الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

رحلة «محفوظ» إلى أبواب السحر ومدائن الغرائب

«أكبر هزيمة فى حياتى هى حرمانى من متعة القراءة بعد ضعف بصري.. فالقراءة ظلت على مدار أعوام طويلة روتينا ثابتا فى حياتي».. نهم القراءة صنع منه أسطورة أدبية من الصعب تكرارها لذا كان من الطبيعى أن يكون حرمانه منها فى أواخر أيامه هزيمة زلزلت عرش أديب نوبل ..نجيب محفوظ الذى تحل الذكرى 109 على ميلاده خلال الشهر الجارى.. بداية محفوظ مع القراءة تمثلت فى عالم الروايات البوليسية كما جاء على لسانه فى كتاب «المجالس المحفوظية» لجمال الغيطانى فقال «أعطانى صديق رواية بوليسية، وكانت خارج المقرر الدراسي. منذ هذا اليوم لم أتوقف عن القراءة. منذ صغرى كنت أقرأ ما يكتبه حافظ نجيب، وكان (حرامى مثقف) وعربيدًا دَوَّخ الحكومة، وأصبح أشهر مؤلف قصص بوليسية، ومن أشهر مؤلفاته «جونسون» و«ميلتون ويب.. هذه السلاسل كانت بديلًا عن كتب الأطفال، ثم توصلت بعد ذلك إلى سلاسل أخرى. وعن طريق كتب الأهرام المترجمة بدأت دائرة قراءتى تتسع، فكنت أتابع إعلانات هذه الكتب بالجريدة، وأسارع إلى شرائها، ولم أعد بحاجة لاستعارة الكتب من صديقى العزيز يحيى صقر».



لكن شغفه بعالم الروايات البوليسية لم يتوقف عند ذكريات القراءات الأولى فى مرحلة الطفولة وإنما لازمه فى قطار حياته فذات يوم التقاه أحد أصدقائه حاملًا روايات كريستي، فسأله ساخرًا: «هل تقرأ هذا النوع من الروايات؟»، أجابه محفوظ: «لا، لقد أحضرتها لابنتي». كان محفوظ صادقًا، فقد كان يشارك ابنتيه فى قراءة هذه الروايات البوليسية التى كان مولعًا بها منذ الطفولة، بل هى التى قادته إلى عوالم الكتابة، أو ما أسماه «أبواب السحر ومدائن الغرائب».

عندما انتقل محفوظ إلى العباسية عام 1923 بدأ فى تكوين مكتبته الخاصة، وكانت البداية بكتب مصطفى لطفى المنفلوطي. كتب محفوظ رسالة إلى المنفلوطى نشرتها مجلة «الوسط» اللندنية عام 1994 

رسالة محفوظ للمنفلوطي

يكشف محفوظ فى رسالته عن ما بعد القراءة الأولى: «بفضلك بدأت أقرأ العقاد وطه حسين وسلامة موسى وآخرين، وتلاحظ كم حدد هؤلاء نوعية اختياراتى فى الكتابة. لكن الفكر يطغى فى نتاجهم على الإبداع الأدبي. ولعل قراءاتى المبكرة لكتبك هى السبب المباشر الذى وجهنى إلى دراسة الفلسفة. ومر وقت طويل نسبيًّا قبل أن أفهم أن ميلى الحقيقى إلى الكتابة الأدبية وليس إلى الفكر. وأتذكر الآن بين كتاباتك نصًّا كان بالنسبة إليَّ بمثابة الموجِّه الرئيسي، هو مقدمة أحد كتبك: العبرات أو النظرات، حيث كتبت فى المقدمة عن فن الكتابة وقيمته».

ويضيف: «قرأتُ كل ما كتبت، فهديتنى إلى الطريق على المستوى الشخصي، وجدت فيك نفسى بلا شك، وهيأتَ لى أكبر متعة عرفتها فى حياتي، وأكبر تقدير كان نصيبى منها. الغريب أننى لمَّا دخلت عالم الكتابة، لم أكن امتدادًا لرومانسيتك، بل نقيض لها. لكن الشعلة كانت تستمد منك زخمها وتأججها.

السينارست نجيب محفوظ

ما قاله للكاتب جمال الغيطانى فى أحد حواراته الصحفية المنشورة فى عدد قديم من جريدة الأخبار المصرية. قال محفوظ: «السينما دخلت حياتى من الخارج. لم أكن أعرف عنها شيئاً. نعم. كنت أحب أن أشاهد الأفلام. كل ما كنت أعرفه أن هذا الفيلم لرودلف فاللنتينو أو لمارى بيكفورد... إلخ. لم أكن أعرف أن هنالك كاتب سيناريو أو غيره. وفى سنة 1947 قال لى صديقى فؤاد نويرة: صلاح أبو سيف المخرج عايز يقابلك. وفى ذاك الصيف، قابلنا صلاح أبو سيف وهنالك قال لي: فى الواقع أنا قرأت عبث الأقدار وتبيّنت فيها أنك من الممكن أن تكون كاتب سيناريو جيّداً. أنا لديّ قصة «عنتر وعبلة». قلت: ليست لديّ فكرة عن الموضوع. فقال: معلهش، ستعرف السيناريو. وفؤاد شجعنى على قبول العرض».

وتابع: «ثم بدأ أبو سيف يطلب منى أمراً بعد آخر. مثلاً يقول لى موضوع عنتر وعبلة كذا كذا. فأكتب له عشر صفحات للقصة، وأذهب لتسليمها وأنا أظن أن مهمتى انتهت.

فيقرأها على أصحاب الشركة فيوافقون. وإذا به يقول لي: نحن لم نبدأ بعد! إن هذه فكرة الموضوع ونريد تحويلها إلى سيناريو! وقال أيضاً: تخيّل الفيلم، وأى نقطة سنبدأ بها؟ وبدأ يشرح لى الموضوع وأنا أطبّق ذلك عملياً بعد المعالجة. علّمنى تقسيم المناظر. وبعد أن قرأ نتيجة عملى أهدى لى كتباً فى فن السيناريو واشتريت أنا بعض الكتب الأخرى. وفى النهاية لقد تعلمت السيناريو على يد صلاح أبو سيف».

مدرسة مخرج الواقعية

تخرّج محفوظ من مدرسة صلاح أبو سيف السينمائية ليقدم لنا عدداً كبيراً من الأفلام السينمائية التى استعرضها الناقد سمير فريد فى كتابه «نجيب محفوظ والسينما».

يخبرنا الكتاب عن سلسلة من الأفلام التى كتب محفوظ سيناريوهاتها فى نهاية الأربعينيات وفى الخمسينياتوقد توقّف تعاون نجيب محفوظ مع صانعى الأفلام منذ عام 1959، بسبب تولّيه وظيفة رئاسة هيئة الرقابة الفنية، ثم عاد فى بداية السبعينيات.

وفى كتاب «السيناريو والسيناريست فى السينما المصرية» لسمير الجمل، جاء ذكر القصص التى كتبها محفوظ للسينما. ونقرأ: «للسينما خصيصاً كتب نجيب محفوظ قصصاً لم تنشر، ولن يقرأها أحد ولكن الملايين شاهدتها عندما تحولت إلى أفلام، ومنها فتوات الحسينية، درب المهابيل، بين السما والأرض، الناصر صلاح الدين، ثمن الحرية، دلال المصرية، الاختيار، ذات الوجهين، وكالة البلح، الخادمة (1984)، وهو الفيلم الذى أنتجته نادية الجندى وبعده قرر محفوظ مقاطعة السينما تماماً، ولكنه لم يغلق الباب أمام تحويل رواياته الأدبية إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية».

محفوظ الرقيب

نجيب محفوظ انتقل بين أكثر من وظيفة رسمية  منها رئاسة هيئة الرقابة الفنية عام 1959 وبقى يشغلها حتى نهاية الستينيات، وكان شديد التحفظ فى ممارسته هذه الوظيفة التى أتت بعد ثورة الضباط الأحرار وهدفت إلى تنقية الأفلام من الإباحية والسياسة.

وقدّم الباحث والمؤرخ مكرم سلامة، وهو أحد أهم جامعى الوثائق فى مصر والعالم العربي، ثلاثة سيناريوهات تحمل ترخيص الرقابة على الأفلام فى مصر، وتعود إلى فترة تولى محفوظ لرئاسة الرقابة، وهي: «البنات والصيف»، «صائد الرجال»، و»أبناء وعشاق»... وعلى تراخيص تلك السيناريوهات توجد ملاحظات على بعض المشاهد كتبها محفوظ بخط يده. كما أنه كان يحذف بعض المشاهد، بحجة أنها لا «تراعى الحشمة والآداب العامة».

وفى حوار أجراه معه رجاء النقاش، ونشره فى الشروق تحت عنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، يقول فيه محفوظ: « قبولى لمنصب مدير عام الرقابة، رسم على وجه الكثيرين من أصدقائى وقرّائى علامة استفهام كبيرة، فكيف أكون رجلاً يدعو للحرية وينادى بها ويتخذ من الديمقراطية شعاراً ثابتاً له، ثم يرضى أن يكون رقيباً على الفن، ويحدّ من حرّية الفنانين؟».

وأجاب: «إن الرقابة، كما فهمتها، ليست فنية، ولا تتعرَّض للفن أو قيمته، ووظيفتها، ببساطة، أن تحمى سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول فى مشاكل دينية قد تؤدّى إلى الفتنة الطائفية، ثم المحافظة على الآداب العامة وقيم المجتمع وتقاليده فى حدود المعقول، وفى ما عدا ذلك يحقّ للفنان أن يقول ما يشاء، ويعبِّر عن نفسه بالأسلوب الذى يراه مناسباً».

وتابع: «طوال الفترة التى أمضيتها بالرقابة كنت منحازاً للفنّ، رغم أن الأجواء بها تحمل روح العداء للفنّ، ولم أشعر، فى لحظة من اللحظات، أننى أخون نفسى كأديب وفنّان، بل كانت أسعد أيام حياتى الوظيفية هى تلك التى أمضيتها فى الرقابة، رغم المضايقات الكثيرة التى تعرضت لها من هؤلاء الذين لا يؤمنون بأن الرقابة يمكن أن تكون نصيراً للفن.

واتَّخذت قراراً بوقف تعاملاتى مع السينما طوال فترة رئاستى للرقابة. كانت هناك بعض التعاقدات السابقة، وتلك لم أتدخَّل فيها، لكنى رفضت أى تعاقدات جديدة إلى أن تركت عملى بالرقابة».