الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

تغنى بها ولها

درويش» والمرأة.. مشروع قصيدة حب لم تكتمل»

«صغير هو القلب قلبى، كبير هو الحب حبي، يسافر فى الريح، يهبط، يفرط رمانة، ثم يسقط فى تيه عينين لوزيتين، ويصعد فى الفجر غمازتين، وينسى طريق الرجوع إلى بيته واسمه، صغير هو القلب قلبي، كبير هو الحب».. هكذا كانت حياته قصة حب للأم، للحبيبة، للأرض ولكنها قصة لم تكلل بنهاية سعيدة وإنما ذيلتها خيبة الأمل والهزيمة التى صنعت منه شاعراً فعلى حد قوله  «لم تنتصر قبيلة بلا شاعر، ولم ينتصر شاعر وإلا مهزوما بالح» ولكن خانه التقدير فعندما تكون الحبيبة عدواً للقبيلة يتلقى الشاعر الهزيمة مرتين ويصبح محمود درويش صاحب أغرب قصة حب عاشها شاعر.. وإذ تحل ذكرى ميلاد درويش فى الثالث عش من مارس الجارى وهو شهر المرأة فوجب علينا عرض نصيبها من قصائد درويش وحياته.



قصة الحب الغامضة

كشف الفيلم الوثائقى «سجل أنا عربي» عن قصة الفتاة «ريتا» التى أحبها الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش فى شبابه وتغنى باسمها فى «ريتا والبندقية»، و»شتاء ريتا الطويل»، وذلك بعد أن رفض الكشف عن هويتها الحقيقية، ومعترفًا أن تلك المرأة كانت قصة حقيقية محفورة عميقًا فى جسده.

يعرض الفيلم لأول مرة عددًا من خطابات الحب التى كتبها درويش إلى حبيبته باللغة العبرية التى كان يجيدها، ومن بينها خطاب يقول لها فيه: «أردت أن أسافر إليك فى القدس حتى أطمئن وأهدئ من روعك، وتوجهت بطلب إلى الحاكم العسكرى بعد ظهر يوم الأربعاء لكى أحصل على تصريح لدخول القدس، لكن طلبى رُفض».

ثم تطرق فى رسالته إلى الجانب الرومانسى بقوله: «لطالما حلمت بأن أشرب معك الشاى فى المساء، أى أن نتشارك السعادة والغبطة.

 صدقينى يا عزيزتى إن ذلك يجيش عواطفى حتى لو كنت بعيدة عنى، لا لأن حبى لك أقل من حبك لي، ولكن لأننى أحبك أكثر.

حبيبتى تامار، أؤكد لك مرة أخرى أننى معك، وأنك لست وحدك، ربما ستعانين بسببي، ولكننى أقف إلى جوارك.. شكرًا لك يا تامار؛ لأنك جعلت لحياتى طعمًا.. إلى اللقاء.. حبيبك محمود».

تقول مخرجة الفيلم، ابتسام مراعنة، إنها سعت للتعرف على شخصية ريتا الحقيقية إلى أن التقت بها فى برلين حيث تعيش الآن، واسمها الحقيقى هو تامار، المذكور بالخطاب، وكانت فتاة يهودية إسرائيلية من أب بولندى وأم روسية عملت راقصة، وقد التقى بها درويش لأول مرة وهى فى السادسة عشر من عمرها، بعد انتهائها من أداء رقصتها خلال حفل للحزب الشيوعى الإسرائيلى الذى كان درويش أحد أعضائه قبل استقالته.

وفى مقابلة أجراها درويش عام 1995 مع الشاعر اللبنانى عباس بيضون قال درويش إن نكسة يونيو 1967 أنهت قصة الحب بينهما «دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي، وأيقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية من قبل.. تصور أن صديقتك جندية تعتقل بنات شعبك فى نابلس مثلاً، أو حتى فى القدس.. ذلك لن يثقل فقط على القلب.. ولكن على الوعى أيضًا».

بينما يزعم الفيلم أن تامار هى من فارقت درويش بعد أن التحقت بالخدمة فى سلاح البحرية الإسرائيلى رغم توسله لها بالبقاء.

المرأة فى قصائد درويش

استطاعت المرأة أن تحتل مساحة لا بأس بها فى شعر محمود درويش وربما يرجع السبب وراء ذلك إلى احساسه المرهف ولدور المرأة القوى فى المجتمع وكان شاعرنا يرى المرأة فى كتاباته الأم والأخت والإبنة والصديقة والزوجة والمعشوقة فعلاقته بها مليئة بالمشاعر والحب والأحاسيس الجميلة المنعشة ومن الملاحظ أن محمود درويش عندما يتحدث عن المرأة يكون بمنتهى الواقعية. شاهد أيضا: قصة فيها زمان ومكان وشخصيات وأحداث وعلى الرغم من ذلك كله أكد الشاعر توفيق زياد أن شاعرنا لا يعرف الذل ولا الدموع فى الحب حيث أنه كان قوى جداً قليل الشكوى فهو ليس من العاشقين المرضى الذين يتألمون من الحب. 

حلل الباحث إسماعيل السعافين فى كتابه “المرأة فى قلب محمود درويش: جماليات نصوص الحب”، الصادر حديثا عن دار فضاءات فى عمّان، ثيمة الحب فى قصائد محمود درويش وكتاباته النثرية، عبر ثلاثة محاور لكل مرحلة خصائصها وظروفها وملامحها: الأولى مرحلة الشباب وجماليات قصائد “الحبّ تحت الاحتلال”، الثانية مرحلة الأوج وجماليات قصائد “الحب فى المنفى”، والثالثة مرحلة التأمل: جماليات قصائد “الحب حتى الموت”.

يرى السعافين فى تقديمه للكتاب أن محمود درويش واحد من أرقّ شعراء العاطفة وأغناهم فى تاريخ الشعر العربى الحديث، فهو -بلا منازع- شاعر القضية الفلسطينية الأول، لكنه من جهة أخرى شاعر المرأة الأول، فقد أفرد لها مساحة كبيرة فى قلبه وأدبه.

تبدأ المرحلة الأولى منذ انطلاقة درويش الشعرية سنة 1960 حتى خروجه من فلسطين سنة 1970، وفيها اشتعل قلبه بالحماسة والحب، وتداخلت قصائده الأولى، فكتب الشعر فى المرأة والوطن قائلا “أكتب عن الحب الذى ولد فى وسط قضية فيحمل ملامحها وهمومها ويصبح جزءا منها”. إن حبه للمرأة فى هذه المرحلة ليس حبا مترفا، بل متأثرا بمعاناة أهله وشعبه من الاحتلال والقهر والمطاردة، لذا يدعو حبيبته إلى مقاومة الظلم يدا بيد. هو وحبيبته والوطن: الثلاثة متّحدون فى روحه وجميعهم منكوبون بالاحتلال.

تداخلت مستويات المشاعر وغاصت الصورة فالتبست الحبيبة بالوطن. ففى قصيدة واحدة نراه يتحدث عن حبيبته، وفى مقطع آخر منها نجد هذه الحبيبة قد تحوّلت إلى وطن، ثم تتداخل فتتحول إلى أم أو أخت، وهكذا فالحب والوطن والحرية والطبيعة كلها معانٍ تختلط بعضها ببعض، إنها ذات ملامح متشابهة، فالحدود بينها تلغى كليا. ويظهر فى شعره نوع من وحدة الوجود، وذوبان الكل فى واحد:

 “رأيتك فى جبال الشوك/ راعية بلا أغنام/ مطارَدة فى الأطلال/ رأيتك فى مقاهى الليل خادمة/ رأيتك فى خوابى الماء والقمح محطّمة،/ رأيتك فى شعاع الدمع والجرحِ/ رأيتك عند باب الكهف عند النار/ معلِّقةً على حبلِ غسيلٍ ثيابَ أيتامكِ”. ويتخذ من الحبيبة رمزا للوطن، ويتصدى للغاصب المحتل الذى يحاول أن يطمس ملامح الوطن وما عليه، كما فى قصيدتيه “عيونك شوكة فى القلب وأعبدها” و”أحن إلى خبز أمي”.

يقسم الباحث المرحلة الثانية إلى قسمين:

أ- مرحلة بيروت، وتبدأ منذ التحاقه بصفوف الثورة الفلسطينية وحتى خروجه من بيروت أى من 1972-1982.

ب ـ مرحلة باريس، وتبدأ بعد تشتت فصائل المقاومة الفلسطينية حتى عودة بعضها فى ظل اتفاق أوسلو، أى من 1982-1994، وخلالها تنقّل درويش بين عواصم العالم، لكن باريس كانت هى المكان المحبب إلى نفسه.

يجد الباحث أن مرحلتى بيروت وباريس هما أهم مراحل حياة درويش الأدبية، فقد انتشر صيته حتى صارت طبعات دواوينه تنفد من الأسواق فى أيام قليلة. واتسعت تجربته وتعمقت ثقافته فى العمل الوطنى فى بيروت بانخراطه فى الخنادق الأمامية لصفوف المقاومة، فكان حضور موضوع المرأة طفيفا، ذلك أن الظرفين الموضوعى والذاتى منحا الأولوية القصوى لشعر المقاومة. ورغم ذلك فإن المرأة ظلت امتدادا رمزيا للأرض أو مكملا له، فالحنين للأم، أو الحبيبة أو الأخت يتداخل مع الحنين إلى الأرض المحتلة فى قصائده الغنائية التى نضجت فنيّا إثر تطوّر وعيه وانفتاحه على الثقافات الإنسانية المعاصرة والقديمة.

ويقول السعافين: المرحلة الثالثة بأنها مرحلة التأمل والحكمة والجمال، وتبدأ منذ عودة الشاعر للعيش فى رام الله سنة 1994 إلى تاريخ وفاته فى 10/ 08/ 2008. وهى مرحلة العودة واللاعودة، فقد عاد إلى وطنه، لكنه لم يعد إلى موطن الطفولة، والاحتلال لا يزال يدنّس شوارع المدينة وحديقة بيته، بل يدخل إلى غرفة نومه ومكتبه ويعبث بكل شيء ويدمّره.

ويعطى درويش موضوع الحب أهمية خاصة فى هذه المرحلة، فلا يربطه بالحال السياسية التى يعيشها، وإنما بجوّه النفسى الخاص. وقد أصدر خلالها ديوان “سرير الغربية” حيث احتلت “المرأة” لغته بعد أن كانت قبل ذلك حاضرة، وبقوة، لكنها متصلة بالصراع، ومنخرطة معه فى المقاومة.

آخر دواوينه

قدم الدكتور جابر عصفور قراءة فى دواوين الشاعر الراحل محمود درويش أكد فيها أن المرأة، والقرين، والظل، والآخر، والشبح كلها تقنيات يتكئ عليها محمود درويش فى رؤياه التى تضمنتها ديوانه المنشور فى مجلة العربى.

وقال جابر عصفور: أولى التقنيات التى لفتت انتباهى هى ما يرتبط برمزية المرأة وهى رمزية قديمة تضرب جذورها فى الميراث الإنسانى الأسطورى والفولكلورى والإبداعى على السواء وهو ميراث ظل مصدر إلهام فى بعض جوانبه لإبداعات حديثة من مثل ما كتبته لويس كارول عن (اليس عبر المرآة) أو ما ظل مصدر إلهام الكتاب الذين استغلوا العلاقة الرمزية بين المرأة والأشياخ أو المرايا السحرية التى نعبر منها إلى عوالم أخرى.

وأكد أن الشاعر محمود درويش يمضى فى رؤياه الجديدة من حيث انتهى السابقون ماضياً فى مسار خاص لا ينفل عن ثنائية الوعى الذى ينعكس على نفسه سواء فى الفعل المعرفى للتأمل أو الكشف أو الرؤيا.

يقول محمود درويش: وكلما شاهدت مرأة على قمر/ رأيت الحب شيطانا/ يحدق في:/ أنا مازلت موجودا/ ولكن لن تعود كما تركتك/ لن تعود ولن أعود/ فيكمل الايقاع دورته/ ويشرق بي.

يقول د. جابر عصفور: الأسطر مراوغة فى تجاوبات دوالها مع دلالات المرأة فى الأساطير والخرافات الشعبية، خصوصاً فى اقتران المرأة بالقمر بسبب طبيعتها الأنثوية.