الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الشاعر «عبد المنعم رمضان»: أقرأ الرواية لأكتب الشعر وأقرأ القاهرة لأكتب بيروت

حفاوته دعتنى إلى النظر عبر القصيدة وهى مشرعة النوافذ، فتناهت إلى روحى التفعيلة التى أقام بها طويلًا، ثم لمحت قصيدة النثر وهى تتمطى فى السيرة وتبحث عنها بجسارة مقابل الأنا، فى حضرة الكبير الشاعر «عبد المنعم رمضان» أحد أهم رواد الشعر فى السبعينيات والذى يكره الألقاب ويميل إلى البساطة، ومنذ بكارة شعره حرص على ألا يشبهه سواه فسافر بشهوة الشعر إلى أبعاده النائية الموحشة، وتمرد على شكل الثبات وشبهة التبعية، أتصوره يراجع أفكاره فى كل ديوان شعر يكتبه أو سيرة أو مقال، كأنهم أطفاله وقد أنجبهم بعد عشق غير محايد.  كان من الصعب أن أحيطه بقراءة واحدة وكتابة منطوية، فكتبت أكثر من مقدمة ومزقتها، لأن المدى واسع لا تحاصره حدود ولأن أعماله غزيرة كثيفة المجاز؛ غزيرته! بصوفية يحل الكل فى روحه، لحظة وصولى، قال: أرحب بك و«روزاليوسف» وتحدث عن تاريخه معها، حيث اعتاد كتابة مقاله الأسبوعى بها سابقا.. فإلى نص  الحوار:



 

● جربت التجول فى كل التجارب الشعرية والفنية، فهل ما زلت تدمن التردد والانفتاح على تجارب فنية مختلفة، واختبارها بنفس الشغف، حتى وإن خالفت توجهاتك الحالية؟

- فى بواكير حياتنا نمتلك كل الجرأة، لأننا لا تعطلنا الأسس والقواعد، فنحن لا نعرفها، ولا يعطلنا الخجل ما دمنا نملك جرأة البراءة والفطرة، هكذا نصبح كلنا شعراء بلا شعر، وهكذا تصبح روح الصبا والطفولة مرآة لروح الشعر، لكننا سنغادر الطفولة، سنغادر الصبا، سنصل إلى الجامعة، سنتلوث بالمعرفة، فى مرحلة الصبا تكون سكاكيننا مصنوعة من الخشب، سكاكين لا تذبح، لذا سوف يألفنى الأستاذ عبد الباقي، سوف يألفنى العوضى الوكيل، سوف يألفنى حتى أطفال شارعنا، أعترف دون زهو أننى لست ابن ريف ولا ابن بادية، أعترف أننى ابن مدينة، أشرب يوميًا من ماء التعدد، أظن أن التعدد فى الفن هو الشرط الأكثر ضرورة، لأنه بطانة الاختلاف، وأيضا بطانة الحداثة، لست أول من سيقول أن الحداثة هاجس كل جيل، فكل جيل يحسب أنه محكوم بضرورة الخروج على الجيل السابق عليه، بالخروج على الأجيال كلها، ومن زاوية أخرى إذا نظرنا بتأنٍ سنكتشف أن خروج كل جيل على الجيل السابق عليه قد أصبح تقليدًا، وذلك بسبب تكراره، أى أن الحداثة من هذه الزاوية أصبحت هى الأخرى محض تقليد، محض داءٍ يقترفه كل جيل، ولذلك فإن الحداثات المتتالية سرعان ما نكتشف أن أغلبها غير قادر على إقناعنا، غير قادر على تحقيق ذاته، أن أغلبها قد يكون تقليعة عابرة، موضة عابرة، أن أغلبها محض نتيجة للتفكير فى ضرورة الاختلاف عن السابق عليها، إلى حد أن نتوه فى الطريق إلى العمل الفني، هل هو فعل محض أم هو افتعال محض، الأغلبية تقريبا ستقول أن كل حداثة افتعال إلى أن تستقر فتصبح فعلا، الأغلبية الأخرى ستقول أن الحداثة ليست فعلا واعيا، إنها غريزة، وإنك ستعثر عليها بالمصادفة، الفن الجميل يحتفظ غالبًا بأسراره، يحتفظ بحقه فى كثرة التأويل، الفن الجميل لا يمكنك أن تزعم الإحاطة الكاملة به، فيما يمكنه أن يحيطك ويشملك.

● برأيك هل كان الشعر ملاذًا أقل تبعية فيما مضى؟! كيف حال القصيدة اليوم، خاصة بعد الوباء الذى خلق الخوف من المجهول؟

- مرات قليلة هى المرات التى كتبتُ فيها الشعر على ورقة بيضاء نظيفة وغير مستعملة، دائمًا ما أكتب على حواف الأوراق المستعملة، كأننى أصرُّ على أننى إنسان هالك، كأننى أذكّر نفسى بأننى إنسان الحافة، وأن الشعر هو فن هلاكي، والحافة عندى حدٌّ بين مكانين ضروريين، وربما بين عدة أمكنة، ولهذا سأحس دائمًا بشهوة الحركة، بشهوة الانتقال، سأحس دائمًا بالخطر، فما بعد الحافة قد يكون نائيًا، قد يكون مجهولا، وربما يكون عتمة، أغلب اضطرابات حياتى كانت تحدث هناك، على بُعد خطوة، أغلب اضطرابات حياتى كانت تحدث عند الحافة، فبعد حصولى على الشهادة الثانوية، أصبحت قرب اختيارات عدة، حسمتها بالاختيار الخاطئ، ذهبت إلى دراسة لا تلائمني، دراسة الإدارة والتجارة، وبعد انتهاء خدمتى العسكرية أصبحت قرب اختيارات عدة، وكالعادة حسمتها باختيار خاطئ أيضا، وهو اختيار العمل فى أحد أجهزة الدولة، الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، ومع أننى تأرجحت كثيرًا وتعلقتُ بقصص حب لم ينقذنى منها سوى تلك القصة التى كانت تشبه قصة لم تتم، تلك القصة التى تزوجت بعدها، والتى انتهت بعد أقل قليل من أربعة عقود، حيث تركتنى صاحبتى فى المكان الذى يفصل بين موتها واستمرار وجودي، أظنه الآن حافةً أخرى، وفى الوقت ذاته أظنه ليس حافة أخرى، وعبره أعيد رؤية شعري، الذى كان يتأرجح بين نار الشعر ونور النثر، يتأرجح بين جنة أحدهما وجحيم الآخر، لحسن حظى أننى غير قادر طوال عمرى على حفظ النصوص، لأنها تتسرب ببطء أو بسرعة من عقلى إلى أعماقي، لعلها آنذاك تتحول من شيء إلى آخر، لعلها آنذاك تصبح خاصة بى فقط، لحسن حظى أننى تتلمذت سابقًا على المازني، وبسببه استأنست النظر إلى شعرى الذى كتبته، وكأن نصوصه نصوص أشخاص غرباء عني، وكأنه كله – أعنى كل شعرى – لحظات هاربة من روحي، وإذا عزمت على المحافظة على بقية روحي، وجدتنى أبددها فى بئر تشبه الشعر، أو فى شعر يشبه النثر، وأبدًا أبدًا لا أتعظ، أبدًا أبدًا لا أسأم إلا من شيئين، الاستقامة والحفظ.

● انت دائم التجول وتبدل الأذواق، هل تتمرد على التابوهات أم تعيد الحسابات؟ 

- ظلت القاهرة دائمًا وأحيانا مدينتى ومنفاي، لا أتصور إقامتى فى مكان سواها، كلنا نستطيع أن نختار مكاننا، لكننا كلنا لا نستطيع أن نختار زماننا، وإذا نجحت فى أن أفتش عن زمان أقدم، كأن أقيم فى صحراء العرب، أو مكان أحدث كأن أقيم فى باريس، إذا نجحت فى ذلك واكتشفت أن اختيار زمان آخر شرطه اختيار مكان آخر، سأزعم أننى غير متوائم مع زمنى الذى أعيشه، تمنيته أحيانا زمن الحاكم بأمر الله، لكننى أؤكد عدم قدرتى على تغيير القاهرة، هى مدينتى دائما ومنفاى أحيانا، أما بيروت والتى هى أول أماكنى الخيالية المختارة، فقد سحبتنى من قلبى وجعلتنى أتبعها، فى كل الآونة رأيتُ القاهرة أثقل من كل المدن، سماؤها تتسلل من عينى إلى أقدامي، وأرضها ترفع نبضى من أعماق قلبى إلى حافته، إلى حد أن أمشى فوقها مثل مجذوب، إلى حد أن أخجل من استعذابى لخفة بيروت، فى بيروت تمنيتُ أن أتقن صوت اللغة، وبسبب هذا تشبثتُ بأن يكون لى مكانان، أحدهما للإقامة، والآخر للتحليق، أحدهما للاعتياد، والآخر للحلم، بيروت هى قصائدى المتقطعة، والقاهرة هى روايتى المستمرة، وكما قلت أكثر من مرة أنا أقرأ الرواية لأكتب الشعر، أقرأ القاهرة لأكتب بيروت، القاهرة غالبا تحرص على الطاعة، وبيروت تغرى بالعصيان.

● تحدثت عن ضبط المسافة بين الشاعر والسياسة ولكنك رفضت صراحة بعض فعاليات المؤسسات الثقافية وسلبيتها، مررت بالكثير.. فكيف أوقعت الحياة بين شخصياتك ثم صالحتها ببعضها؟ 

- الكتاب اسمه والدن من وحى الغابة، والمؤلف أميركى اسمه هنرى ديفيد ثورو، هنرى ثورو، نبهنى إليه وفتننى به سلامة موسى فى كتابه الأشهر هؤلاء علمونى، ولما بالمصادفة عثرت على ترجمة له، دخلنى من الجهات كلها، كأنه سيفك قيودى ويحررنى، سأل هنرى نفسه السؤال الذى تحرمه الديانات والأنظمة والشرائع الاجتماعية، ويقبله العقل لوهلة أولى ليرفضه فى بقية الوهلات حتى لا يصبح منبوذا، سأل هنرى نفسه هل نعمل لنحيا أم نعيش لنعمل، بساطة السؤال لا تعنى سذاجته، وفكر فى الإجابة الوحيدة: نعمل لنعيش،لكنها الإجابة المحرمة مادمنا نعمل ستة أو خمسة أيام لنحيا يوما واحدا أو يومين، فكر فى تصحيح المعادلة، ذهب إلى الغابة، إلى والدن، وقرر أن يعمل يوما أو يومين ويحيا بقية الأسبوع، ليهتف فى نهايته: أنا أحيا، أنا أحيا، ومع أن تجربته لم تستمر طويلا إلا أنها نبهتنا إلى حقنا فى الحياة، مازلت أذكر محمد عبدالسلام الذى عاش فقيرا وسعيدا دون مؤسسات، دون جوائز، دون أوسمة، ودون كذب، هكذا حاولت أن أجبر نفسى على الاستغناء، أجبرتها على ضبط المسافة بين المؤسسات وبينى، حتى السفر لم أستطع أن أستمر فى قبوله، فبعد أسفار عديدة إلى فرنسا وهولندا وألمانيا وإيطاليا وسوريا ولبنان والبحرين والمغرب اكتشفت أننى فيها جميعا كنت خارج المكان، كنت بلا روح ترى، وبلا ذكورة تريد وترغب، الآن أكاد لا أقف على أرض أعرفها، روح مكانى تمرض، أتمنى ألا تموت قبل أن أموت.

● أنت من أبرز المُريدين «لأدونيس» وقوالبه اللغوية فى قصيدة النثر، رغم التزامك وإخلاصك المتفرد مع قصيدة التفعيلة.. لماذا؟

- عموما لى آباء عديدون، أدونيس فى مقدمتهم، ومعه الذين معه أبونواس والمتنبى والمازنى ومحمود حسن اسماعيل والسورياليون جورج حنين ورفاقه وصلاح عبدالصبور ورفاقه والروائيون، لأننى أكتب الرواية وأقرا الشعر، والشعراء زملائى، والشعراء الذين أتوا بعدى علاء خالد وعماد أبو صالح وغيرهم، كذا الشعر المترجم كفافيس ورسول حمزاتوف ونيرودا ورامبو، كلهم آبائى كأننى ابن حرام، فها أنذا أتصور أن دمى مصاب بدماء كثيرة، نعم أدونيس وأنسى الحاج هما الأقرب، أقدام أنسى الحاج مازالت آثارها الحارة باقية بلمعانها على سطح قلبى، وهاأنذا أحن إلى سعيد عقل وميشال طراد، أتغنى بهما، ومعهما أقلب ما أحسه مطمورا فى داخلي.

● ما رأيك فى الإرتباط بين الطقوس الشعرية والآليات المحفزة للكتابة وبين «حضور النص»؟ 

- فى الشتاء ينفرط جرابى أحيانا فأكتب وأقرأ أكثر مما فى الفصول الأخرى، وفى الليل أكثر مما فى النهار، ودون تأهب أكثر مما لو أننى تجهزت، أقرأ وأكتب أكثر عندما اسعى وراء المحبوب وليس عند الوصول، أقرأ وأكتب أكثر حين السعى إلى ثورة، إنها إذن إيثاكا التى تطاردنى وتنبهني: الطريق لا الوصول، غير أننى مع ذلك أكاد أكون بلا طقوس،صحيح أننى أتهيب الورقة البيضاء غير المستعملة، الأفضل هامش ورقة مكتوب عليها، هامش صحيفة قرأتها، فالكتابة آنذاك تكون مبذولة كأنها التنفس، ضرورية ومبذولة، ضرورية وعابرة، وكأننى لا أقوم بفعل لا نظير له، وكأننى فى كل مرة كتابة أكون على غير استعداد، وكأننى بملابسى المنزلية وبنعل قديم، أعترف أننى لا أحيط نفسى بالقصائد والدواوين حين الكتابة، وأعترف أيضا أننى فى غير حينها أحتمى أكثر بالروايات، قلت ذات مرة أقرأ الرواية لأكتب الشعر، فى أثناء الكتابة لا أحرص على أن يحيطنى الصمت، فأنا مأخوذ إلى حد الغياب، هكذا أكتب بغير تفكير فى الأهمية أو القيمة، أحيانا أتوقف لإعادة النظر أو للصمت أو لاستعادة النفس، بفتح الفاء، لا أدعى أننى أكتب كتابة آلية، ولكننى أقرب إلى تلك الكتابة الألية، الوعى عندى يبدأ بعد الفراغ من الكتابة الأولى، آنذاك أقترف الذنوب وأبدأ العمل الواعى بالعكوف على إعادات متكررة، مثل عامل يدوى مخلص، أقوم بتصميم الشكل وصناعة القالب واختبار الصوت، صوت اللغة، والاستبعاد والشطب.