الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع

الفابريكا

الأعمال للفنان: يوسف محمود



يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة أو خواطر «على ألا تتعدى 550 كلمة» مرفقا بها صورة شخصية على الإيميل التالى:

[email protected]

 

الفابريكا 

 

قصة قصيرة

 

كتبها - محمد فيض خالد 

 

ما إن ينثر الصّباح نورهُ فى الأُفق، فتنفض القرية عَنْها أنفاس المَساء، التى لا تزال تسرى بين دروبَها الضّيقة، حتّى تنبعث رياح رخية، تتهادى من الحُقولِ القريبة؛ مُعلِنة تشوّقها لزوارها الجُدد من أبناءِ الكدّ.

تتناثر قطعان الماشية فى فوضى فوقَ الجِسرِ، ومن خلفها العِصيان تلهب ظهر المُتكاسِل منها، تتردد أنشودة الشُّروق فى ابتهاجٍ فوقَ الشِّفاهِ، تُجيب تحية الصّباح المُرتعش، اعترف بأنّ عشرات القصص داهمت عقلى القاصِر، ترانى أيممّ وجهى شطرَ المَشرِقِ المتسع، تَدبّ النّشوة فى قلبى الهَامِد، اُراقِب فى سَكينةٍ خيوطَ الدُّخان الفتية، تُداعِب قُبة السّماء الصَّافية تحتضن النّهارَ الوليد، بالتّأكيد هى بعيدة جدا، ولكنّ كثرتها أظهرتها قريبة، تقتحم الحقول فى عنفوانٍ، قصّ علينا « الحاج نَوّار « خبرها: هى سوداء مثل هِباب كوانين النّار، يعتمد فى إخراجها على مداخن عملاقة تمتد شاهقة، تنفثها بعيدا عن مبنى « الفابريكا « تُحرَق فيها فضلات القصب ومخلّفاته؛ لغلى عصيره وتحويله إلى سُكر، لازلت اذكر يوما اغتمّت فيه قريتنا، نزفت العُيونُ من ينابيعِ الفاجعة، طَاَرَ الخَبر؛ إنّ « رافع» أحد شُبانها، سَقطَ صَرِيعا أثناء نوبة عمله فى صهاريجِ العَصيرِ المغلى، أتوا ببقايا جثمانه تَحتَ ضبابِ الفجر الخفيف ليدفنوه، يتَذكّر» مخيمر « الخفير لحظتها،يحكى والشّجن يَجِدُّ فى قلبهِ، ينظر بوجهٍ باسر، وأعصاب مهتاجة، وصوته يختنق: إنّ العَصير السّاخن أذابَ لحمه، ولم يبقه إلا عِظاما، فى إحدى الأماسى الصَّيفية البهيجة، هَبَطَ « الأفندى « علينا، عائِدا فى أجازةٍ قصيرة، امضى قرابة عقدين من الزَّمانِ، يتولى مهام استلام عربات القصب ووزنها، اقسَمَ بقبرِ أمه، إنّ «الفابريكا» مَرتَعا لعُتاة العفاريت، تتلاعب فى ظلامِ ليلها الحَالِك بكُلِّ شىء، وفى هدأةِ اللّيلِ، وتحت جَنينِ القمر السّاجى، اَخرَجَ ساعته «أم كاتينة» من جيبِ سترته الكاكى، هزّها فى خُيلاءٍ، وعيناه تلَتمعُ، أسرّ لجلسائهِ فى نَبرةِ الواثق كعادتهِ: الآن أوان الوردية الثالثة، وأشارَ بيدهِ مُنصتا، تلِكَ صَافِرة قطار القصب يدخل « الفابريكا «، لا يمكن أن يُخلِف موعده، استدارَ الزّمان، بعد إذّ طوى الماضى فى جوفهِ، ذهبت للدراسةِ فى البَندر، هناك وعلى مَقربةٍ من « الفابريكا « مدرستنا، انتصبت مداخنها، راعنى شموخها، أخافنى ما تَقذِف من أدخنةٍ ثِقال، أرسلت الطّرف دونَ كللٍ فى الجوِّ مأخوذًا بها، تلتمع فى عينى حيرة الغريب، ومن آنٍ لآخر التمس الحِيلة؛ وفى غفلةٍ من الرُّقباءِ، اعتلى السَّطح، اتتبّع الأعمدة السُّود حين تلوّيها، على استحياءٍ أُلقى بخبيئةِ صَدرى لزملاءِ الصَّف، فلا أجد إلاَّى معلق «بالفابريكا» ونظرة شَذراء ترمينى بالبلاهةِ والجمود.

اُودِّعها فى طريقِ عودتى، وما احسَب أنّه الوَداع الأخير، مُنذ أيامٍ، بَلغَ منى الوَجد مَبلَغه، خطرت ببالى أيّامها الخوالى، اشتَبَكَ بصرى بالأفقِ، اشتباكَ السَّيف بالسَّيفِ، لكنّه ارتدّ خَاسِئا وهو حَسير، تلاشت أدخنة « الفابريكا» هَمدت مداخنها، وتوقّفت صَافرة قطارها، كما تَوقّفت الحَياة عن مُتَعِها.