الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

واحة الإبداع ..

قطار الثامنة مساء

الأعمال للفنان: على عاشور



يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة أو خواطر «على ألا تتعدى 550 كلمة» مرفقا بها صورة شخصية على الإيميل التالى:

[email protected]

 

قطار الثامنة مساء

 

قصة قصيرة

 

كتبها - أشرف غازى

 

كنت فى عجلة من أمرى، سارعت بالحجز فى قطار الثامنة مساءً المُكيف المتجه نحو الإسكندرية، وقبيل استقلالى للقطار بقليل استوقفنى عنوان رواية كانت مثار جدل وتخبط، هناك من يراها قمة فى السرد والحبكة، وهناك من يراها جريئة تتحدث فى أمر شائك وما كان يجب الخوض فى أمر كهذا، وبخاصة أن من كتبها أنثى، ولم أكن أنا من هؤلاء الذين يبدون رأيهم عن طريق السمع، فما ينال إعجاب الآخرين ربما لا يروق لي، وما يستدعى سخطهم ربما نال إعجابي.

 كان على موعد انطلاق القطار ساعة مما دفعنى لشراء الرواية ولم تمض الساعة إلا وكنت قد التهمت صفحاتها التهاما.

راح النوم يداعب جفونى إلا أننى استفقت على صوت ارتطام حقيبة أنثوية فى المقعد المقابل، وتَبع هذا الارتطام رائحة عطر باريسى يسلب العقول هُداها، نظرت فإذ بامرأة فى مطلع العقد الثالت، غضةٌ.. بضة.. ممشوقة القوام، لها خصر منحوت، وفى عُرف النساء إذا ما كان الخصر واضح جلّى فكل ما عداه يبدو جميلا.. أما الوجه فقد بدا كل شيء به يُكمل الآخر، العينان والأنف والوجنتان والشفتان المتقدتان، وكأن كل ما سبق حبات عقد فريد لا تزدان حبة منه إلا بجوار الأخرى. سعدت كثيرا لرؤيتها وانتابنى تفاؤل مُباغت بأن الرفقة لن تكون أسعد حالا مما أرى. 

ما أن اعتدلت فى جلستها والتقطت أنفاسها حتى تهللت أساريرها لرؤية الرواية بيدي، ولا أدرى إن كانت فرحتها لرؤية قارئ أم لرؤية الرواية نفسها بين يدي؟ ولم يقف الأمر عند تهلل الأسارير فحسب..بل باغتتنى متسائلة:

- هل قرأتها؟

= نعم..أتودين استعارتها؟

- لا..لقد قرأتها مرارا..لكنى أردت أن أعرف رأيك فيها؟

وجدت ضالتى فى سؤالها، فلقد انتهيت منها للتو وكنت بحاجة لصديق مثقف وليس مُدعى لكى أحللها معه وأظهر له نقاط الضعف والقوة... تراجعت بظهرى للوراء ممسكا الرواية بين يدى وقلت لها:

- الاسم فى البداية صادم لمن لم يقرأ الرواية «اغتصاب عن رضا» للكاتبة شيرين خالد إذ إن الكاتبة تجلب لنفسها السخط من هؤلاء الذين لا يقرؤون سوى العنوان فقط، وربما أنها قد اختارت اسما يتماشى مع العصر،ولكى تضمن أن يكون العنوان لافتا ومثار جدل،والجدل فى حد ذاته يزيد من مبيعات الرواية ونجد لها طبعة ثانية وثالثة وإن كان المحتوى دون المستوى، هناك عبارات حب ملتهبة ربما لم تعد تناسب الكثير.. ومن وجهة نظرى أن الإفراط والإسهاب فى كلمات العشق والهوى يفقدها بريقها.. اللغة عادية جدا... لم أر بها ما يجعلها ترتكن إلى كونها كاتبة ألمعية بلغ صيتها الآفاق.. 

الحبكة مُفككة والفكرة من الأساس لا تتفق مع الواقع وكل ما تبتغيه الكاتبة أن يقترن اسمها بعنوان جرئ يضمن لها النجاح بسرعة الصاروخ.

حينما انتهيت من كلماتى وجدت ملامحها البريئة الهادئة تتحول وكأنها قد استعارت وجه دراكولا حينما يحظى بفريسته، ولم يُمهلها القدر لترد فقد مر بائع الشاى فاصطدم بقدمها الخارجة قليلا عن المقعد ليسقط بعضا منه على ملابسها لتصرخ فيه ناهرة، وتُطلق فى وجهه وابلا من السباب واللعنات،تتطور المشاحنة ويتصاعد وتيرتها، يتدخل أمن القطار لتطالبه بالمثول أمام شرطة محطة طنطا وتصر على ذلك، يقف القطار فى محطة طنطا تنزل السيدة برفقة شرطة القطار ومعهما بائع الشاى وأنا إنتدبونى للشهادة،أصرت السيدة على تحرير محضر بالواقعة وطلب منا مأمور محطة طنطا إخراج إثبات الشخصية لتصيبنى الصدمة بالصمت المُطبق فقد كانت الجالسة مقابلتى هى نفسها الروائية شيرين خالد..وبعد أن انتهى الأمر وجدتها تنظر لى بغضب وحنق وهى تتمتم:أمثالك من القُرّاء لا يحق لهم القراءة والتأمل فى غياهب العمق.

فهالنى ما سمعت منها فقلت لها القاضية الفاصلة:وأمثالك من الكُتاب هم سبب انتكاسة الأدب. الغريب فى الأمر أنها تركت عربة القطار ولم تُكمل الرحلة برفقتي.. هل كان عليّ الكذب والمداهنة حتى أكسب ودها.