الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الصراع الطبقى فى غياب الكلمة وحضور النطق بالأجساد!

«الخادمتان» للفرنسى جان جينيه نص مسرحى تناول أزمة الصراع الطبقى بين السادة والخدم، كتبه مؤلفه أثناء الحرب العالمية الثانية واليوم أعادت قراءته وصياغته المخرجة ومصممة الرقص المعاصر سالى أحمد على خشبة المسرح المكشوف بدار الأوبرا الأسبوع الماضى، لم تتناوله المخرجة بشكل مسرحى تقليدى، بينما لخصت سالى قصة العرض وعقدته الأساسية بحركة الجسد والإيماءة؛ والمفاجأة كانت فى اهتمام الراقصين بالتمثيل، فلم يكتفوا بحركة الجسد كأداة للتعبير.



مشاعر الكراهية

يتناول نص «الخادمتان» قصة خادمتين تحركهما مشاعر الحقد والكراهية تجاه السيدة التى تعملان لديها؛ تحاولان ارتداء ملابسها ,أحذيتها وأشيائها الثمينة كنوع من الرغبة فى الوصول إلى طبقتها الاجتماعية، تسهم هذه السيدة فى إغارة مشاعر الغل والكراهية من شدة معاملتها القاسية والدونية لهما، حتى أنهما تخططان لقتلها للتخلص من جحيم وجودها؛ لخص جان جينيه ما ينتجه الصراع الطبقى من إفراز سلوكيات ومشاعر الحقد والكراهية بالمجتمع من هذه السيدة التى تمثل سلطة عليا , والخدمتان التى تمثلان السلطة الدنيا، كيف قرأت سالى أحمد هذا النص المسرحى الدرامى الممتلىء بالتفاصيل بأجساد راقصيها، أثبت هذا العمل أن النص المحكم  يمنح للمصمم المزيد من الإبداع ويفتح آفاق خياله فى تقديم رؤية مغايرة لما اعتدنا مشاهدته من نصوص مسرحية تبدو مكررة؛ وكانت دائما أزمة عروض الرقص المعاصر تتلخص فى عدم انضباطها دراميا مما قد يوقعها فى فخ الغموض لعدم وضوح معالم الفكرة الرئيسية لدى المتلقي، وبالتالى كانت تفشل أحيانا هذه العروض فى خلق أرضية أو تواصل مع متلقيها؛ فقد يكتفى أصحابها بجمال الحركة الراقصة دون الخروج بقصة أو هدف واضح من العمل بشكل عام.

البحث عن المعنى

بينما هذه المرة اختارت المخرجة أن تمنح لعملها معنى وتفاصيل درامية عميقة تناسب جمالية الحركة والموسيقى؛ كانت المفاجأة ليس فقط تدريب الراقصين على إجادة الحركة بينما صناعة حركة ذات دلالة ومعنى درامى بجانب قيام الراقصين بالتمثيل وكأنك تشاهد عملا مسرحيا متكاملا لكن بدون كلمات؛ غابت الكلمة وحضر الجسد والإيماءات؛ مما منح للعمل مذاقا خاصا وطبيعة اسثتنائية متفردة فى تناول نص «الخادمتان» لجان جينيه، بين متعة الرقص وتأويل المعنى , كان للرقص المعاصر أسلوبه الخاص فى تقديم العمل الدرامى الذى تدرجت أحداثه بين الخادمتين؛ ثم توهجت بدخول السيدة عليهما وازدادت متعة بوجود السيد حبيبها؛ التى كانت تتعمد افتعال الرقة والحنية أمامه ثم تعود إلى جحودها وقسوتها فى غيابه؛ يتحول الصراع بينهما إلى محاولة لتقمص شخصيتها بارتداء ملابسها التى طالما كانت حلمهما الكبير والنزوع فى الوصول إلى طبقتها الاجتماعية التى ستضمن لهما حياة كريمة متحررة من عبودية الخدمة والشعور الدائم بالعجز والدونية. كل هذه المشاعر المختلطة بين الحب والكراهية ومشاعر الكرامة والعزة ثم الدونية والاستعباد؛ استطاع صناع عرض «الخادمتان» نقلها بحركة الجسد الممزوجة بحرفة التمثيل، بدءا من رجوى حامد القادمة من عالم الباليه إلى الرقص المعاصر، كان لرجوى حضور كبير وثقل فنى ملحوظ على خشبة المسرح سواء أثناء قيامها بالرقص أو التمثيل، تعتبر نموذجا لتراكم الخبرة وعمق التجربة المسرحية الراقصة، ففى هذا العرض كان لظهورها هيبة كبيرة  وكأنها المايسترو الذى يتبعه عازفو الأوركسترا فى إتقان وتمكن شديد لعبت بقوة بالحركة والأداء التمثيلى شاركتها فى درجة الإجادة والإتقان وخفة الحركة والأداء شيرلى أحمد ويمنى مسعد فى دور الخادمتين ونور الهنيدى فى دور السيد؛ استطاع صناع العمل أن يندمجوا معا فى خفة ورشاقة ومتعة بالحركة والأداء المتقن، حتى خرج العرض فى هذا الاكتمال بجانب النضج الفنى الذى قدمت به المخرجة والمصممة سالى أحمد النص المسرحى فى معالجة مختلفة وجديدة لمسرح الجسد وليس مجرد عرض راقص ممتع؛ وهنا يأتى دور النص الدرامى المكتوب بعمق وحرفة ربما كان له الأثر الأكبر فى الإيحاء للمخرجة والمصممة بهذا الإبداع متقن الصنع؛ وهذا ما يؤكد أن النص المتماسك يستطيع المخرج الماهر تشكيله حيث يشاء؛ فهنا كان لنص جان جينيه الصامت حضورا ناطقا بالأجساد مما منحه متعة أخرى وعمقا أكبر من النطق بالكلمات، حالة إبداعية عذبة غزلتها المخرجة بأجساد الرقص الحديث وقام بتدريبهم على التمثيل المخرج أحمد السيد.

«معزوفة الحياة»

لم تكتف سالى بهذا العمل بل قدمت فى نفس اليوم عرضا آخر بعنوان «معزوفة الحياة»، وهو عبارة عن مجموعة رقصات متفرقة استعرضت فيه سالى عضلاتها كمصممة قدمت خلال العرض لوحات فنية راقصة، تناولت خلالها أحوال العالم اليوم من أزمات وكوارث ومعاناة اجتماعية وسياسية بدءا من حائجة فيروس كورونا الذى ساهم بشكل كبير فى حالة التباعد الاجتماعى والعزلة بين البشر، ثم الأزمة الراهنة بين مصر واثيوبيا على مياه النيل والكارثة الكبرى التى تعرضت لها بيروت مؤخرا، على أنغام الساكس فون للعازفة سارة أحمد التى شاركت الراقصين العزف الحى على خشبة المسرح ومع إبداع الراقصين رشا الوكيل، عمرو البطريق، محمد سيد «ميشا»، محمد مصطفى «كامبا»، ماجد المهندس، أحمد محمد، محمد منصور، محمد سمير، ندى سيد، حبيبة سيد قدموا جميعا فى أداء فردى وثنائى وجماعى ليلة ممتعة فى حضرة الرقص المعاصر الذى استطاعوا من خلاله تجسيد آلام واقعنا المعاصر بالرقص الحديث فى عذوبة واحتراف.