الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

فى ذكرى ميلادها

مى زيادة.. أسطورة الحب والنبوغ

فى الوقت الذى كانت الفتيات تلاحق أحلامها من خلف المشربيات فتختلس النظر إلى الطريق واستراق السمع إلى أحاديث المارة العابرة.. كان هناك امرأة تقيم مجالس للحوار بين الأدباء تناقش قضايا الوسط الثقافى عانت الحب فأبدعت، تعلمت، فازدهرت اللغات المختلفة بريح كتاباتها النقية. أما عن محبيها فكانوا كُثرًا أُخذوا بسحر أدبها ونقائها الصادقين، ليقعوا فى مصيدة قلبها المغرم وليحكم على حبهم لها بالموت. هى مى زيادة الأديبة الآسرة صاحبة الكتابات التى لطالما غرست فينا مراحل حياتها النقية، لتتربع على عرش نساء القرن الـ19 فاتنته وملهمته والتى تحل ذكرى ميلادها فى الحادى عشر من فبراير الجارى.



ولدت مارى زيادة التى عرفت باسم «ميّ» فى مدينة الناصرة بفلسطين عام 1886 ابنةً وحيدةً لأب من لبنان وأم سورية الأصل فلسطينية المولد. تلقت الطفلة دراستها الابتدائية فى الناصرة، والثانوية فى عينطورة بلبنان. وفى العام 1907انتقلت مى مع أسرتها للإقامة فى القاهرة. وهناك، عملت بتدريس اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وتابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية. وفى الوقت ذاته، عكفت على إتقان اللغة العربية وتجويد التعبير بها. وفيما بعد، تابعت مى دراسات فى الأدب العربى والتاريخ الإسلامى والفلسفة فى جامعة القاهرة.. قالت مى عن نفسها: «ولدت فى بلد، وأبى من بلد، وأمى من بلد، وسكنى من بلد، وأشباح نفسى تنتقل من بلد إلى بلد، فلأى هذه البلدان انتمى، وعن أى هذه البلدان أدافع».

وفى القاهرة خالطت مى الكتاب والصحفيين، وأخذ نجمها يتألق كاتبة مقال اجتماعى وأدبى ونقدى، وباحثة وخطيبة.

وأسست مى ندوة أسبوعية عرفت باسم (ندوة الثلاثاء)، جمعت فيها - لعشرين عامًا - صفوة من كتاب العصر وشعرائه، كان من أبرزهم: أحمد لطفى السيد، مصطفى عبدالرازق، عباس العقاد، طه حسين، شبلى شميل، يعقوب صروف، أنطون الجميل، مصطفى صادق الرافعى، خليل مطران، إسماعيل صبرى، وأحمد شوقي. وقد أحبّ أغلب هؤلاء الأعلام مى حبًّا روحيًّا ألهم بعضهم روائع من كتاباته. أما قلب مى زيادة، فقد ظل مأخوذًا طوال حياتها بجبران خليل جبران وحده، رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة. ودامت المراسلات بينهما لعشرين عامًا: من 1911 وحتى وفاة جبران بنيويورك عام 1931.

إبداع الآنسة «مى» الأدبى

 

وقعت كتاباتها الأولى التى كتبتها بالفرنسية باسم إيزيس كوبيا، وكعادة نساء عصرها بدأت الكتابة باسم مستعار تحت عنوان «عايدة» ثم ظهر اسم «الآنسة مي» الذى رافقها، واختار لها أشهر أدباء عصرها جبران خليل جبران اسم «مريم» بعد أن أحبها وظل يكتب لها رسائل حب دون أن يلتقى بها أبدا طوال 20 عاما.

نشرت مى مقالات وأبحاثا فى كبريات الصحف والمجلات المصرية، مثل: المقطم، الأهرام، الزهور، المحروسة، الهلال، والمقتطف. أما الكتب، فقد كان باكورة إنتاجها عام 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية وأول أعمالها بالفرنسية اسمها «أزاهير حلم» صدرت عام 1911، ثم صدرت لها ثلاث روايات نقلتها إلى العربية من اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية. وفيما بعد صدر لها: «باحثة البادية» عام 1920، «كلمات وإشارات» عام 1922، «المساواة» عام 1923، «ظلمات وأشعة» عام 1923، «بين الجزر والمد» عام 1924، و«الصحائف» عام 1924. 

«الذين أحبوا مى»

وفى عام 1909 وهبها إدريس بك راغب جريدة «المحروسة» ومطبعتها، وانفتحت الحياة فى وجهها، فتولى والدها رئاسة التحرير وشرعت تنشر فيها مقالاتها الأولى. وفى لبنان تعرفت على أمين الريحانى وفى عام 1911 بدأت صلتها بجبران خليل وأخذت تراسله ويراسلها ولكن دون أن يلتقيا، وامتدت المراسلة بينهما عشرين عامًا. 

بدأت شهرتها الأدبية فى مصر تحديدًا عام 1913، فى مهرجان تكريم خليل مطران الذى دعا إليه سليم سركيس، يومها كلفت بإلقاء كلمة جبران ثم أتبعتها بكلمتها فنجحت فى الاثنتين معًا، فقام الأمير محمد على رئيس الحفلة وصافحها وهنأها. بعدها أسست صالونها الشهير وكان من رواده ولى الدين يكن، وطه حسين، وخليل مطران، وشبلى شميل، ويعقوب صروف، وأنطون الجميل، وأحمد لطفى السيد، وعباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعى، وأحمد شوقى وغيرهم. 

فقد كانت امرأة شامية متحررة متعلمة تجيد عددا من اللغات، تفتح بيتها للمثقفين لتناقشهم وتحاورهم فى صالونها الأسبوعى، فى مجتمع الرجل فيه هو رقم واحد، والمرأة فى المرتبة الثانية لذلك ينظر البعض إلى مى بوصفها نموذجا نسائيا رائدا لما يسمى بـ»النسوية» لكن أزمتها تتعلق بافتقارها إلى مفهومى «الوطن والاستقرار» حيث لم تعرف معنى للإقامة فى وطن وعاشت حياتها كامرأة عابرة. 

ورغم دورها الريادى فى حركة الأدب العربى لكونها من أوائل الداعيات لكتابة «الشعر المنثور» ومنح أدب الرسائل قيمة مركزية فى السرد الحديث، فإن أدوارها كلها تم اختصارها فى صورة المرأة التى أحبها الرجال، ربما لأن هؤلاء لم يكونوا رجالا عاديين.

ومن خارج مشاهير المجتمع الأدبى تردد أن مى أحبت فقط ولى الدين يكن الذى كان شاعرا من أصول شركسية، واكتسب شهرته من كونه شخصية معارضة للسلطان العثمانى عبدالحميد الثانى، وحين مات ارتدت ملابس الحداد.

وفى كتابه «الذين أحبوا مي.. وأوبريت جميلة»، يروى الشاعر والصحفى الشهير كامل الشناوى الكثير من قصص الحب فى حياتها، وتظل قصتاها مع العقاد وجبران خليل جبران هما الأهم. الأول الذى كان عنيدا وشخصية ذات مهابة استلهمها فى قصائده العاطفية التى كانت غزيرة خلال صداقتها معه، ويؤكد الشناوى أنه نقل للعقاد شعوره بأن اسم هند، فى قصائده قناعا لمى، كما أن رواية سارة التى كتبها العقاد لم تكن إلا مى أيضا.

هنا تفاجأ العقاد بتحليل «الشناوى» وقال: «لقد حاولت جهدى أن أكتم هذه الحقيقة عن أقرب الناس إلى وكان فى عزمى أن أجهر بها يوما بعد أن يصبح هوانا العفيف تاريخا يجب أن يسجل، وإن عندى من رسائل مى إلى، وعندها من رسائلى إليها ما يصلح كتابا يصور علاقتى بها، وهى علاقة قائمة على الحب المتبادل»، لكن هذه الرسائل لم تظهر أبدا.

ويشاع أن العقاد وحده حظى بفرصة الخروج معها للسينما بعد قبول شرطها بالذهاب إلى سينما الكنيسة، ونال العقاد من مى زيادة ما لم ينله غيره، فهى عرفت بشح قبلاتها لمن أحبوها، ولكن العقاد نال قبلة على جبينها، أو قبلة على جبينه وهناك عشرات القصائد فى ديوان العقاد كاشفة عن تعلقه بها، وكتب لها ذات يوم: «أنت معبودتى يا مي»، وكتبت له مرة فى إحدى رسائلها: 

لماذا تكتب لى (أنتى)، وليس (أنتِ) بكسر التاء؟

فأجابها: يعزّ على كسرك حتى فى اللغة.

مى ورسائل الحب

 

فيما يبدو أن مى كانت تستفز النزعة المحافظة فى العقاد بحديثها عن كثرة عشاقها وخاصة جبران خليل جبران، وقصته معه هى الأشهر والأكثر تأثيرا رغم أنهما لم يلتقيا أبدا، ومع ذلك جمع بينهما كتاب واحد «بين المد والجزر» كتبته هى ورسمه هو الحبيب، ولا تزال رسائلها معه واحدة من أجمل نصوص الحب فى الأدب المعاصر.

ومنها رسالة كتبتها فى 15 يناير عام 1924 جاء فيها: «أعرف أنك محبوبى، وإنى أخاف الحب، أقول هذا مع علمى بأن القليل من الحب كثير، الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟ لا أدري.. الحمدلله أنى أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به، لأنك لو كنت حاضرًا بالجسد لهربت خجلًا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمنًا طويلًا، فما أدعك ترانى إلا بعد أن تنسى».. وأضافت: «حتى الكتابة ألوم نفسى عليها أحيانًا، لأنى بها حرة كل هذه الحرية.. وسواء كنت مخطئة فإن قلبى يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائمًا حواليك، يحرسك ويحنو عليك.

 

مأساة مى ورحيلها

حاصرتها عشرات الشائعات التى رافقت تجارب حياتها وشملت فصلا مأساويا عاشته فى مصحة للأمراض العقلية فى بلدة العصفورية بلبنان فى أعقاب رحيل والديها ووفاة جبران عام 1938إذ حيكت ضدها مؤامرة دنيئة، بعد رغبة أحد أفراد عائلتها الاستيلاء على ميراثها وأوقعت إحدى المحاكم عليها الحجْر، وأودعت مصحة الأمراض العقلية ببيروت. وهبّ المفكر اللبنانى أمين الريحانى وشخصيات عربية كبيرة إلى إنقاذها وطالبوا مجلس النواب اللبنانى بالتدخل لحمايتها، ورفع الحجْر عنها. وبعد 300 يوم بالمصحة خرجت مى من المصحة وحاضرت فى الجامعة الأمريكية، بحضور القضاة الذين كانوا ينظرون قضية النزاع على الميراث وأبهرتهم براعتها فى الخطابة، وأطلق سراحها وعادت إلى مصر مرة أخرى وأنهت رحلتها امرأة وحيدة لم يحضر جنازتها عند وفاتها فى 19 أكتوبر عام 1941 أحد من مشاهير عصرها الذين برزت أسماؤهم فى صالونها الأدبى ورسخ لظاهرة الصالونات الأدبية أوائل القرن العشرين، ودفنت فى مقابر الموارنة فى مصر القديمة إلى جانب والديها.