الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

رائعة عميد الأدب العربى

«على هامش السيرة».. قصص حفظها الرواة وأغفلها التاريخ

«أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب لأنهم محدثون يكبرون العقل ولا يثقون إلا به ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التى لا يسيغها العقل ولا يرضاها. ويجاهدون فى صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول. وأحب أن يعلم هؤلاء الناس أن العقل ليس كل شىء وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن لها العقل ولم يرضها المنطق ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمى فإن لها فى قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها ما يحبب لهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها ويدفعهم إلى ان يلتسموا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة».. لك أن تتخيل أن بهذه الكلمات استهل عميد الأدب العربى روايته الخالدة «على هامش السيرة» وكأنه يقرأ ببصيرة مستنيرة فى كتاب مفتوح يطل على عقول الكثير من الناس مدعى الحداثة بأن يتركوا متنفسًا للشعب أن يختار وجهته وفقًا لفطرته.



مصادر الهوامش

اعتمد طه حسين فيما قدمه على قراءاته فى سيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ ابن جرير الطبرى، وغيرها من المصادر التى يمكن أن تعينه على ذلك.. كما ورد على لسانه.  وربما كان اختياره على «هامش السيرة» عنوانًا لهذا العمل دالًا على كيفية تأليفه له، فهو لا يريد أن يتعمق فى السيرة وأحداثها، كما لا يريد أن يفصل فيها، لأنه كما يقول لا يريد أن يقدم علمًا ولا تاريخًا، وإنما هى صورة انطبعت فى نفسه فأراد أن يقدمها للقارئ كما جاء فى وصفه قائلًا «هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين لأنى لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ وإنما هى صورة عرضت لى أثناء قراءتى للسيرة فأثبتها مسرعًا ثم لم أر بنشرها بأسًا ولعلى رأيت فى نشرها شيئًا من الخير وأحب أن يعلم الناس أيضًا أنى وسعت على نفسى فى القصص، ومنحتها من الحرية فى رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين، فإنى لم أبح لنفسى فى ذلك حرية ولا سعة، وإنما التزمت ما ألتزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية، وعلماء الدين. ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا فى أصول هذا الكتاب القديم فى جوهره وأصله، الجديد فى صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التى أخذ منها. 

الجزء الأول

ويقع الكتاب فى ثلاثة أجزاء، يتناول فى الجزء الأول القصص التى دارت حول حفر بئر زمزم وحول عبد المطلب وأبنائه وتعامل قريش معه، وقد استغرق معظمه فى الحديث عن زمن الجاهلية، وانتهى بالحديث عن اليتم والحاضنة والمراضع، وبداية ستجد طه حسين يكتب أحداث السيرة ومواقفها فى شكل قصة يختار لها عنوانًا من عنده لافتًا للنظر، مثل: حفر زمزم، والفداء، والإغراء، والبر، وذوالجناحين، والوفاء المر... وغيرها.ثم يصوغ المواقف والأحداث صياغة قصصية فى تصاعد ونمو، حتى آخر موقف وآخر كلمة فى هذه القصة.

الجزء الثانى

 وفى الجزء الثانى يروى طه حسين قصص الرهبان النصارى واليهود الذين هربوا من استبداد الامبراطور الرومى واتخذوا لهم أديرة وصوامع ليتعبدوا بها وكانوا عارفين بقرب زمان مجيء خاتم الانبياء ومتتبعين لاخباره كما انه ذكر أحداث زواج الرسول (ص) من السيدة خديجة كما روى عن حادثة اعادة بناء الكعبة المكرمة والحجر الاسود الذى تنازعت عليه العشائر الاربعة، وحلّ النزاع الرسول (ص). وغيرها من الاحداث..

وقد خصص طه حسين هذا الجزء للحديث عن الحائرين، الباحثين عن اليقين، الفارين بعقولهم من غياهب الوثنية حتى وإن تقنعت بشىء من كتب سماوية. فتحدث عن كلكراتيس؛ الفتى الرومى الذى فر من طرسوس باحثا عن راحة لقلبه وعقله بعيدا عن احتكار قيصر للمسيح والمسيحية وفرارا من ظلمات الوثنية، ليستقر به المقام فى الصحراء ليقع فى أسر قبيلة كلب بن وبرة فى الشام ويلتقيه الباحث عن دين إبراهيم «زيد بن عمرو بن نفيل» وتتلاقى أفكارهم وبحثهم المضنى عن الدين الحق، ليشتريه زيد بن عمرو من ساداته ويعتقه ويقرر الفتى الذى أصبح اسمه صبيح أن يلحق بزيد بن عمرو والذهاب معا إلى مكة انتظارا لنزول الوحى على فتى قريش محمد بن عبدالله لكن القدر لم ينظرهم فقتلا فى الطريق.

وتحدث أيضا عن حيارى قريش ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وسعيهم للحنفية كل حسب ما تيسر له. وحكى عن باخوم المعمارى والبناء المصرى الذى شارك فى اعادة بناء الكعبة المشرفة وما صاحب ذلك من أحداث ليوضح لنا الدكتور طه حالة التخبط العقائدى التى عاشها العالم من يهود ونصارى ووثنيين قبيل البعثة المحمدية.

الجزء الثالث

وفى الجزء الثالث يناقش أمر أبى الحكم عمرو بن هشام فى فصل بعنوان «صريع الحسد» فيقدم لنا شطرا طويلا من حياته ودوافعه لعداوة الدين والنقمة عليه ويظهر ذلك فى حوار مطول بين الوليد بن المغيرة وبين ابن أخيه الفتى عمرو بن هشام ليظهر ما كانت عليه حال قريش من الاضطراب والفوضى والفساد، وليمهد لبزوغ نور النبى محمد صلى الله عليه وسلم، الذى جاء ليخلص القوم مما عصف بهم.

على جانب العديد من القصص المكتوبة بلغة أدبية راقية عن حياة الصحابة إذ يقع هذا الجزء فى أحد عشر فصلا تقص علينا قصة الدعوة منذ البداية وحتى وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وهم صريع الحسد وسيد الشهداء وذو الجناحين، حديث عداس مصعب بن عمير، طريد اليأس، نزيل حمص، الوفاء المر، طبيب النفوس، شوق الحبيب إلى الحبيب. ويمكن القول أن الكاتب نجح فى تجسيد شخصيات ارتبطت بسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم -من قريب أو بعيد- من كونها مجرد أسماء مذكورة إلى شخصيات حقيقية بأحاسيس ومشاعر حية أمامنا, تساعدنا على فهم واستيعاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والظروف التى عاشها فى هذا العصر.

وفى وصف طه حسين لكتابه «على هامش السيرة» أكد أنه لم يقصد كتابة السيرة النبوية بشكلها العلمى أوالتاريخى بل هو يكتب بعض التأملات التى طرأت على ذهنه أثناء القراء، قائلا: 

وأبرز ما يميز كتاب «على هامش السيرة» هو تتبع الدكتور طه حسين للقصص التى حدثت أيام النبى وألقى عليها الضوء، وربما تكون مفتتة فى بطون كتب السيرة نظرا لاهتمام كل كتاب السيرة بالشخصية الرئيسة وهى شخصية النبى صلى الله عليه وسلم، فى حين أن عميد الأدب أعطى اهتمامه لتك الشخصيات بتجميع أخبارها وربطها فى شكل حكائى مع ما قد يعن له من تصورات وتفسيرات لمواقف معينة.

الدكتور طه حسين لا يسرد القصص فقط من أجل السرد.. لكنه يختار منها ما يجعل القارئ يشعر بقوة إيمانية عارمة..يشعر أن كل شىء تحت يد قوة كبرى قادرة على كل شىء.. يشعر أن العدل والسلام والخير والحب والإيثار هى قيم حقيقية موجودة فى الحياة وليست مجرد كلمات جوفاء مجردة... حتى لوكان الدكتور يجد ما يكتبه غير مستساغ عقليا.. لكنه مع ذلك يضعه فى أسلوب أدبى غاية فى البلاغة والإمتاع.. أسلوب يجعل القارئ يحب العربية ويجدها أسهل لغة فى الوجود وأجملها.

يذكر أن رواية على هامش السيرة بأجزائها الثلاثة قدمت على شاشة التليفزيون المصرى فى مسلسل يحمل نفس الاسم عام 1978 سيناريو وحوار أمينة الصاوى وإخراج أحمد طنطاوى وبطولة شكرى سرحان أحمد مظهر وزهرة العلا وصلاح منصور ونخبة من نجوم مصر آنذاك وكان ولا يزال يذاع حتى الآن خلال شهر رمضان المبارك.