السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فتح باب الاجتهاد يقضى على أكاذيب تيارات الإسلام السياسى

لم تكن لتمر أكاذيب تنظيم الإخوان الإرهابى على بعض المجددين الواعين الذين عرفتهم مصر فى أواخر القرن الـ19 وأول القرن الـ20.



لقد كان الشيخ عبد المتعال الصعيدى فى مقدمة هؤلاء المجددين الأزهريين  الذى تصدوا وفندوا الأكاذيب التى روجتها وأشاعتها الجماعة الإرهابية وأخواتها من العصابات الإجرامية حول الإسلام وعلاقته بالسياسة ونظام الحكم.

طالت يد التجديد عند الصعيدى –ولد 1894م وتوفى 1966م- مختلف مجالات الفكر الإسلامى بداية من علوم القرآن مرورا بالحديث وعلم الكلام والفقه وأصوله والبلاغة والأدب والنحو والتاريخ الإسلامى والفلسفة الإسلامية فضلا عن تصوره لما يجب ان يكون عليه تطوير نظام التعليم الأزهرى.. وكان طبيعيا ان تصل مسيرة التجديد بالصعيدى إلى التوفيق بين الإسلام وأنظمة الحكم المعاصرة بطريقة تخالف تصورات جماعات الإسلام السياسى.

 

التجديد الإسلامى

«إذا أراد المسلمون فى عصرنا أن ينجح سعيهم 

في النهوض بدينهم فليبدأوا أولا بطلب الإصلاح الدينى وهذا لا يكون الا بفتح باب الاجتهاد الدينى على مصراعيه ليدخل فيه أهل الاجتهاد وهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، ويمكنهم تطهير «الإسلام» مما ألصقه به أهل الرجعية والجمود ويقينى أنه بفتح باب الاجتهاد يمكننا التوفيق بين الحكم الدينى والحكم القومي».. عبدالمتعال الصعيدى نقلا عن «من أين نبدأ».

تشير هذه الفقرة الضوء على معركة التجديد التى خاض غمارها الراحل الكبير عبد المتعال الصعيدى بكل جراءة وجسارة.

 عمليا لاح فى الأفق مشكل التوفيق بين الإسلام والأنظمة السياسية المعاصرة فى أعقاب سقوط الدولة العثمانية عام 1924م حيث ظهرت دعوات تطالب بتأسيس خلافة إسلامية جديدة تقوم بشئون المسلمين لأن الأنظمة التى حلت محل الدولة العثمانية-بزعمهم- غير شرعية بالمعنى الدينى . وليس خافيا أن هذا الزعم لا تزال تروجه جماعات الإسلام السياسى بمختلف أطيافها من الإخوان إلى داعش.

 تقصى كتابات الصعيدى يكشف لنا عن مواجهات علمية مع أفكار وشخصيات الإسلام السياسى .الصعيدى هاجم -مثلا- المودودى بسبب موقفه الرافض لتولى غير المسلمين أى منصب فى «الدولة الإسلامية» بحجة أنهم لا يؤمنون بعقيدة «الدولة»!

 الصعيدى أيضا ألف كتاب «من أين نبدأ» وكان «طرفا ثالثا» فى المعركة التى دارت عام 1950 بسبب كتاب خالد محمد خالد: من هنا نبدأ ورد عليه محمد الغزالى بكتاب «من هنا نعلم». 

أهمية «من أين نبدأ» انه يعد أول مؤلف فى عصرنا الحديث يرد تفصيليا على فكر «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسى منطلقا من موقف اسلامى مجدد.

وفيما يلى عرض لردود الصعيدى على الأكاذيب-القضايا التى تروجها التنظيمات الإرهابية. 

نظام الحكم المصرى

يرفض الصعيدى دعوات جماعات الإسلام السياسى إلى تأسيس «حكومة إسلامية» على أنقاض الحكومات الموجودة مؤكدا أن الأنظمة العربية الحديثة القائمة هى حكومات إسلامية بحكم الدستور الذى جعل الإسلام مرجعية هذه الأنظمة فيقول فى «من أين نبدأ»: يجب أن يعلم الداعون الآن إلى الحكومة الدينية-يقصد الأخوان المسلمون- أن الحكومة القائمة-مصر عام 1950- حكومة إسلامية، وأنه لا معنى لمطالبتهم بذلك مع قيام هذه الحكومة، لأن صبغتها فى جملتها صبغة إسلامية، وهى كذلك فى العرف الدولى حكومة إسلامية، لأن رئيسها الأعلى مسلم، ولأن دينها الرسمى هو «الإسلام» ولأن الشريعة الإسلامية تعد الأصل الأصيل لكل تشريع فى مصر، وقد جاء دستورها مقررا لهذا الأصل، فنص فى المادة -١٤٩- من مواده على أن «الإسلام» دين الدولة الرسمي، وهذا بناء على اقتراح من بعض علماء الأزهر، وهو الشيخ محمد بخيت رحمه الله، وكان عضوا فى اللجنة التى وضعت الدستور، فقال: أريد أن أعرض بعض قواعد تضاف إلى أحكام الدستور، فأطلب أن ينص على أن الدين الرسمى للدولة المصرية هو «الإسلام»، فاقترح حسين رشدى باشا رحمه الله أخذ آراء أعضاء اللجنة على هذا الاقتراح، فوافقت عليه بالإجماع، ولم يخالف فيه أعضاؤها من غير المسلمين، وتكررت الموافقة الاجماعية عليه فى أربع جلسات متتابعة.».. .ما كتبه الصعيدى كان قبل ان تضاف المادة الثانية للدستور التى جعلت الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع!

الشريعة والقانون

ثمة مقولة كارثية أذاعتها وتذيعها جماعات التطرف الدينى فى مختلف البلدان العربية والإسلامية مفادها: القوانين التى تحكم البلدان العربية قوانين جاهلية فرضها الاستعمار الغربى على بلداننا العربية والإسلامية».

هذه الفكرة الدموية استخدمتها جماعات الإسلام السياسى ذريعة للقتل ولإسقاط شرعية الأنظمة الحديثة والمعاصرة لكن الصعيدى تصدى لهذا الأمر مستندا على دراسات وكتابات لنخبة من علماء الشريعة فى مطلع القرن العشرين تفند هذه المقولة فيقول: جاء فى مجلة -رسالة الإسلام- من مقالة للأستاذ على على منصور بك مستشار مجلس الدولة لمحكمة القضاء الإداري: الذى نود أن نبرزه فى هذا الصدد أن ولى الأمر لم يدر بخلده أن ينقل إلى المحاكم الأهلية قوانين تناقض الشريعة الاسلامية، بدليل أن اسماعيل باشا أمر قدرى باشا قبل انشائها بوضع قانون مدنى ذى مواد مبوبة نقلا عن الشريعة الإسلامية، فقام قدرى باشا بوضعه، وبدليل ما ثبت من أنه عندما فكر فى أن ينقل إلى مصر قانون نابليون الفرنسى أمر بترجمته، ثم دفع به إلى الشيخ مخلوف المنياوى –عالم أزهري-لمراجعته، ومعرفة مدى انطباق أحكامه على أحكام الشريعة الاسلامية، وقد انتهى الشيخ طيب الله ثراه من مراجعة -٢٢٧- مادة منه، وعلق على كل واحدة منها، فذكر أنها جميعا عدا مواد قليلة: إما أن توافق نصا فى مذهب الإمام مالك، أو توافق الرأى الراجح منه، أو على الأقل رأيا ولو كان مرجوحا، أو أنها مماثلة لشيء من ذلك، أو أنها يمكن تخريجها على قواعد ذلك المذهب وأصوله، أو أنها من قبيل المصالح المرسلة التى ترك الإسلام لأهله الاجتهاد فيها كل مصر بحسب ظروف زمانه ومكانه وبيئته، وفى ذلك العهد شاعت القالة –المقولة-بأن قانون نابليون مأخوذ من مذهب مالك، ولعل ذلك هو منشأ هذه المقولة، أو لعل لها أصلا من الصحة، إذ المعروف أن نابليون جعل من أغراض حملته فى مصر بحث واستخلاص ما بها من كنوز تاريخية وأثرية وثقافية، واستقدم معه جمهرة من علماء بلاده للإفادة من تلك الكنوز.

ثم قال: صحيح أنه كان من آثار ما سلف أن عطلت بعض أحكام الشريعة الإسلامية فى بعض أحكام الحدود، وأهمها حد السرقة، وهو قطع اليد بشروط معينة، وليس هذا إلا تعطيلا جزئيا موقوتا، وقد عطل هذا الحد فى وقت ما، وكان هذا فى عهد عمر بن الخطاب، وكان أشد المسلمين استمساكا بأحكام الشريعة، ولم يقل ولا يصح أن يقول أحد: إن تعطيل هذا القدر من الحدود للضرورة دعا إلى تعطيل باقى الحدود، أو إلى تعطيل أحكام الشريعة الإسلامية التى هى أصل لذاك الفرع».

ثم يختم قائلا:وبهذا كله يثبت أن الحكومة القائمة حكومة إسلامية، ولا يكون هناك معنى لمطالبة بعض جماعاتنا الدينية بحكومة دينية، اللهم إلا أن كانوا لا يرضيهم أنها تجمع إلى صبغتها الدينية صبغة قومية، وهذا هو ما يخافه منهم من يستريب فى دعوتهم، ويظن أنهم يطالبون بحكومة إسلامية عامة لكل البلاد الإسلامية، وابطال هذه الحكومات القومية القائمة فى كل قطر إسلامي، بدعوى أنه لا يصح فى الإسلام إلا أن يكون له حكومة واحدة ووطن واحد، وهذه دعوى خاطئة، لأن الإسلام لا يمنع أن تقوم فيه حكومات متعددة لكل بلد إسلامي، فإذا قامت هذه الحكومات لا يطلب منها إلا أن تكون متحابة لا متعادية، وقد قال بجواز تعدد الحكم فى «الإسلام» بعض من العلماء، واستند فيه إلى اقتراح الأنصار على المهاجرين حين اختلفوا قبل الاتفاق على أبى بكر أن يكون من المهاجرين أمير ومن الأنصار أمير، ولو كان هذا مما لا يجيزه «الإسلام» ما اقترحوه.

الإسلام والوطنية

اشاع «الإسلام السياسي» فى عصرنا الراهن ان المسلم لا جنسية له سوى الإسلام والوطنية فكرة علمانية دخيلة على المسلمين 

يفند الصعيدى هذا الوهم قائلا: لا يفرق الإسلام فيما يقع فيه من جنسيات خاصة وأوطان خاصة بين مسلم وغير مسلم، بل يرى أن الدين عقيدة بين الشخص وربه، فالدين فى نظره لله، والوطن لجميع الناس من مسلم وغير مسلم».

ويمضى مؤكدا على عدم تعارض الإسلام مع الوطنية او القومية فيقول: الإسلام لا يمنع المصرى المسلم مثلا ان يعتز بمصريته مع اعتزازه بإسلامه، وأن يذكر مفاخر قدماء المصريين مع ذكر مفاخر سلفه من المسلمين، فقد افتخر النبى صلى الله عليه وسلم بأنه من قريش فقال: «أنا أفصح العرب بيد أنى من قريش» قلنا ان نفتخر بأننا من مصر مثلا، لما كانا لها من ماض مجيد فى حضارتها القديمة، ولنا أن نعمل على رقيها ورفعتها كما نعمل على رقى الاسلام ورفعته، لننهض بها فى حاضرها، ونعيد لها مجدها قبل الاسلام وبعده.

ثم يذكر ما حدث فى ثورة 1919 من وحدة وطنية حيث كانت مقاومة المستعمر على أساس قومى ووطنى مشددا ان الإسلام لا يعارض مثل هذا التوجه فيقول: كان لغير المسلمين من أبناء مصر مثل جهاد المسلمين أو أروع منه، إذ ساروا جميعا جنبا لجنب فى مقاومة المستعمرين، وذاقوا جميعا مرارة السجن والنفى وغيرهما مما ذاقوه، وقد حاول المستعمرون أن يفرقوا بين هؤلاء المجاهدين باسم الدين ففشلوا فى كل محاولاتهم، وآثر غير المسلمين من أبناء مصر قوميتهم ووطنيتهم على الاستجابة لأولئك المستعمرين الأجانب، ولا شك أن المستعمرين الأجانب لا يسعون إلى هذه لغاية إلا لأنهم يعرفون أنها تقضى على هذه الوحدة الوطنية بين أبناء مصر، وتقسمهم إلى فريقين يحارب بعضهم بعضا باسم الدين، فيشتغلون بهذه الحرب الداخلية عن الجهاد فى اخراجهم من البلاد، بل ربما يصبح بعضنا فى حاجة إلى ابقائهم فيها لأجل حمايته من الفريق الآخر، وقد عرف الزعماء الوطنيون هذا الخطر على الوطن، فحرصوا على أن يكون جهادهم وطنيا صرفا، ليشترك فيه الوطنيون جميعا من مسلمين ومسيحيين، وتكون لهم غاية واحدة لا تفرق بينهم، ولا يجد العدو فيها منفذا لتفريق كلمتهم، ولم يشذ عن هذا زعيم من أولئك الزعماء الوطنيين، من مصطفى كامل باشا، إلى سعد زغلول باشا، إلى غيرهما من الزعماء الذين عرف الشعب صواب خطتهم فى الجهاد، فسار أفراده جميعا وراءهم فيه، حتى قال بعض غير المسلمين فى ذلك قولته المشهورة -الوطنية ديننا، والاستقلال حياتنا- وحتى كان لهذه الوحدة الوطنية الرائعة أثرها فى نفوس رجال الدين من المسلمين والمسيحيين، فساروا فى مقدمة صفوفها، وكانوا فى طليعة المجاهدين فيها، واعتلى رجال الدين المسيحيون منابر المساجد يدعون فيها إلى جهاد عدو البلاد، كما خطب رجال الدين المسلمون فى الكنائس يدعون إلى هذا أيضا.ولا يسع الاسلام أن يبارك هذا الجهاد الوطنى».

الدولة العثمانية 

خلق سقوط الدولة العثمانية حالة من الحيرة لدى الكثيرين وفق تصور او وهم ان هذه الخلافة كانت ذات طبيعة دينية وهو الامر الذى يرفضه الصعيدى مؤكدا على عدة نقاط: أولها: الخلافة الإسلامية هى رياسة عامة فى أمر الدين والدنيا تقوم باختيار أهل الحل والعقد فى الأمة، وأهل الحل والعقد قد يشملون جمهور الأمة من كل بالغ عاقل، ولو كان أميًا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وقد يشترط فيهم شروط تخصص حق اختيار الخليفة بطوائف معينة من الجمهور.. واختيار اهل الحل والعقد لم يقع الا للخلفاء الأربع –ابوبكر وعمر وعثمان وعلى- ومن ثم يؤكد أن الدولة العثمانية والعباسية والأموية لم تكن خلافة إسلامية بالمعنى الصحيح.

ثانيها: لا يصح قصر صحة الحكم الإسلامى على الخلافة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم مات ولم يعين شكلا للحكم، بل ترك تعيينه لاختيار المسلمين، حتى لا يكون هناك حرج عليهم فى اختيار شكل الحكم الذى يلائم ظروفهم وأحوالهم، والإسلام كما قلنا دين يسر لا عسر، فلا يهم فيه إلا أن يقوم الحكم فيه على أساس الشورى والعدل، ومتى قام على هذا الأساس كان حكما إسلاميا صحيحًا، سواء أكان القائم به ملكا أم خليفة أم رئيس ..وقد ذهب بعض علماء عصرنا حين ألغى مصطفى كمال باشا دولة آل عثمان إلى أنه يجوز أن يستغنى عنه الخليفة بملوك المسلمين وأمرائهم، فيكون كل واحد منهم خليفة فى بلاده. ثالثها: النظام الجمهورى الحديث هو نظام الخلافة الإسلامى بعينه، وإذا كان بعض الجمهوريات الحديثة يختار رئيس الجمهورية لمدة محدودة، فإن بعضها يختاره إلى وفاته، كما اتبع فى اختيار الخلفاء الأربعة الراشدين، وليس فى الإسلام ما يمنع اختيار الخليفة لمدة محدودة كما سبق، ويلى الملك الدستورى للنظام الجمهورى فى القرب من نظام الخلافة، لأنه يقوم برضا الشعب واختياره فى الجملة».

معركة مع المودودى

فى كتابه «القرآن والحكم الاستعمارى» واجه الصعيدى ابا الأعلى المودودى أبرز دعاة الإسلام السياسى فى العصر الحديث حول المساواة بين المسلمين وغير المسلمين-اهل الذمة- فى الحقوق السياسية حيث رفض المودودى مساواة المسلمين بغيرهم فى الحقوق السياسية لان نظام الدولة عند المسلمين هو الإسلام لذا فأحكام وقوانين ونظام هذه الدولة يُبنى على الكتاب والسنة ومن ثم ليس لغير المسلمين تحمل تبعة هذا النظام القائم على الدين!

فى رده قال الصعيدي: المودودى فى ذلك ينسى ان الأصل فى أهل الذمة أن يكون لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين فلا يكفى فى حرمانهم من حق الدخول فى مجلس الشورى عدم اشتراكهم فى هذا على عهد النبى –ص- وعلى عهد الخلفاء الراشدين بعده بل لابد من نص يدل على انهم ليس لهم هذا الحق ليمكن استثناؤهم من ذلك الأصل، وقد كان الدخول فى الشورى على ذلك العهد مقصورا على اهل الدين وحدهم فهل يصح ان نقصره عليهم دون غيرهم من المسلمين كما يحاول الأستاذ المودودى أن يقصره الآن على المسلمين وحدهم لأنه كان فى ذلك العهد مقصورا عليهم؟ اللهم لا فيجب ان يكون شأن اهل الذمة فى ذلك كشأن المسلمين من غير أهل المدينة سواء بسواء.. ولا ضرر على ديننا من مشاركتهم لنا فى الشورى فى الأمور الدنيوية وقد ترك النبى -ص- لنا علم أمور الدنيا فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم وعلم أمور الدنيا يستوى فيه المسلم وغير المسلم بل قد يكون غير المسلم أعلم بها من المسلم».