الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الروائى التونسى محمد اليوسفى: الطفولة هى الحمض النووى لأى كتابة

محمد على اليوسفى شاعر وروائى ومترجم وناقد تونسى وتنصهر هذه الأجناس وتتلاحم فى بوتقة واحدة، اتخذت من الواقع العربى محوراً يختلط فيه الجمالى بالمعرفى والواقعى بالتخييلى، والسردى بالشعرى وتنفتح نصوصه على قضايا الإنسان باختلاف لغته ولونه وموقفه من الحياة والوجود.. فحيثما وجد الإنسان فهناك قضية.



من أعماله الشعرية: حافة الأرض، امرأة سادسة للحواس، ليل الأجداد، ليل الأحفاد. وفى الرواية: شمس القراميد، دانتيلا، بيروت ونهر الخيانات، عتبات الجنة.

ومن ترجماته: خريف البطريرك، وحكاية بحار غريق لماركيز، وديوان « حرية مشروطة» لأوكتافيوباث، والسيرة الذاتية لكزنتزاكيس «المنشق» بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة، نظرية الدين لجورج باتاى، الثورة الفرنسية فى السينما، وغيرها. وحول أعماله وأفكاره كان حوارنا معه.. فإلى نص الحوار:

 ■ تتوزع أعمالك الإبداعية بين أجناس أدبية متنوعة، لكل جنس منها خصوصيته ومفاهيمه.. لماذا الإصرار على أن تكون شاعراً وروائياً ومترجماً؟ لماذا لم تخلص لجنس واحد؟

- عدم الإخلاص يعنى الخيانة. وليس هناك أى إصرار. الشعر قد يؤدى إلى النثر مثلما يمكن للنثر أن يسوق إلى الشعر، ولو بنسبة أقل. عندما كتبت الرواية مبكرا، لاحظ لى الكثيرون هذه الملاحظة، أى عملية الانتقال من الشعر إلى الرواية. والطريف أن عدداً لا بأس به منهم، كانوا من الشعراء، وخاضوا الكتابة الروائية. أتمنى أن ألومهم بدورى ولو متأخراً، لكننى أفضل السير فى اختياراتى. وليأتِ الآخرون لاحقا، ذلك ما أتلقاه أيضا فى مواقف سياسية من هجومات سرعان ما تهدأ عندما يكتشف المهاجمون متأخرين أنّ التجربة تغلب الحماسة. الطريف أيضا، أننى كنتُ عندما أُسأل عن سبب الانتقال إلى الرواية، أردد أننى انتبهت إلى هيمنة السرد فى قصائدي، وبالتالى فقد انتقلت إليه عبر الرواية، هذه الحجة أسمعها هذه الأيام من كثيرين تبنوها بعد انتقالهم إلى كتابة الرواية. الترجمة بدورها ليست خيانة أخرى لغيرها من أصناف الأدب لدى الشاعر أو الكاتب، بل هى إحدى قدراته إنْ كان قادراً وراغباً. ولعلها تنعت بالخيانة فى مجال النقل الذى يخلو من الدقة ولا يخلو من التحريف. لكنها من مجالات الأدب وهى مجال غذائه اللغة أواللغات، ويمكن أن نضيف البراعة فى قدح الشرارة أو قدح اللحظة بين النص المنقول منه والنص المنقول إليه، والترجمة أيضا يمكنها أنْ تلعب دور المغذى المعنوي، والمادى بالنسبة للكاتب، فهى الأجدى فى الأسواق والأكثر طلباً وريعاً. وعدٌ منى بأننى سوف أتخلى عن أى من الأصناف الثلاثة عندما يتخلى عنى.

■ كتبت عن الثورات العربية فى ديوانك الأخير «رقصة الكونجرس».. بشكل ساخر؟

- لم أكتب عن الربيع العربى، ولست من أنصاره. كتبت عن الدمار والكذب والبهتان. لأننى انتبهت إلى الدوافع قبل انتشارها لاحقا وبداية تعرف الكثيرين عليها. كتبت ساخراً، بفكاهات سوداء. هذا هو الربيع الذى كتبت عنه، وثورة الياسمين المدعاة، فى قصيدة بعنوان «ربيع هش»:

بعد خريفٍ كادتْ تتوِّجُه الأبديّةُ ملكًا، روَّعَنَا مطرٌ وثلج.

 فانتظرْنا الربيعَ منتَبِهين إلى ثعالبه.

أما الصيفُ فلا شكَّ فيه؛

 نسمعه منذ الآن يُجاورُ شُجيْرةَ ياسمينٍ، تعاتبُه:

«أنا نبتة صيفيَّة هشَّة؛

ربما جئتُ لألطّفُ نسمةَ صيف،

بلا رمزٍ ثقيلٍ على رئتي، يلحُّ عليَّ بلوْنٍ جريح».

■ هل القصيدة لديك ثورة على إعوجاج العالم؟

- لا أدّعى ذلك. رافقتُها فى البداية فرحاً بالعالم وتهليلاً له. ظلت كذلك وإنْ خالطها بعض الحزن من العالم نفسه الذى يعيش بإيقاعين، مثلما هى حياتنا فى ابتهاجاتها ومرافقتنا إلى نهايتنا، نهايتها.

■ ما الذى يسكن محمد على اليوسفى من طفولته فى مدينة باجة؟

النشأة هى بصمة أبدية. والطفولة هى الحمض النووى لأى كتابة. حلّلْ ذلك الحامض النووى تجد صورة الفنان طفلا، وصورته فى شبابه. يتقدم حاملا كل ذلك عبر البلدان والقارات. يكبر عنها قليلا أو كثيرا. لكنها تظل على كتفيه مثل حقيبة مسافر لا تغادره ولا يتخلى عنها. طفولتى فى مدينة باجة كانت قاسية لكنها كانت تتميز بفسحة من الفردوس، هى مزرعتنا التى تنادينا كلما دوّتْ أجراس العطل المدرسية. تلك طفولتى الحقيقية. أما طفولتى فى المدينة فتتطلب حصادا وذراً للسنابل فى الهواء والتخلص من الزؤان. وإحصاء أكياس الحبوب.

■ رواياتك لافتة للانتباه من جهة عناوينها ومن جهة موضوعاتها.. كيف تختار عناوين رواياتك؟

- بالنسبة لاختيار العناوين فهو اختيار وكفى. أحيانا يأتى العنوان مباشرة وأحيانا أخرى أتعب فى البحث عنه. جزء مهم من عناوينى تم نقله من قبل كتّاب آخرين سواء حرفيا أم بتعديل جزئى، من ديوانى الأول «حافة الأرض» إلى روايتى الأخيرة «عتبات الجنة».

بالنسبة لهيمنة الرواية فذلك مايقولونه حاليا، ولدى العرب تحديدا. لكن الشعر فى غير الجانب التجارى مازال مهيمنا وسيدًا. وأرى أن منابر التواصل الجماعى قد بعثت فيه أنفاسا جديدة، برزت فيه المرأة بشكل مدهش، بقطع النظر عن كثرة الرداءة. فالقمح يخالطه الزؤان. 

مع ذلك أقول لك إنّ الرواية أفضل حظا من الشعر، لكن الكتاب المترجم أفضل حظا من الاثنين.

■ المكان متورط فى أعمالك بقسوة. فهل المكان لديك قصة وجودية؟ وهل قبضت على أسراره؟ وهل استطعت استرجاع الأمكنة المفقودة؟

- نعم المكان عنصر أساسى فى أى تحول وأى انتقال. يغرينى المكان بإعادة صياغته دائماً. الأصعب والأشد إيلاماً هو محاولات العودة إلى المكان. فلا المكان يبقى هو- هو، ولا الباحث عنه يجده. هنا نقطة درامية لا تنعش الذاكرة فقط بل تنعش الكتابة الشعرية والنثرية أيضا. أنقل لك هذه الفقرة من روايتى «دانتيلا»: (هناك رائحة هى أوّل ما يصدمك فى أىّ مكان جديد. تلك الرّائحة هى التى سوف تشكّل فيك، لاحقاً، ماضى ذلك المكان. وهى الرّائحة التى سوف تبحث عنها إذا عدتَ إليه، لكنّك لن تجدها!هى الذكرى الأهمّ فى مديح المدن؛ ثم تأتى التفاصيل.. لعلّ تغيير المكان هو أفضل وسيلة لإدراك الزمن فى قسوة تجزيئه، وبالتالى فى قِصَره الذى يعنى أيضاً قِصَر العمر، عندما يُنظر إليه موزّعاً قِطَعاً فى أمكنة، لكنّ تغيير المكان لا يعنى مجرّد الارتحال عنه، من أجل عودة أخرى إليه، بل مغادرته نهائياً حتى تتمكّن من النّظر إلى الوراء، فتدرك أنّ قسماً منك ولّى، وجزءاً من حياتك مضى. من هذا المنطلق تنزع الروح باحثةً عن اندماجها من مكان سابق، إلى اعتبار ذلك المكان وما فيه، وكلّ من فيه، جزءاً من الماضي. وهو، من زاوية أخرى، فِعْل الزّمن فى الرّوح. فتستريح، وربّما تصارع بحثا عن مثل تلك الرّاحة، وتؤكّد، فى الأثناء، أن كلَّ الوجوه التى مرّت (هى التى مرّت، وليست الذات)! كانت جزءاً من الماضي، من التّاريخ الشخصى).

■ ترجمت مؤخراً قصص « الميتة العاشقة» للفرنسى تيوفيل جوتييه.. لماذا الاتجاه لترجمة الأدب الفرنسى رغم تراجعه على المستوى العالمى؟

- أولا: لأنّ اللغة التى أترجم منها هى الفرنسية. وكنت فى الماضى أترجم أعمالاً غير فرنسية، أى عبر الفرنسية كلغة وسيطة. كان ذلك قبل أن يبرز مترجمون رائعون عن اللغات الأخرى. كنت أشعر أننى أسدّ فراغاً ما، الآن لا أتجرأ على ذلك.

والأدب الفرنسي، رغم تراجعه، ليس خالياً من أعمال جيدة. وكانت جائزة نوبل قد ذهبت إلى الفرنسى باتريك موديانو سنة 2014. 

■ ما أفضل نص ترجمته حتى الآن؟

- كنت أختار ترجمة الكتب التى أحببتها وأحسست أنها سوف تدهش أصدقائى، وتقدم إضافة إلى الكتابة العربية، أغلبها مفضل لدى، فى المرتبة الأولى تأتى كتب اخترتها شخصيا ولم تُقترح عليّ من دور نشر. لكنْ هناك أيضا كتب اقتُرحت عليّ ووجدتها مدهشة. ويمكننى ذكر بعض العناوين المفضلة:

  «حرية مشروطة» ثلاثة دواوين للمكسيكى أوكتافيو باث، رواية»خريف البطريرك» لجابرييل جارسيا ماركيز، رواية «ناراياما» لليابانى شيتشيرو فوكازاوا، «البيت الكبير» رواية ألفارو سيبيدا ساموديو، «المنشق» سيرة نيكوس كازنتزاكى بقلم زوجته، «لو كان آدم سعيدًا» شذرات إميل ميشال سيوران.

■ هل التقيت شخصيات حية ترجمت أعمالها؟

- لا. أبداً. ولم أكن أترجم لمن يمكن مقابلتهم (والاستفادة منهم أو من مواقعهم، كما يفعل البعض!) فقد رفضت ترجمة عدة كتب سواء لكتاب عرب يكتبون بالفرنسية أو لكتّاب أجانب. لا حاجة لمعرفة الكاتب عادة. النصوص هى أصحابها، وهى أهم منهم أيضاً. - كيف تنظر إلى مسألة التعدد الثقافى والازدواج اللغوى فى تونس عقب بناء الدولة الوطنية فى تونس؟ وهل انشطار النخب التونسية إلى مفرنسة ومعربة أسهم فى تعثر عملية التعريب؟

هذا السؤال صار أكثر إحراجاً، الآن تحديدا. الجميع كفروا بالعرب والعربية. كانت مجرد ازدواجية لا تخلو من حروب ومهادنات، الآن تجد من يطالب بقبر اللغة العربية بعد قبر العرب. هذا التخريب الثقافى، وخلخلة الثقة بالذات، هما أيضاً من دوافع الربيع المزعوم ربيعاً للعرب.