الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

فى ذكـرى ميـلاده أنيس منصور..

«كلنا حيوانات عند الخبز والقبلات أى عند البحث عن الطعام وعن الحب.. عن الرغيف وعن القبلة.. عن الذى تملاْ به المعدة وتملاْ به القلب.. ويحدث كثيراً أن نجد الحب ولا نجد الرغيف.. أو نجد الجنس ولا نجد الحنان ! وفى زحام المدن يتولد الاصطدام ، ويتولد الخوف والكراهية والمنافسة حتى الموت !! وهذا هو العذاب الذى يعانيه الإنسان فى كل عصور التاريخ».  



أنها بضع كلمات رسمت طريق السندباد أنيس منصور، الذى تحل علينا اليوم ذكرى ميلاده فى 18 أغسطس 1924.. ولد أنيس منصور بإحدى قرى محافظة الدقهلية. كان يُشهد له بالذكاء واتقاد العقل منذ صغره، وعلامة على ذلك فقد حفظ القرآن الكريم كله فى سن التاسعة، ثم بعدها ذهب للمنصورة من أجل دراسته الثانوية التى أثمرت بالتحاقه بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، التى أظهرت تفوقًا ملحوظًا فيه، مما أدى إلى تعيينه كأستاذ بالقسم نفسه بجامعة عين شمس، بعدها ترك التدريس ليعمل كصحفى وأديب، فبدأ مشواره الصحفى مع مؤسسة أخبار اليوم.

ثم انتقل للعديد من المؤسسات الأخرى مثل: الأهرام، آخر ساعة، الهلال، وروزاليوسف، خصوصًا الأخيرة تلك له فيها صولات وجولات ومواقف مضحكة بشدة، وبين هذا وذاك كتب العشرات من الأعمال الأدبية التى تندرج أسفل تصنيفات مختلفة مثل: الفلسفة، السياسة، التاريخ، الفنون، العلوم، ما وراء الطبيعة، وبالتأكيد المرأة التى لديه فيها نظرة خاصة جدًا حتى صاحبه فيها لقب «عدو المرأة» وهو اللقب الذى اعتز به حتى آخر أيامه.

على الرغم من تنقل أنيس منصور بين العديد من المواضيع الحياتية، وتناولها بنظرة فلسفية بحته، فضلًا عن علاقته الوطيدة بعمالقة الأدب العربى فى تلك الفترة مثل نجيب محفوظ والعقاد وغيرهم، إلا أنه اختار نهجًا مختلفًا عن سابقيه، فأصبح يتناول كتاباته بعيدًا عن اللغه الرصينة والتشبيهات الأدبية الثقيلة، واتجه أن يقدم فلسفته بلغة أكثر سلاسة وبأسلوب بسيط ليصل الى جميع طبقات المجتمع ، المثقف والأمي، حتى لقب بـ«فيلسوف الغلابة».

أنيس.. و«الوجودية» 

تنقل أنيس منصور بين جوانب الفلسفات جميعًا، وجودية واشتراكية وشيوعية ومادية وبراجماتية ودينية، مثلما استوعب كل تاريخ الأديان، فرأى فيها شيئاً مشتركاً، وضربته الحيرة التى تعصف بكل الفلاسفة والمفكرين العظماء.

وكان أنيس عضواً فى جماعة «الإخوان» الإرهابية، قبل أن يصدر المرشد العام، حسن البنا شخصياً قراراً بفصله منها، حيث روى منصور أنه حينما جاء الى القاهرة كانت جماعة الإخوان بمثابة مخبأ احتمى فيه هو بعض الأصدقاء من صخب المدينة الكبيرة، فكان القاسم المشترك بينه وبين أعضاء الجماعة هو العقيدة الإسلامية فقط: «من المؤكد أننا مسلمون نصلى ونصوم، ولكن فقط نريد أن نعرف، نريد أن نفهم، وكنا لا نجد من يقول، ولا من يدلنا على ما الذى يحيرنا».

وقال أنيس منصور فى حواره مع الكاتبة الصحفية نشوى الحوفى فى عام 2009 : «لا تسألينى عن رأيى فى الإخوان فى تلك الفترة لأننى عندما جئت للقاهرة وجدتها كبيرة جدًا لدرجة أننى كنت أندهش من اتساع الطرق وكيفية عبور الناس لها، والحقيقة أننى وجدت فى هذه الجماعة حينها بعض الألفة وكانوا يتعاملون بالقرآن الذى أحفظه ولديهم مكتبة كبيرة جعلونى أمينا عليها فى مركز إمبابة». ويستطرد منصور فى حواره :»فى عام 1946 اكتشف عدد من الإخوان أننى ومعى عدد من زملائى فى الجامعة نجلس فى المكتبة ونتناقش فى موضوعات ليست دينية لكنها تتنوع بين الفلسفة الوجودية والماركسية فأبلغوا مكتب المرشد عنا وجاء قرار بفصلنا من الجماعة وقد يكون للإخوان فكر ولكن لهم سوابق عديدة فى العنف تجعلنا غير قادرين على تبنى فكرهم أو الدفاع عنهم».

وكان أنيس منصور دائم البحث والرصد عن لحظات الوجود والايمان والإلهام بمذهب أو قدوة أو فكرة، والبحث عن أصل الفكرة أو المذهب وظهر ذلك جليًا فى أعمال السيرة الذاتية له من أهمها «البقية فى حياتي»، «عاشوا فى حياتي» « «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» و «إلا قليلًا».

قطار صاحبة الجلالة

كانت بوابة أنيس منصور لعالم الصحافة، من خلال ترجمة الروايات والقصص فى جريدة الأساس وذلك بسبب اتقانه لعدد من اللغات منها الإنجليزية والألمانية والإيطالية واللاتينية والفرنسية والروسية، كذلك إلمامه ببعض اللغات الأخرى أيضًا.  ثم انتقل إلى الأهرام ولم يكن مسموحاً له بالتوقيع، نظراً لحداثة سنه آنذاك، ووفقاً لتقاليد الأهرام، وبين عامى 1950 و1952 كان مسئولاً عن تحرير الصفحة النسائية والكتابة عن الموضة الأوروبية، بأسماء نسائية.

ثم بدأ الكتابة فى مؤسسة «روزاليوسف» بشكل مختلف، حيث كان يتناول أخبار الملك فاروق وحاشيته فى باب يحمل توقيع نسائى وهو « سيلفانا ماريللي»، وحين انتقل للعمل فى أخبار اليوم، نشر خبراً فى روزاليوسف، نعى فيه موت المحررة سيلفانا، خوفاً من أن ينتحل شخصيتها أحد.

وبعد انتقاله بصحبة كامل الشناوى لدار أخبار اليوم، كان فرصته للتعلم على يد مؤسسيها مصطفى وعلى أمين، قبل أن يتركها إلى مؤسسة «الأهرام»، لمدة عامين، سافر بعدها مع كامل الشناوى إلى أوروبا، فى نفس الوقت الذى قامت فيه ثورة  23 يوليو 1952، وقام أنيس منصور بإرسال أول مواضيعه مرة أخرى إلى مؤسسة «أخبار اليوم»، والتى ظل يعمل فيها حتى عام 1976، ليصبح رئيسًا لمجلس إدارة دار المعارف، وبعدها أصدر مجلة الكواكب.

وفى عام 1959 قام بأشهر رحلة صحافية فى الوطن العربي، استغرقت 225 يوما، وكان أول صحافى يزور قارة أستراليا، وأول من يلتقى الدالاى لاما فى منفاه فى الهند، وأول من يزور منفى الزعيم أحمد عرابى فى جزيرة سرنديب، وطالب آنذاك بتحويل بيت عرابى إلى متحف، وهو ما حدث فى ما بعد.

ونتيجة لنجاح هذه السلسلة من الرحلات تم اختياره رئيساً لتحرير مجلة الجيل عام ،1960 وبعدها أخذ يتنقل بين أكثر من صحيفة ومجلة، وفى عام 1976 أنشأ وترأس مجلس إدارة وتحرير مجلة (أكتوبر)، التى يبدو أن السادات أصدر قراراً بإنشائها، إرضاء لصديقه أنيس منصور، وكان آخر موقع يتولاه هو رئاسة تحرير جريدة مايو (1985).

وعلى الرغم من إبداع منصور فى كتاباته الصحفية وكذلك توليه رئاسة تحرير عدد ضخم من الصحف، حيث كان أصغر من تولى منصب رئيس التحرير فى الصحافة المصرية، وكان وقتها لم يكمل الثلاثين من عمره، إلا انه خلال حديث صحفى لمجلة اليمامة السعودية عام 1973، قال منصور: « اعتبر رئاستى لتحرير هذه الصحف والمجلات وعملى بها تجربة فاشلة لأننى خسرت كثيرًا من وقتى وعمرى وأحمد الله أننى أصبحت قارئًا وكاتبًا فقط» وأضاف الكاتب الفيلسوف: «أذكر أننى حين ترأست تحرير مجلة الجيل كتب مصطفى أمين مقالًا يقول فيه :عزيزى أنيس منصور.. إنك تجلس على أكبر خازوق فى مصر» فالمركز الإدارى يحمى الإنتاج الأدبى للكاتب إلى أن يصبح ماركة مسجلة».

العدو.. الحبيب

صاحب أنيس منصور فى مشواره الأدبى لقب «عدو المرأة» وذلك بسبب كتاباته النقدية والطريفة دائمًا حول المرأة وتكوينها العقلى والعاطفي، وكانت أبرز مقولاته « فتش عن المرأة وراء كل مصيبة».

الا أن فى الواقع كان أنيس منصور أكثر حبًا ورومانسية مع النساء فى حياته المتمثلة فى أمه وزوجته السيدة رجاء حداد، وطول حياته كان أنيس منصور يعترف بحبه الشديد لوالدته التى يعتبرها الأم والصديقة والحب الأول له فى دنياه، وفى أحد الحوارات التليفزيونية قال أنيس منصور: إنه حتى أصبح رئيس  تحرير كانت تساعده والدته فى «الاستحمام».

أما زوجته السيدة رجاء حداد, فقالت فى أحد حواراتها الصحفية: إن حكايتها مع أنيس منصور بدأت فى نادى التوفيقية,

حيث كان يشاهدها أثناء لعبها لرياضة التنس، وكانت من عائلة عريقة ومنهم من كان من الضباط الأحرار، الأمر الذى جعل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يعترض على زواجهما فى أول الأمر.

وروى الكاتب الصحفى إبراهيم عبدالعزيز فى كتابه «رسائل أنيس منصور»، فالرئيس جمال عبد الناصر، اعترض على زواج أنيس منصور من رجاء، فكيف يتزوج صحفى بفتاة أخوالها من الضباط الأحرار، خاصة وأنه يعمل فى جريدة «أخبار اليوم» التى لا يرتاح لها.

وقالت السيدة رجاء: إن أنيس منصور: «ظل يحبنى لآخر يوم فى عمره، فهو كان يعشق 3 أشياء.. أنا والسفر والكتابة».

أما فيما يتعلق بلقب «عدو المرأة» قالت حداد: إن هذا اللقب أطلق عليه بسبب عمود مقالة فى الأهرام «مواقف»، وكان يرى أنه يكتب عن الرجل العازب حتى يرفه عنه بطريقة طريفة، موضحة أنه كان يحب ذلك اللقب كثيرًا، لكنه كان أبعد ما يكون عن «عدو المرأة».