة وخاطئة يعتقدون أنهم أول من توصل إليها»، والثالث يتمثل فى تحكم الضغينة والحقد فى بعضهم على الإسلام، مما يفقدهم الموضوعية، ويعمى بصيرتهم، والرابع ذهاب بعضهم إلى اعتبار القرآن مجرد «انتحال وتقليد وسرقة»، أما خامس هذه المنطلقات، فيتمثل فى التعصب والدوافع التبشيرية لدى بعض هؤلاء المستشرقين مثلما هو الأمر بالنسبة للمستشرق وليم موير، وزويم.

غير أن تلك الكتابات برغم أنها عند البعض تعتبر مفارقة للدين الإسلامى، إلا أنها عند البعض الآخر من الباحثين تصنف بأنها قريبة من بؤرة الدين حتى ولو انتمت للفلسفة الوجودية، ويؤكد الدكتور سعيد اللاوندى مؤلف كتاب «عبد الرحمن بدوى فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام»على ذلك، حين يقول «إن الأطروحة العلمية للدكتور عبد الرحمن بدوي، والتى حصل بها على درجة الدكتوراه تحت إشراف الدكتور طه حسين، تضم فى مراجعها أسماء كبار الوجوديين الذين يصنفون بأنهم مؤمنون أمثال جابرييل مارسيل، وياسبرز، وكيركيجارد»، ومن هنا يأتى تصنيف بدوى بانتمائه للشق الوجودى الإيمانى إن صحت التسمية وليس الإلحادي، ومن ثم فإن مراجعاته الفكرية والتى تلت مرحلة الوجودية عنده، وأدت به المرحلة الثانية من كتاباته والتى تميزت بالدفاع عن الدين الإسلامى وعن القرآن الكريم والنبى محمد صلى الله عليه وسلم كانت بطريقة معينة قراءة أخرى لمفاهيم التراث الإسلامى وبنيته، ومن أبرز مؤلفاته فى تلك المرحلة: «دفاع عن القرآن ضد منتقديه» وكتاب «دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره».

وينقل اللاوندى فى كتابه المشار إليه آنفاً حول سر تحول عبد الرحمن بدوى من الوجودية إلى الدفاع عن الإسلام قوله: «إننى أناضل منذ بداية حياتى الفكرية على جبهتين، جبهة الفلسفة العامة بما فيها الفلسفة الوجودية، وجبهة الفكر الإسلامى، وليس ثمة تناقض بينهما على الأقل فى مجال البحث وتاريخ الأفكار».

واعتبر بدوى فى مراجعاته تلك أن أى عقل ناضج يفكر لا يثبت على حقيقة واحدة، ولكنه يتساءل ويستفسر ويطرح أسئلته فى كل وقت، وأكد أنه فى مرحلته الفكرية الأخيرة تلك، كان يجدد نشاطه ويعيش مرحلة القرب من الله تعالى، والتخلى عن كل ما كتب من قبل من آراء تتصادم مع الفكر الملتزم بالحق والخير والجمال. 

كتاب «شخصيات قلقة فى الإسلام» واحد من أشهر كتب عبد الرحمن بدوى وأهمها لأسباب عدة منها أن العنوان لافت للانتباه فمن هى هذه الشخصيات ولماذا هى قلقة؟

ولا ننسى أن مفهوم القلق منغرس فى الفلسفة الوجودية والبعض كان يطلق على عبد الرحمن بدوى لقب رائد الفلسفة الوجودية العربية، لكن خلافا لما قد يحيلنا عليه مصطلح القلق فالكتاب لا علاقة له بالوجودية وهو قراءة فى ثلاث شخصيات إسلامية شهيرة هى سلمان الفارسى ابو منصور الحلاج والسهروردي.

وهل هناك مهتم بالثقافة العربية الإسلامية لم يسمع بهذه الأسماء ولا يجمع بين هذه الشخصيات شيء سوى أنها من أصول فارسية أو متشيعة أو أن بعضها عرف مصيرا سياسيا فاجعا انتهى بالقتل أو أنها كانت تمثل اتجاهات قوية فى التصوف الإسلامى تميزت بروحانيتها الشرقية العالية، ولكن عندما نتعمق فى الأمر نجد أن هذه الشخصيات الثلاث تمثل نسيجا روحانيا واحدا يغوص عميقا فى التراث العربى والاسلامي.

وفى السياق نفسه جاء كتاب بدوى عن الدفاع عن النبى صلى الله عليه وسلم إذ كتبه أيضا باللغة الفرنسية وترجمه كذلك كمال جاد الله إلى اللغة العربية، وقدم فيه نموذجاً فريداً للدفاع العلمى الرصين عن الحقائق التاريخية والعلمية، فى وجه كم هائل من الأكاذيب والتضليل الجهول أو المتعمد، ورد الدكتور بدوى فى كتابه ذاك وبرصانته العلمية المعروفة على دعاوى فرانتس بول وتور أندريا وشبرنجر بشأن صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كما تناول بالتحليل والنفى العلمى الأكاذيب التى جاء بها فرانسيس بيكون حول النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وأوضح بدوى أن بيكون صاحب المنهج التجريبى لم يتورع عن ترديد أكاذيب مكشوفة ودعاية تاريخية زائفة، وتأتى أهمية الكتاب من كونه اختار تلك الدعاوى التى توصف فى الغرب بأنها ذات قيمة علمية نسبة لأصحابها من المشاهير فى الفكر والتاريخ، ليدحضها اعتماداً على منهجية واضحة.