الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

واحة الإبداع

المـاضى يعــود

الأعمال للفنان: ديميترى تشيباروس



يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة أو خواطر «على ألا تتعدى 550 كلمة» مرفقا بها صورة شخصية على الإيميل التالى:

[email protected]

 

المـاضى يعــود

 

قصة قصيرة

 

كتبها - أشـــرف غـــازى

 

كان الطبيب النفسانى يهم بالخروج من عيادته، إلا أنه اضطر للمكوث بعد أن رأى امرأة تدخل عليه وقد أنهكها التعب، كانت شاحبة الوجه كأنها تُشرف على موت قريبًا، وما أن اعتدلت فى جلستها حتى شهقت شهقات متتابعة أرتج على أثرها جسدها النحيل، فما كان منه إلا أن قام من مقامه على الفور وساعدها فى الاسترخاء، وبعدما هدأت وتمالكت نفسها راحت تسرد عليه قصتها: 

منذ ما يقارب العشر سنوات طُلقت أمى وتزوج أبى بأخرى ولأن خلافاتهم قد سمع بها الجيران والأقارب، راحت تلوك سيرتنا الألسن وتنهشها نهشًا، منهم من فسر هذا الانفصال لوجود علة وخيانة وكنت أنا الضحية، وبعدما كان يتقدم لخطبتى الوجهاء وأصحاب المراكز المرموقة أصبحت مثل نبتة الشوك التى يتحاشاها الجميع، وبعد أن كنت مضربا للمثال فى الجمال والدلال والتيه أصبحت مطمعا للذئاب البشرية، ومادة دسمة لحديث السفهاء، ولكى أنتشل نفسى من تلك الهوة السحيقة وافقت على أول رجل تقدم للزواج بي، ولم يكن ليجرؤ على طلبه هذا فيما مضى-ليس غرورا  مني- وإنما لاتساع الفوارق بيننا فى كل شيء، فأنا الجميلة الجامعية المثقفة اللبقة وهو الدميم التافه الذى لم ينل من التعليم سوى الإعدادية، وشتان ما بين الثرى والثُريّا. 

وافقت على الزواج منه للهروب من مرارة الواقع وبعد أن تخلى عنى الجميع حتى من ظننته حب عمرى تخلى هو الآخر، وبعد أيام قلائل من الزواج تأكد لى أنى كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار، أى هلاك ألقيت به نفسى؟ وأى فجيعة تُعادل فجيعتى؟ تزوجت رجلا جهولا، غليظ القلب، متسخ الثياب والبدن، ولم تقف الأوساخ عند بدنه وثيابه فحسب بل انتقلت لروحه، ولا أخفيك يا سيدى الطبيب أمرًا أكتمه على مضض، كنت أقدم له جسدى ونيران تشتعل بداخلى من شدة النفور والتأفف، وكثيرا ما كنت أهرب متعللة بكثيرٍ من الحُجج الملفقة، يكفى أن أقول لك أنه شخصٌ مريض بمرض اللامبالاة، لا أستطيع التحدث معه فى قضية تشغلنى او أمر يُطرح للمناقشة فهو والعدم سواء.

نطقت كلماتها تلك ثم وجدها تُهذى بكلمات غير مفهومة لكنه أستطاع تمييز جُملة قالت فيها: 

- حتى أحمد مراد هو الآخر أول ما باع، فهل بعد بيعه الرخيص ما زلت أحفل بالدنيا وما فيها؟

قالتها ثم عادت للهذيان من جديد، وتأكد له أنها تُعانى الاضطراب الوهامى، هو مرض نفسى غير مألوف يعانى فيه المرضى من أعراض تقييدية بأوهام غريبة. 

لم ينتظر الطبيب كثيرا وأعطاها جرعة مُسكنة وعيناه تترقرق فيهما دمعتان تهمان بالسقوط، وبعد أن استفاقت وهمت بالخروج اتجهت صوب رف فى آخر العيادة رُص عليه بعض الكتب لتجد فى منتصف الرف صورة قديمة لمجموعة من الطلبة التقطت لهم وهم بالجامعة، وتعرفت على صورتها من بينهم، بينما يقف على مقربة منها حبيب عمرها أحمد مراد، لم تكن بحاجة لكى يتأكد لها أن الطبيب الذى أمامها هو أحمد مراد فقد استردت كامل وعيها فى تلك اللحظات، واختلطت بداخلها المشاعر، وهمست: ما زال يحتفظ بصورتى!  

وظل هو يراقب الموقف من بعيد دون أن ينبس ببنت شفة، ولم يكن بحاجة هو الآخر لكى يعرف أن التى أمامه هى حب عمره، وأثناء ذلك يدخل سكرتير الطبيب ليخبره أن زوجته وابنته نرمين ينتظران بالخارج، وهنا كادت أن تخر واقعة من هول المفاجأة وهى تردد:

نرمين، حتى ابنته اختار لها أسمى، ثم خرجت مسرعة والألم يعتصر قلبها.