الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الحوار الأخير مع الشاعر الكبير

رفعت سلام نصه الشعرى غابة من الأصوات

غيب الموت الشاعر الكبير رفعت سلام عن عمر يناهز 69 عامًا بعد صراع مع مرض سرطان الرئة، والفقيد شاعر ومترجم ينتمى إلى جيل السبعينيات، وهو صاحب تجربة ثقافية من طراز خاص، يطارد خلالها إشارات الأقدمين، ويشكّل مجازاته من نسيج لغتهم، ويختار من عوالمهم ما يتوافق مع همومه الذاتية، كما أنه حريص على ترويض الحساسية العربية لتلقى القصيدة الجديدة من خلال التخلص من الثرثرة وتبنى المفارقات اللاذعة واستحضار جماليات بعض الفنون المجاورة مثل الفن التشكيلى والتصوير يغذى بها تقنياته الفنية .من أعماله الشعرية : وردة الفوضى الجميلة، إشراقات رفعت سلام، إنها توميء لى، هكذا قلت للهاوية، إلى النهار الماضى، كأنها نهاية الأرض، حجر يطفو على الماء، هكذا تكلم الكركدن .



كما ترجم عيون الشعر العالمى إلى العربية بداية من الشعر الروسى وأعلامه الكبار مثل : الغجر لبوشكين، وغيمة فى بنطلون لمايكوفسكى، والشيطان وقصائد أخرى لـ «ليرمنتوف» مرورا بالشعراء اليونانيين: ريتسوس، جريجورى جوزدانيس وقسطنطين كفافيس وانتهاء بالأعمال الكاملة لرموز الشعر الفرنسى فترجم الأعمال الكاملة لبودلير ورامبو .كما أصدر عدداً من الدراسات النقدية منها: المسرح الشعرى العربى، بحثاً عن التراث.. نظرة نقدية منهجية، بحثاً عن الشعر.. هنا حوار معه:

■ انطلقت تجربتك الشعرية قبل أربعين عاما.. كيف تتأملها اليوم؟

- ربما يكون لدى بعض الملاحظات الجزئية، لكنى لم أعكف على تطويرها، فكانت البداية بديوان «وردة الفوضى الجميلة» عام 1987 وكانت تجربة متميزة عن باقى أقرانى فى ذلك الوقت وتحمل بذورا لما سوف يتحقق فيما بعد . فكنت أبحث فى منتصف السبعينيات – بشكل مستقل – عما أسميته فيما بعد « تعدد الأصوات فى النص الشعرى «وكيف تنكسر أحادية النص الشعرى التى ورثناها عن أسلافنا القدماء والمحدثين لكى يتحول النص إلى غابة من الأصوات المتشابكة والمتداخلة، والتى لا يفقد فيها كل صوت سماته الحميمية فى نفس الوقت، ودون أن يصرف النص إلى مسرح شعرى . وهذا ما قادنى فى الديوان الثانى : «إشراقات رفعت سلام « 1987، حيث ظهر الديوان كنص واحد ليتوزع على أقسام داخلية، لكنه ليس تجميعاً لقصائد كما حدث مع الديوان الأول، فهو بنية شاملة ومتكاملة كما يبنى الروائى روايته الكاملة .فانقسمت الصفحة فى هذا العمل إلى متن وهامش، أى إن تلك الأحادية التى انكسرت شعرياً، انكسرت طباعيا فى نفس الوقت فانقسمت الصفحة إلى عمودين : عمود الهامش يحف عمود المتن على امتداد العمل كله .

ولقد تحددت فى هذا النص، وما سوف يعقبه من أعمال الأزمنة والتواريخ والأساطير والمستويات اللغوية والإيقاعات، ليصبح النص منفتحاً عن آخره، قابلا للتمدد والانكماش فى كل الاتجاهات بلا أسلاك شائكة أو خطوط حمراء أو أفكار مسبقة وصولا إلى ديوان «حجر يطفو على الماء« 2008، حيث اقتحمت الرسوم والأيقونات البصرية مساحة النص الشعرى، فيتداخل المكتوب والمرسوم معا ليشكلا النص الشعرى .

فى تقديرى – هى رحلة – من أجل فتح حدود النص الشعرى عن بكرة أبيها بلا نمطية أو السعى لتأسيس نمط جديد .

■ لكن، يلاحظ غياب الاهتمام بالقضايا الكبرى فى قصائدك رغم تعدد الإكراهات والصراعات والتحولات المتسارعة؟

- يجيب ضاحكا: لكننى متهم من قبل بعض شعراء الأجيال التالية بأننى لا أزال أتمسك فى أعمالى الشعرية بما يسمونه القضايا الكبرى والتى استنفدت أراضها – حسب رأيهم - فى النص الشعرى .لأن الحداثة الحالية لم تعد تتحمل مثل هذه القضايا .

وفى رأيى، أن الشعر يتسع لكل هموم الإنسان الكبرى والصغرى معا وديوانى الأخير « هكذا تكلم الكركدن « 2012، انتهيت منه قبل ثورة 25 يناير، وفى المركز منه صوت الكركدن، هذا الكائن الخرافى الذى هرب من الزمن ولا يريد أن يستسلم لمصيره المحتوم؛ ليضطر فى النهاية إلى أن يحفر قبره بيده، متداخلا صوته مع أصوات أخرى، متألمة ومحتجة وحالمة ومعذبة وصارخة وهامسة، فى غمرة هذا العالم الذى يئن تحت وطأة وأجواء ذلك الكركدن الخرافى . كما أننى أتناول الإيماءات الصغيرة والعابرة التى تتجلى فى حياتنا اليومية ونعايشها كل يوم، فالحياة نفسها لا تقتصر على هذا أو ذاك .

■ هل أنت موجود فى قصائدك بشكل ما؟

- بالتأكيد، رؤيتى للعالم بشكل أعمق تتجسد فى قصائدى التى لا تقف عند حدود الحاضر، بل تدرك شروط المستقبل وتشكل ملامحه، والتى لا يمكن اختصارها فى مقال أو دراسة أو كتاب؛ بل هى رؤيتى السرية أيضا التى قد لا تسمح الاوضاع الاجتماعية بالبوح بها بشكل أو بآخر .فلا توجد مسافة كبرى بينى وبين أعمالى الشعريةولكل مجتمع سماته وخصائصه الاجتماعية والسياسية والحقوقية والتى – أحيانا – ما تفرض عليك نوعا من التحفظ وقد يصل الأمر إلى نوع من الموائمة التى لا تصل إلى الإنتهازية بأى معنى. أما فى الشعر فلا مواءمة أو صمت أو خطوط حمراء؛ ولهذا السبب تعرضت بعض دواوينى إلى العرقلة قبل النشر، حيث كُتب تقريران مضادان لاثنين من دواوينى بالهيئة العامة للكتاب، والديوان الأول «هكذا قلت للهاوية» مر بسلام أما الديوان الثانى «إلى النهار الماضى» فتم تعطيله لمدة عام كامل وتم تمريره كما هو، فالأعمال الشعرية لا تعرف الحلول الوسط أو إغماض العين.

■ الملاحظ أن شعراء جيل السبعينيات لا يتحدثون عن بعضهم البعض بشكل جيد.. لماذا؟

- هذا صحيح، وهذه الظاهرة موجودة فى الأجيال الإبداعية على مستوى العالم وجيل السبعينيات بدأ متماسكا ومتآزرا؛ لأن هذا التماسك كان ضرورة لمواجهة الأطراف الأخرى المضادة ويظل هذا التماسك مستمرا حتى يحقق الجيل مكانة ما فى الحياة الثقافية . فإذا ما تم الاعتراف به وفرض نفسه على الواقع الثقافى، انتفت الضرورة الموضوعية لهذا التماسك، وأصبح على كل شاعر أن يقدم تجربته الإبداعية بشكل منفرد ومستقل، ويحدث كما حدث معنا أن يصمت البعض أو يخرج البعض عن الإبداع الشعرى برمته، أو أن يكرر البعض تجربته أو ما كتبه فى الديوان الأول ويصبح الأمر مرهونا بالطاقة الإبداعية لكل شاعر، وهى ليست متكافئة لدى الجميع. ولذلك نشأ نوع من الصراع الخفى والظاهر معا لأن هذا الجيل بدأ بحوالى خمسة وعشرين شاعرا وانتى به الحال إلى خمسة شعراء أو أقل، وانفرط عقده بمرور الزمن ونضوج وتباين تجارب أبنائه .

■ رغم كثرة أسفارك وتنقلاتك ما بين القاهرة والجزائر وفرنسا واليونان..الخ، إلا أنك لم تتناول هذه الأماكن فى شعرك.. لماذا؟

- كما قلت لك، أنا لا أكتب قصائد منفردة أو مستقلة عن بعضها البعض، فحتى ديوانى «حجر يطفو على الماء» كتبت مسودته كاملة أثناء إقامتى بمرسيليا خلال استضافتى من قبل المركز الدولى للشعر . لكننى أثناء إقامتى هناك كنت مشغولا – كشاعر مصرى – بهموم وطنى الداخلية والإجتماعية التى نعرفها، ومحاولة البحث عن مخرج، ولم يكن يعنينى المكان الفرنسى من أية زاوية وربما أحتفى بالمكان الفرنسى أو الجزائرى أو اليونانى أوالبلجيكى.. إلخ فى نص قادم، لكن حتى الآن لم يحدث ذلك .

ثمة إشارة فى ديوانى «هكذا قلت للهاوية» إلى الدار البيضاء، لكنها إشارةعابرة، قد لا يلتفت القارئ إليها؛ لأنى أحمل القاهرة بداخلى أينما ارتحلت أو حللت، ولا أستسلم تماما إلى تلك المدن، رغم كل ما فيها من فتنة وإغواء.

■ لماذا ترجمت الشعر.. هل لأنك شاعر؟

- لم يخطر ببالى يوما ما أن أصبح مترجما، لكنى عكفت على بوشكين فى البداية خلال فترة السبعينيات ولم يكن هناك ترجمة عربية لأشعاره، كما أن الترجمة الروسية التى كانت لدى صعبة المنال ولا تسمح بالاستمتاع الشعرى فقررت ترجمتها لنفسى لكى أتعرف على هذا الشاعر الكبير مؤسس الحداثة الروسية ولم يكن فى نيتى بأية حال أن أقوم بنشرها فترجمت «الغجر.. وقصائد أخرى»، لكنى فوجئت بعد عام من العمل بأنه قد تجمعت لدى قصائد كثيرة لا ينقصها سوى المقدمة، فكتبت المقدمة وكتبت الإضاءات والكشافات المتعلقة ببعض الشخصيات والرموز وأصبح هناك كتاب . دون أن أسعى لذلك فى البداية.

لكننى عندما اطلعت على تجربة «ليرمنتوف»، وأدركت الخطأ الذى وقعت فيه الثقافة العربية والتى قدمته لنا باعتباره روائياً، فى حين أن كل الدراسات الروسية التى كنت أقرؤها خلال انخراطى فى ترجمة بوشكين، كانت تتعامل معه باعتباره وريثا لبوشكين فى الشعر، وبدا لى أن تصحيح هذا الخطأ أمر مهم وهذا ما دفعنى إلى ترجمة أشعار «ليرمنتوف».. وهكذا خطوة خطوة وجدت نفسى أستمتع بهؤلاء الشعراء الكبار واحداً وراء الآخر، وكل منهم فتح أمامى أفقاً جديداً قادنى إلى ترجمة الشعر.

■ ذات مرة قالوا للشاعر التركى ناظم حكمت: إن أشعارك قد ترجمت إلى لغة أخرى. فعلق قائلاً: «إنها أشعار المترجم«.. برأيك هل الترجمة كتابة جديدة للنص؟

- نعم، هى كتابة جديدة للنص، وهذا النص المنسوب إلى ناظم حكمت فى اللغة العربية مثلا، هو جهد مشترك بين الشاعر الأصلى والمترجم، فلولا المترجم ما كان لهذا النص التركى أن يظهر فى اللغة العربية، وهذا الفضل لا ينتبه إليه الكثيرون الذين يرمون المترجمين بالحجارة .

■ برأيك.. هل الشعر يفقد شيئاً من جماله أثناء الترجمة؟

- بالتأكيد يفقد الشعر شيئا ما رغم أنف المترجم نظراً لعدم تكافؤ الكلمات بين اللغات بعضها البعض، فالجناسات الصوتية لا يمكن ترجمتها بنفس الكفاءة إلى اللغة الأخرى، وكل ما يعتمد على الإيقاع أو التلاعبات اللفظية، وبالتالى مثل هذه الخسارة إجبارية مهما كانت كفاءة المترجم . لكن المترجم الكفء يمكنه أن يقلص هذه الخسارة إلى حدود الدنيا ولا يوسع منها، فكلما ضاقت الفجوة مع النص الأصلى ،اقتربت الترجمة من الأصل .وهنا تلعب قدرات المترجم الدور الثانى فى الأمر وليس الدور الأول. بالطبع هناك مترجمون يدمرون الأعمال الإبداعية أو يخربونها ولكن للأسف لا يوجد هناك قواعد تمنع هذه الفئة من التخريب.

■ بدأت رحلتك مع الترجمة مع كبار الشعراء الروس أمثال بوشكين وليرمنتوف وانتهيت إلى ترجمة أساطين الشعر الفرنسى أمثال بودلير ورامبو.. لماذا هذه النقلة بين مدرستين شرقية وغربية؟

- فيما يتعلق بالشعراء الروس فقد اخترت أهم شاعرين فى القرن التاسع عشر وأسسا الحداثة الشعرية الروسية بالإضافة إلى أهم صوت شعرى فى بدايات القرن العشرين «مايكوفسكى» وقد تشبعت بالشعرالروسى ولم يعد لدى متسع لشعراء آخرين . وفى عام 2001 توجهت إلى الجزائر مديرا لمكتب وكالة الشرق الاوسط هناك لمدة أربع سنوات وشعرت أننى بدأت ابتعد عن كتاباتى الشعرية، كما أننى لا أملك ترف إضاعة الوقت، كما أن الفرنسية ذات حضور قوى فى الجزائر، وكانت الظروف مواتية لكى أعرّج على الشعر الفرنسى . وتذكرت أن شاعراً بحجم بودلير وتأثيره فى أشعارالعالم كله لم يحظى حتى الآن بترجمة شعرية لأعماله الكاملة، وبدا لى ذلك نوعا من التقصير فى حق الثقافة العربية فقمت بشراء أعماله كلها من فرنسا وعكفت على ترجمتها طوال السنوات الأربع بالجزائر وانتهيت من الترجمة عام 206 وصدرت الترجمة عام 2010 .

وبعد انتهائى من ديوان «حجر يطفو على الماء» 2008، وجدتنى منجذبا الى ترجمة أعمال آرثر رامبو، رغمعلمى بوجود ترجمات مختلفة لأعماله واستغرقت ترجمة أعماله الكاملة خمس سنوات وصدرت العام الماضى عن هيئة الكتاب.

رغم وجود شعراء كبار فى العربية أمثال المتنبى وأحمد شوقى ونزارقبانى ومحمود درويش، إلا أنه لا يوجد شاعر تحول إلى أيقونة على مستوى الشعر العالمى أمثال بوشكين ورامبو وبودلير وشيكسبير.. لماذا؟

هذا ليس مرهونا بقدرات الشاعر الفنية فحسب، ولكنه مرتبط بمدى تأثير ثقافته وثقافة أمته فى الثقافة العالمية والإنسانية، وقوة اللغة تنبع من قوة أهلها والمتحدثين بها وتأثيراللغة العربية – للأسف – لا يرقى إلى مستوى تأثير الانجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية ولا حتى الإيطالية وهذه الوضعية تؤثر بالسلب على حضور الشاعر العربى فى السوق العالمى للشعر، ففى باريس مثلا هناك شاعرين ترجمت أعمالهما بشكل معقول وهما محمود درويش وأدونيس، أما بقية الشعراء الآخرين فغير مطروحين للقارئ العادى ولم يترجم نجيب محفوظ بشكل موسع إلا بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988 . ■ من الشاعر الذى وقفت أمام نصوصه مذهولاً، وهل يمكن أن تتراجع عن ترجمة نص ثقيل وملغّز إلى حد التعمية؟

- حدث هذا مع نصوص رامبو وأظن فى فصل الجحيم وإشراقات وأحيانا كانت ترجمة الصفحة تستغرق منى أياما لأنها تستعصى على القبض عليها ذهنيا وخياليا كخطوة أولى لصياغتها لغويا ولا بد من فك الرموز أو الشفرة داخل الذهن قبل إعادة صياغتها بالعربية؛ ولأننى كنت قد قطعت شوطاً كبيراً لا يمكن التراجع عنه فى ترجمة أعماله الأخرى فلم يكن وارداً التراجع عن استكمال الترجمة، بعد الصبر على النص وخاصة حينما أشرع فى الترجمة لا أتفق مع أحد على النشر أثناء الترجمة لكى أعطى لنفسى الوقت الكافى لمعالجة تلك الصعوبات والتأمل وإعادة النظر حتى أشعر أن النص نضج بما يسمح بنشره.