الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مشاهدات من انفجار مرفأ بيروت بيروتشيما المشاهدة السابعة

حسن البنغالى

اللوحة - أحمد رزق
اللوحة - أحمد رزق

كان يطلق عليه حسن البنغالى نسبة لبلده الأم، حتى هو نفسه نسى اسمه الحقيقى بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على وصوله إلى بيروت، عمل بمختلف الأعمال الحرة إلى أن استقر به الحال للعمل مع إحدى شركات الشحن كحارس للمستودعات وكان مقرها المرفأ، فى اليوم المشؤوم كان هناك رغم أنه يوم إجازة للجميع لكن الحارس لا يرتاح.



، كان قد حضر طعامه ليأكل عند الساعة السادسة، إلا أن الدخان المنبعث من احد العنابر لفت نظره، فترك الطعام وذهب ليستطلع الامر، لم يقم ببضع خطوات حتى حصل الانفجار الاول ونجى لانه كان خلف احد الجدران الذى حماه، ثم بدأت الاصوات تتعالى والجميع بدأ بالهروب، كادت احدى السيارات تدهسه الا أن السائق تدارك الامر وصرخ له يا بنغالى تعال بسرعة اركب، كان احد العاملين بالمرفأ ويعرفه جيدا اركبه معه وقال له إن العنبر انفجر وهناك مخاوف من انفجار آخر، ثم طارت بهم السيارة بفعل الانفجار الثانى الذى حصل فعلا، استعاد حسن والسائق وعييهما بعد الصدمة وكانت السيارة مقلوبة رأسا على عقب، حمتهما الوسائد الهوائية ولم يصابا إلا بخدوش بسيطة بفعل تطاير زجاج السيارة المحطم، خرجا زحفا من السيارة وخرجا من حرم المرفأ الذى تحول إلى غابة من الحطام.

السائق مصطفى كان من أبناء منطقة طريق الجديدة لم يشأ أن يترك حسن وحده فى الشارع، الذى كان المرفأ بالنسبة له مكان العمل والإقامة معا، فصاحب الشركة كان قد خصص له غرفة للمبيت كونه يقضى معظم ساعات يومه وليله فى الشركة، فاصطحب مصطفى حسن إلى منزله واستضافه عنده، فالشقة كانت فارغة لانتقال أهله إلى الجبل لقضاء بضعة أسابيع هربا من موجة الحر القاتل، ارتاح حسن لمعاملة مصطفى الطيبة تجاهه، وبعد مرور ثلاثة أيام بدأ يحس بالحرج وأبلغ صديقه بأنه سيترك الشقة ليفتش عن مكان للعمل والمبيت فليس من الطبيعى أن يستمر الوضع بهذه الطريقة خاصة أن الشركة لن تعود إلى العمل قبل مرور فترة طويلة، مصطفى لم يرض بأن يذهب صديقه وطلب منه أى يبقى بضعة ايام ليتدبروا الأمر.

لم يعلم حسن أن حظه السعيد بأن يصبح حارسا للعمارة التى تقع بجوار عمارة مصطفى سيتحول إلى حظ عاثر، فمصطفى تدبر له العمل وامن له غرفة فى المبنى للمبيت، وكان الراتب مقبولا ورغم الفترة القصيرة التى قضاها فى المنطقة إلا أن الجميع احبه لأخلاقه الجميلة وطريقة تعامله المحترمة مع الجميع دون استثناء.

كان المبنى الذى بدأ حسن العمل به مؤلفا من سبعة أدوار والدور السفلى كان مستودعا لأحد التجار والذى يضم ايضا مخزنا للمحروقات، مرت الأيام سريعا وكانت الأمور تسير على ما يرام بالنسبة له، كان العمل سهلا كون المبنى يقع بحى سكنى صغير والجميع يعتبر عائلة واحدة، وبعد مرور شهرين ويومين وقع ما لم يكن بالحسبان، فقد بدأ الدخان الاسود يتصاعد من المستودع باسفل العمارة ركض حسن تجاه المصدر ليتحول الدخان إلى حريق كبير لفح وجهه كصفعة قوية، حاول مع بعض شبان المنطقة اطفاء النار بالمياه وطفايات الحريق لكن السنة اللهب كانت تكبر وتتصاعد، غامر بنفسه ودخل ماسكا الخرطوم إلى اقصى مكان ممكن أن يصل اليه لكن كانت النار قد وصلت إلى خزان الوقود الخاص بمولد الكهرباء الذى انفجر محدثا دويا شديدا تبعه دمار كبير، فسقطت الاعمدة والحجارة على البنغالى الذى توفى على الفور.

دب الذعر فى الحى وبدأت اصوات الصراخ تعلو، فسكان البناية كانوا قد احتجزوا بشققهم بعد سقوط السلم وانهيار المدخل، تجمع العشرات من الشبان والاهالى لمحاولة مساعدة العالقين والجرحى، إلى أن بدات فرق الدفاع المدنى والاسعاف بالوصول، فعملت على تسريع عمليات الاجلاء والاطفاء فى وقت واحد إلى أن تمت السيطرة على الحريق بعد اربع ساعات تقريبا.

عندما هدأت الأمور قليلا بدأ السكان بالبحث عن المفقودين والاطمئنان على المصابين، مصطفى كان خارج المنطقة عندما حصل الانفجار وعاد مسرعا عند سماعه بالخبر، ليجد الشارع مقلوبا رأسا على عقب، وصدم عندما علم بان الانفجار كان بالعمارة التى يعمل بها حسن، ففتش عليه لم يجده طبعا، قال له بعض الشبان بانه نقل إلى المستشفى القريب الذى تم نقل معظم الجرحى اليه، سأل فى المستشفى فعلم بان شخصا من الجنسية البنغالية موجود فعلا بين المصابين وهو حاليا فى غرفة العمليات ويخضع لعملية جراحية، فانتظر لاكثر من ثلاث ساعات لخروجه وتفاجأ عندما شاهده لانه كان شخصا آخر، فعاد مسرعا إلى المبنى الشبه المنهار وأبلغ فرقة الدفاع المدنى عن فقدان حسن الحارس، فعاد المسعفون إلى الداخل لاستكمال البحث.

استغرقت عملية رفع الانقاض حتى صباح اليوم التالى وعندها ظهرت جثة حسن فتم رفعها وكان مصطفى لا يزال منتظرا فساعد المسعفين بنقل الجثة إلى المستشفى، ولم امامه الا التوجه إلى سفارة حسن حيث ابلغ القنصل بما جرى لتقوم السفارة بانهاء الإجراءات الرسمية المطلوبة لاخراج الجثة من المستشفى ودفنها فى بيروت طالما انه لا يوجد أى معلومات عن اهل القتيل فى بلده بالاضافة إلى صعوبة نقل الجثة جوا بسبب الاجراءات وقيود السفر المفروضة بسبب وباء كورونا، وتمت عملية الدفن من قبل مصطفى واثنين من موظفى السفارة فى احدى مقابر بيروت.

بعد أسبوع من مقتل حسن تفاجأ مصطفى باتصال هاتفى من القنصل طالبا مقابلته، فذهب للقائه فورا، وتفاجأ من المعلومات التى حصل عليها، فاحمد كان قد اتى إلى لبنان مع زوجته وابنه، كان مندوبا لاحدى الشركات فى بلاده وكانت اموره تسير بشكل ممتاز ووضعه المالى فوق المتوسط، وكان يسكن بأحد الشقق فى قلب بيروت، لكن حظه العاثر قلب حياته رأسا على عقب، فقد اندلعت احدى المعارك بين فصيلين مسلحين فى المنطقة التى يسكنها وكانت الاشتباكات عنيفة جدا استعملت خلالها الصواريخ التى لم توفر منازل المدنيين، أصاب أحدها شقة حسن ففقد زوجته وابنه، ولشدة الصدمة فقد ذاكرته وأهمل عمله وترك شقته وتشرد بشوارع بيروت لأكثر من سنة إلى أن استعاد رشده وتركيزه لكن ذاكرته لم تعد له بالكامل، فتنقل ببعض الاعمال الحرة التى كان يجيد القيام بها، إلى أن استقر به المطاف بالشركة التى قضى فيها سنوات طويلة على المرفأ، القنصل علم بهذه المعلومات بعد اتصاله بالعاملين القدامى بالسفارة وبعودته إلى الأرشيف، حيث كانت هذه المعلومات موجودة لكنها سقطت فى طى النسيان، وبعد أن استخرج حسن جواز السفر بعد فقدانه لعائلته تحول إلى أى مواطن عادى اخر يزور سفارة بلده كل بضع سنوات لتجديد جواز السفر لا اكثر، حزن مصطفى أكثر على مصير حسن لكنه فى الوقت نفسه تيقن بأن صديقه ربما يكون فرحا بدفنه فى بيروت أى بنفس الارض التى احتضنت جسدى زوجته وابنه، وكأنه كان مقدرا له هذه النهاية، أو ربما كان يعلم بان نهايته ستكون فى بيروت ولأجلها لم يعد إلى بلده على الاطلاق. فكر مصطفى طويلا بما جرى، منذ أن تعرف على حسن منذ سنوات طويلة وحتى كارثة المرفأ وصولا إلى انفجار المبنى، فبيروت التى احبت البنغالى احتضن ترابها جسده واجساد عائلته، وهو الذى احب بيروت، احبها فعلا حتى الممات، وسرح مصطفى طويلا بانه لا مفر من المكتوب كما يقال فمن يصدق أن من نجا من انفجار المرفأ رغم وجوده داخله ومقتل العشرات كانوا على بعد مئات الامتار، ليعود ويموت بسبب حادثة عرضية سببها طمع شخص ما اراد تخزين المحروقات لتكفيه لوقت طويل بعد ارتفاع اسعارها، فكم من حسن سيستقبل بعد تراب بيروت؟ وكم من الانفجارات المقصودة منها أو حتى العرضية ستحصل بعد فى هذه المدينة الجميلة التى يحاولون تشويهها باى طريقة متاحة وتعذيب اهلها إلى اقصى الدرجات؟