الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

125 سنة سينما

صلاح أبوسيف مؤسس المدرسة الواقعية فى السينما المصرية

 إعداد - سوزى شكرى   



حين نحتفى بمرور 125 سنة على السينما المصرية نبحث عن من لهم خصوصية وبصمة وقيمة وآثر باق، لنقرأ عن تجاربهم وخبراتهم، وعن مسيرتهم الفارقة والمفصلية فى تاريخ السينما المصرية، من بينهم رائد المدرسة الواقعية فى السينما المصرية المخرج صلاح أبوسيف (10 مايو 1915- 22 يونيو 1996)، نقل الصورة السينمائية من القصور إلى الحارة الشعبية، وفرض الواقعية على الأرستقراطية، وانحاز للبسطاء وتطلع إلى المساواة الاجتماعية. فقد صدرعن باكورة اصدارات دار ريشة للنشر والتوزيع 2020، كتاب بعنوان «مذكرات صلاح أبوسيف» وثقها الكاتب الكبير عادل حمودة، وقام بكتابة المقدمة الناقد الفنى طارق الشناوى، سجل «حموده» المذكرات على شرائط كاسيت من خلال لقاءاته مع « أبوسيف» فى بداية التسعينيات.

تكشف المذكرات الأبعاد النفسية والاجتماعية والعائلية والشخصية صلاح ابوسيف وتسرد طفولته، وتسلط الضوء على المواقف الحياتية التراكمية التى ظلت راسخة فى مخزنه البصرى والعقلى، وشكلت هويته كإنسان وكمؤلف وكمخرج، وهذه التراكمات السبب الرئيسى فى اختياراته لموضوعات أفلامه مثل فيلم الاسطى حسن، شباب امرأة، بداية ونهاية، القاهرة 30، الزوجة الثانية، ريا وسكينة، الفتوة، الوسادة الخالية، هذا هو الحب، رسالة إلى امرأة، بين السماء والأرض، لا أنام، أنا حرة، المواطن مصرى، السقا مات.. وغيرها.  

الحارة المصرية مصدر إلهام

 طفولته قاسية، يتيم رغم أن والده كان على قيد الحياة، ومن أثرياء بنى سويف إلا أنه ذاق مرارة الفقر وقام خالة بتربيته، اقيم فى 3 حارة «قسوات» جمع قسوة بحى «بولاق» رغم أن «بولاق» كلمة فرنسية تعنى «البحيرة الجميلة» لكن الواقع مختلف كانت مركزا للتعذيب فى عصر المماليك وحملة نابليون الفرنسية، بولاق حى شعبى متواضع اغلب سكانه من الكادحين، ويفصل بولاق عن الزمالك كوبرى «أبوالعلا»، هذا الكوبرى ينقلك من عالم إلى عالم، ولكن ليس المسافة الحقيقة بين بولاق والزمالك مجرد كوبرى بل بينهما فوارق طبقية اجتماعية، وهذا المعنى ما قدمه بفيلم «الأسطى حسن» 1952 فريد شوقى وهدى سلطان والذى عرض قبل ثورة 23 يوليو 1952 فوضع يده على جرح الفوارق الطبقية.  بالحارة يوجد «سرجة» التى تعصر الزيتون، جذبة منظر الرجل المعلق من وسطه بحبل ويقوم بدهس بقايا الزيتون لاستخراج الزيت ، وأيضا البغل الذى يدير الطاحونة المغض العين، انطبع بذكراته هذا المشهد واستعان بها فى فيلم « شباب امرأة « 1956، وفيلم «بداية ونهاية» 1960 تم تصويره بالحارة، أن الحارة عالمه الخاص ومخزن تجاربه ومصدر إلهام قصص أفلامه.

 متهم بالسرقة 

 داخل حارة «قسوات» وفى أربعينيات وخمسينيات القرن كان يسكن أحد أقاربه الأثرياء أو الفرع الغنى من عائلته، يعيشون فى بيت كبير أشبه بالقصر، ولديهم اطفال فى مثل عمره، والأطفال يملكون أنواعا من اللعب يصعب حصرها، وقبل أن يعود إلى منزله أخذ معه لعبة من الألعاب، وحين اكتشف أقاربه اتهموه بالسرقة، وتعرض للضرب القاسى من والدته وخاله، فقال لهم: «أنا لم أقصد السرقة انا أخذت جزءا مما لا تحتاجون إليه، فالذى يستحق العقاب انتم وليس أنا».  وتسأل ببراءه الأطفال: «لماذا لا يعطى الاغنياء ما يزيد عن حاجتهم للفقراء»، من هذا الموقف ادراك قيمة الفوارق الطبقية وشعر بقسوة الصراع بين احلام البسطاء وغطرسة الأغنياء، فانحاز إلى الفقراء باعتباره منهم، ومن يتبع مسيرة أفلامة سيجد أنها تتشابه إلى حد كبير وربما تتطابق مع سيرته الذاتية وممزوجة ببسياق درامى تراجيدى.

 اكتشف السينما من صالات الترسو 

عشق السينما منذ طفولته واعتاد التزويغ من المدرسة، واضاع مصروفه كطفل على حضور الأفلام فمن صفوف «الترسو» شاهد الأفلام الصامتة وجذب انتباهه الصور المتلاحقة على الشاشة مثل فيلم «شارلى شابلن»، ثم عروض الأفلام التى يرافقها «المفهماتى» أو الشخص الذى يقف بجوار الشاشة يحكى حوار الفيلم، فالجمهور لا يعرف قراءة الحوار المكتوب بالشاشة، ومنع عنه المصروف بسبب السينما، إلا أن السينما جعلته يحتمل مرارة واقعه، وبدأ التفكير بجدية انها سوف تكون مستقبله، اهتم اثناء دراسته بدروس اللغة الانجليزية والفرنسية من أجل ترجمة مقالات عن السينما من المجلات الأجنبية التى كان يشتريها قديمة من على الأرصفة، وتغير مفاهيمة عن السينما والتمثيل والإخراج، لم يكمل دراسته الثانوية بسبب صعوبة التكاليف فنقل إلى مدرسة التجارة المتوسطة، ومن الطرائف انه كان يحفظ الشعر الفرنسى باستخدام الأغانى والموسيقى، فحفظ قصيدة على غنوة لـ«إسماعيل يس» اسمها «مين زيى فى نباهتى» اغضبت المدرس وطرد من المدرسة. 

المخرج الموظف فى شركة «مصر للغزل والنسيج»

تخرج في مدرسة التجارة عام 1932 وعين سكرتيرا اداريا بشركة «مصر للغزل والنسيج» بالمحلة الكبرى وحضرت والدته للإقامة معه فى المحلة، استمر فى متابعة السينما بقراءة الكتب عن الفلسفة والديكور والرسم وسير العظماء والمونتاج، وكون فريق تمثيل بالمصنع وكتب اسمه لأول مرة على افيشات عروض المصنع (هذا العرض تأليف وتلحين واخراج صلاح أبوسيف)، ومن حماس زملائه بالمصنع قرروا مساعدته للسفر إلى أوروبا لدراسة السينما، ودبروا له مصاريف السفر، ثم حدثت مفاجأة لقائه الاول مع المخرج نيازى مصطفى عام 1939.

 طلعت حرب مؤسس «استديو مصر»

ذهب المخرج نيازى مصطفى للمحلة لتصوير فيلم عن شركات «بنك مصر» الذى اسسها طلعت حرب، ومن بينهما شركة مصر للتمثيل والسينما التى عرفت باسم «استديومصر»، اول استديو سينمائى والمدرسة الاولى للفيلم المصرى، وأول محاولة مصرية جادة تساهم فى نهضة السينما، كان أول إنتاج لهم فيلم «وداد» بطولة ام كلثوم وحوار أحمد رامى وإخراج فريتز كرامب (مخرج المانى)، اندهش المخرج نيازى مصطفى بمعلومات «أبوسف» عن السينما والتمثيل، وتوطيدت العلاقة بينهما وساهم فى نقله إلى العمل باستديو مصر وتعيينه بقسم المونتاج، ومن هنا بدء مسيرته العملية.

 استمر فى عمله يتابع الأفلام ويسجل ملاحظاته بخصوص المونتاج، إلا أن مشكلة استديو مصر تكمن فى ادارته الأجنبية اغلبهم من الألمان التابعين للنازية، ودارت صراعات مع المخرج كمال سليم حول سيناريو بعنوان «الحارة» تدور أحداثه بالحارة، وهذا لم يحدث من قبل رؤية الحارة فى السينما اعتادوا رؤية القصور والباشوات، واختار كمال سليم صلاح أبوسيف مساعدا له، وتغير اسم الفيلم إلى «العزيمة» وحقق ايرادات عالية، اعاد التوزان المالى لاستديو مصر ووضع أول خطوات الواقعية. 

دخل السينما من باب الصحافة

كان يتمنى اصدار كتاب يضم مقالات النقاد الاجانب والمصريين الذين كتبوا عن أفلامه، هو أول مخرج دخل تاريخ السينما العالمية، ومن أرواق ارشيفه مقالات كتبها عن أفلام لم يصنعها حيث عمل لفترة كناقد فنى فى مجلة «الراديو والبعكوكة»، ونشرت له مقالات فى مجلة روز اليوسف، والصباح، وأبو الهول، واقترب بصداقات الكتابة منهم الشاعر مأمون الشناوى، فدخل عالم السينما من باب الصحافة.  ومن بين ارائه: أن السينما عندما تفهم ما تريد يمكن أن تحدث خلخلة فى ضمير المشاهد وتعيد ترتيبات حياته إلى الافضل، الموهبة ليس ورقة نصيب نسحبها فتكسب الفرصة والثروة والشهرة، الموهبة صبر ومعاناة وترقب وآلم واصرار وعلم وخبرة من سابقونا، ومن اقواله: النجاح سلم وليس اسانسير - الغطرسة سلوك الصغار - ليس مهما أن تبدأ المهم أن تستمر – ما يأتى بسهولة يذهب بسهولة، وغيرها من النصائح.

البطل الحقيقى لفيلم «شباب امرأة»

حصل على اجازة للسفر وسافر ومعه شنطة كبيرة وسافر باريس، صدم من فتيات شوارع باريس التى رآها كشاب لأول مرة، ووصل إلى الفندق وانفجر بالبكاء راغبا فى العودة إلى مصر، ومع الوقت تجرأ أكثر فى الحوار مع الفتيات، وعلى حد قوله: «باريس لم تعلمنى السينما فقط انما الحياة أيضا». فكانت تجربة باريس بمثابة زلزلة فى شخصيته تلك الشاب الساذج القادم من مجتمع شرقى متزمت عاش الفقر والحرمان والكبت. فأسقط هذا المعنى فى أفلامه فيلم «الأسطى حسن» الشاب الفقير الذى يريد الانتقال من حى بولاق إلى الزمالك، محجوب عبد الدايم فى فيلم «القاهرة 30» الذى اراد الانتقال من الفقر إلى الراحة مهما كان التنازل، وحسنين فى فيلم «بداية ونهاية». اما فيلم «شباب امرأة» فيقول عنه: «أنها تجربة حية عايشتها بباريس مع امرأة تجاوزت سن الشباب، فأنا البطل الحقيقى لفيلم شباب امرأة». الشاب «إمام» القروى القادم من القرية إلى المدينة يشبهنى مع الفارق أن بباريس كانت البطلة تملك لوكانده، وفى الفيلم شفاعات تملك «سرجة».  

«شباب امرأة» بين عمر الشريف وشكرى سرحان 

بحسب قانون نجوم الشباك شكرى سرحان ليس نجم شباك وفى ذلك الوقت كانت نجومية تحية كاريوكا منخفضة، إلا انه مقتنع انهما الأنسب لهذه الادوار وخصوصا شكرى سرحان يناسبه الفلاح الساذج، عرض المنتج أن يكون البطل «عمر الشريف»، فرفضه لأن عمر الشريف لا يبدو «قفل»، فأضيف إلى vالفيلم «شادية» حيث كانت نجمة شباك من أجل ارضاء المنتج رمسيس نجيب، كما دخل «شادى عبدالسلام» كمساعد لشئون الإكسسوار والديكور، وحصل صلاح أبوسيف على جائزة احسن مخرج عن الفيلم، وتحية كاريوكا احسن ممثلة، وشكرى سرحان احسن ممثل.

 نجيب محفوظ كاتب سيناريو لأول مرة

لم يكن نجيب محفوظ فى تلك الفترة مشهورا فتعرف عليه صلاح أبوسيف وأقنعه «أبو سيف» يكتب السيناريو، رغم تردد محفوظ فى البداية إلا انه خاض التجربة فكتب سيناريو فيلم» لك يوم ياظالم «،» الوحش «، «ريا وسكينة»، كما كتب محفوظ سيناريو فيلم « شباب امرأة « ولم يكتب اسم عليه.

 اما فيلم « بين السماء والارض» فكتب محفوظ قصته للسينما مباشرة فكان اول من كتب القصة السينمائية فى مصر.، وارتبط محفوظ بالسينما وتحولت اعماله إلى أفلام وتراجع اهتمامة بكتابة السيناريو وتفرغ للادب، وقد اخرج محفوظ وصلاح أبوسيف قضايا الحارة والتعبير عنهم وأبراز العوالم الخفية ووضعوا الواقعية فى المقدمة. وجعل الادب فى خدمة السينما.

أول فيلم مصرى يصور داخل حمام شعبى

فيلم «لك يوم يا ظالم» التى يحكى قصة زوجة تتفق مع صديق لها على قتل زوجها المريض من اجل الميراث وهى قصة مستوحاة من رواية « تيريزراكا «للكاتب «ايميل زولا»، تم تغير الأحداث وموقع الجريمة اصبح حمام شعبى ولاول مرة يتم التصوير فيه، واصبح مسرحا لصراع النهاية أن يلقى الشرير جزاءه فى المغطس، شارك فى كتابة السيناريو نجيب محفوظ والحوار السيد بدير، رفض استديو مصر الفيلم إلا أن صلاح أبوسيف تحدى وصرف على انتاج الفيلم ومنحه رمسيس نجيب مدير «استديو نحاس» سلفة 16 الف جنيه، وتنازل الفنانين عن جزء من اجرهم، ورغم نجاح الفيلم إلا أن الرقابة ارسلت تنبيها على انه يجب اظهار الحمام الشعبى فى صورة مشرفة، وعرض هذا الفيلم فى مهرجان برلين 1953 وادهش الجميع انه فيلم مصرى قلبا وقالبا.

 الرموز فى فيلم «القاهرة 30»

استخدم « ابوسيف» لغة الرموز فى أفلامه باعتبارها لغة عالمية ينفعل ويتفاعل معها المشاهد، فى مشهد زواج محجوب عبد الدايم «حمدى أحمد «من إحسان» سعاد حسنى « يجلس محجوب تحت قرون حيوان معلق على الحائط، تعبيرا عن قبول التنازل قبل الزواج من عشقه الباشا احمد مظهر من اجل المال والمنصب، وهذا المشهد فى بداية عرض الفيلم اضحك المشاهد، إلا انه قدم شخصية محجوب كنموذج مرفوض وضد القيم المجتمعية والاخلاقية.

مواقف طريفة... أم كلثوم معجبة بصلاح أبوسيف 

فى استديو مصر واثناء عمل مونتاج فيلم من بطولة المطربة أم كلثوم، كانت تتابع كل يوم عمليات المونتاج وتسأل عنه وعن اخلاقه ومرتبه، وتحضر له طعام من بيتها، فتصور انها تهتم به بشكل شخصى، وربما تحبه، إلا أنه اكتشف أنها تريده عريسًا لفتاة قربية لها، وأن الاهتمام الزائد كان بالمونتاج وجزء من وسواس أم كلثوم عند القيام بأى عمل فنى، وحين عرفت أنه مرتبط تراجعت وتوقفت عن الاهتمام. 

صلاح أبوسيف لم يتعرف على سكينة

درس صلاح أبوسيف عالم الجريمة من خلال ثلاثة مصادر الصحف، وتحقيقات الشرطة، وشهود العيان فى أماكن الاحداث، وقام بتحضير ملف كامل عن حياة ريا وسكنية وجمع تفاصيل عنهم، فى أوائل الخمسينيات وكان العرض الأول لفيلم «ريا وسكينة» بالإسكندرية، فذهب صلاح أبوسيف ينتظر الممثلين فى محطة القطار، فوجد امرأة شيك وانيقة وجميلة وعطرها فواح تقترب منه، ولم يستطع التعرف عليها ففوجى أنها «سكينة» أو الممثلة « زوزو حمدى الحكيم» والذى اعتاد أن يراها بجلابية كستور ومبهدلة ومقززة حسب دورها بالفيلم، ولم يراها من قبل بهذه الأناقة، أما نجمة إبراهيم الممثلة القديرة التى تخرج الشر بنظرات عينها كان أبوسيف يعرفها عن قرب.