الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

دراسة مهمة تكشف عن أنواعهم

هل هناك «إخوانى سابق»؟!

ترجمة: سعيــد شعيــب



نتوقف عند ظاهرة مسكوت عنها عند الإسلاميين الذين انفصلوا أو أخذوا مسافة من الحركة الإسلامية التى كانوا ينتمون إليها فى مرحلة سابقة، ونخص بالذكر هنا، الحركات الإخوانية، بحكم غلبة الهاجس السياسى عند المشروع الإخوانى مقارنة مع باقى الحركات الإسلامية، من قبيل التيارات السلفية وجماعات “الدعوة والتبليغ” وحتى الطرق الصوفية غير المعنية بالاستقطاب السياسى والانتخابى.

هناك أربعة نماذج فى الانفصال عن التنظيم الإخواني، وهو ما سنتناوله بالتفصيل فيما يلى:

1-نموذج حالة الطلاق التنظيمى الفعلى المصاحب بطلاق أيديولوجى حقيقى:   يتعلق هذا النموذج بالمتديّن الإسلامى الحركى الذى انفصل أيديولوجياً وتنظيمياً عن الجماعة، وهو النموذج الوحيد الذى يحق له الزعم بإنه إخوانى سابق، ومما يُميز هذه الفئة التى قررت الانفصال النهائي، بعد اقتناعها أن المشروع بلا جدوى ومن ثم لا معنى للانتماء، أن نسبة منها لا تقتصر على محطة الانفصال والابتعاد النهائى عن المشروع، وإبداء بعض الملاحظات أو الانتقادات فى الجلسات الخاصة مع الأصدقاء فى بعض التصريحات الإعلامية أو فى مواقع التواصل الاجتماعي، بل قد يصل الأمر إلى درجة نشر عدة أعمال متتالية، فى إطار الإصرار على خيار القطيعة مع المشروع.

كما أنها غالباً ما تتضمن عدة رؤى ومفاتيح لا نجدها بالضرورة فى القراءات النقدية الموجهة ضد المشروع الإخواني، والصادرة عن باحثين من خارج الدائرة الإخوانية، وسُبب هذا التميز النقدى فى إصدارات هذه الأسماء مردها عاملان اثنان على الأقل: الأول أنها انفصلت بشكل صارم عن المشروع، ولم تعد مدينة بالبيعة أو الولاء أو الانتماء. والثانى أنها تملك حاسة نقدية كبيرة، فى سياق تطهير الذات من تأثير الخطاب الأيديولوجي.

ويمكن التوقف هنا عند مجموعة من الأسماء التى تنطبق عليها هذه المواصفات؛ من قبيل: المغربى فريد الأنصاري، والفرنسى من أصل مغربى محمد لويزي.

ــ بالنسبة للمغربى فريد الأنصاري، فقد اشتهر عند متتبعى المشروع الإخوانى بكتاب تضمن أول البصمات النقدية وهو كتاب “الفجور السياسى والحركة الإسلامية بالمغرب” ، وصدر فى سنة 2000، قبل صدور ثلاثيته الشهيرة التى تتضمن النقد الصريح للمشروع، وهى ثلاثية “البيان الدعوى وظاهرة التضخم السياسي”، و”الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب”، و”الفطرية.. بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام”،وفى كتابه الثالث هذا، يتجاوز السقف الأيديولوجى للمشروع الإسلامى الحركي، داعياً إلى سقف أرحب وهو الفطرة الإسلامية، ومن هنا عنوان الكتاب الذى يتحدث عن النزعة الفطرية، بسبب التضييق فى الفكر والعمل الذى لاحقه، كما لاحظه العديد من الفاعلين السابقين فى المشروع الإسلاموي.

ورغم الانتقادات التى صدرت حينها ضد هذه الثلاثية، وخاصة ضد كتابه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب”، ومنها ما صدر عن الداعية الإخوانى أحمد الريسونى الذى كان حينها رئيس حركة “التوحيد والإصلاح” قبل الهجرة إلى الخليج، فقد انتظر الرأى العام المحلى أحداث “الفوضى الخلاقة” ابتداءً من يناير 2011، وصعود إخوان المغرب إلى رئاسة الحكومة والمساهمة فى تدبير الشأن العام، المحلى والحكومي، ليتأكد الجميع لاحقاً من صواب ما كان يُحذر منه فريد الأنصارى قبل عقدين تقريباً.

وهذا أحد الفروق بين المتديّن الإخوانى الذى يُعلن الانفصال الأيديولوجى والتنظيمى الصريح، وبين من يُعلن ذلك دون تجسيده على أرض الواقع، أو ممارسة الازدواجية، كما سنعاين مع الأمثلة الخاصة بالحالات الثلاث اللاحقة، ومن هنا بعض أسباب النقد الكبير الذى تعرض له الأنصاري، ووصل إلى درجة التجريح الشخصي؛ بسبب مرجعيته حينها، وأيضاً بسبب وجاهة ونوعية ما تنبأ به، ونلخصه فيما اصطلح عليه بـ”التضخم السياسي” لدى الإسلاميين، والموزع على وهم طلب “السلطان” قبل “القرآن”، وطلب “الدولة” قبل “الدين”.

هناك أسماء أخرى فى الساحة المغربية، تصب فى توجه فريد الأنصاري، ونذكر منها اسم واحد بزغ مع عمل روائي، عبارة عن سيرة ذاتية غنية ومهمة لأغلب الباحثين العرب، من المشتغلين على طبيعة المشروع الإخواني، والحديث هنا عن رواية “كنت إسلامياً” للكاتب والإعلامى عمر العمري.

أما بالنسبة لمحمد لويزي، فقد نشر سلسلة كتب،  منها كتابه الأول الذى يتطرق فيه إلى تجربته الإخوانية بعد انفصاله عن المشروع، تحت عنوان صريح هو: “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟”، مستعرضاً مساره الحركى قبل اتخاذ قرار الانفصال النهائى عن المشروع، كما أصدر كتاب “نداء من أجل إسلام لا سياسي”وكتاب “تحرير الإسلام من الإسلاموية.

وهناك عدة قواسم مشتركة فى خطاب فريد الأنصارى من المغرب ومحمد لويزى من فرنسا وباقى الأسماء التى أخذت مسافة صارمة من المشروع؛ ومن بين أهم هذه القواسم اكتشاف رحابة الإسلام مقارنة مع ضيق الإسلاموية، وهو الاكتشاف الذى تتضح معالمه فى بعض تلك الأعمال، سواء جاء ذلك التصريح بهذه الصيغة كما هو الحال مع الخرباوى أو بصيغة “إعادة اكتشاف الإسلام من جديد” كما هو الحال مع محمد لويزي.

والملاحظ فى الآفاق الفكرية التى يطرقها هؤلاء بعد الانفصال النهائى عن المشروع، أنهم يشرعون فى طرح أسئلة لم تكن لهم القدرة على طرحها من قبل فى مرحلة الانتماء للتنظيم؛ لأنها أسئلة كانت خارج دائرة التفكير، بسبب الولاء الأيديولوجي، والذى يجعل سقف تفكيره محدود مسبقاً بما يصدر عن أدبيات الجماعة، بل يصل الأمر إلى أن مجرد نشر مقالة، وبالأحرى نشر دراسة أو كتاب، يتطلب الحصول على إذن من قيادة الجماعة، كأنهم أمام خطوط تنظيمية حمراء باسم الدين، لا تخول لهم طرح تلك الأسئلة فى العلن، ويقتصر على طرحها فى الكواليس والجلسات الخاصة.

2- نموذج حالة الطلاق الأيديولوجى بدون الطلاق التنظيمى هناك نموذج المتديّن الإخوانى الذى انفصل أيديولوجيًا عن الجماعة لكنه لم ينفصل تنظيمياً، أو يزعم خلاف ذلك، من أجل عدم إثارة الانتباه، كما عاينا ذلك فى الساحة المغربية، مباشرة بعد أحداث “الفوضى الخلاقة” فى نسختها المغربية عام 2011، حيث اتضح أن بعض أعضاء حركة “التوحيد والإصلاح”، الذراع الدعوية لحزب “العدالة والتنمية” النسخة المغربية من “الإخوان المسلمين” وكلاهما من مرجعيات إخوانية، ورغم انفصالهم الأيديولوجى المزعوم عن المشروع، عادوا للتنظيم من أجل الترشح للاستحقاقات الانتخابية، من قبيل ما عاينا مع بعض أعضاء “مدرسة أكادير” الإخوانية. 

ويُقصد  بـ “مدرسة أكادير” فى التجربة الإسلاموية المغربية، حالة مئات من الشباب الإسلامى الحركى فى المغرب، من منطقة أكادير (جنوب)، كانوا تلاميذ أو طلبة، شرعوا منذ بداية تسعينيات القرن الماضى فى الاطلاع على أدبيات إسلامية وفكرية من خارج الأدبيات الإخوانية، من قبيل أعمال محمد أبو القاسم حاج حمد،، وطه عبدالرحمن، وأسماء أخرى، فجاء تفاعل قيادات حركة “التوحيد والإصلاح” مع هؤلاء الشباب، بضرورة أخذ مسافة من تلك الأدبيات، ووصل الأمر إلى توجيه اتهامات بالتشيع أو الفصل من الحركة، بقرار صادر عن الداعية أحمد الريسونى الذى كان رئيساً للحركة حينها.

والملاحظ أن أغلب أعضاء هذه المدرسة أخذوا مسافة أيديولوجية وتنظيمية من التنظيم، وهذا ما نعاينه فى حالات العديد من الأسماء، لعل أشهرها حالة الباحث مصطفى تاج الدين، الذى انخرط فى نقد المشروع الإخواني، ولايزال الأمر كذلك حتى الآن. لكن هناك أعضاء آخرين من المدرسة ذاتها، من الذين أخذوا مسافة أيديولوجية وتنظيمية عن التنظيم، عادوا إليها مرة أخرى. فقد دفع انخراط الحركة الإسلاموية المعنية فى العمل السياسى والانتخابى ونتائج أحداث الحراك العربى فى نسخته المغربية، هؤلاء الأعضاء للعودة إلى التنظيم، حيث رشحوا أنفسهم على قوائمه فى بعض الاستحقاقات الانتخابية، من قبيل حالة إبراهيم بوغضن، أحد أعضاء المدرسة، الذى ترشح للانتخابات البلدية لسنة 2015، وفاز بمقعد رئيس بلدية مدينة تيزنيت (جنوب المغرب)، وبعدها فاز بولاية تشريعية عن المدينة ذاتها تمتد من عام 2016 حتى عام 2021.

3-نموذج حالة الطلاق التنظيمى بدون أن يكون مصاحباً بطلاق أيديولوجى يتعلق هذه النموذج بالمتديّن الإخوانى الحركى الذى انفصل تنظيمياً عن الجماعة، دون تبنى الانفصال الأيديولوجى عنها، وهذا هو السائد بشكل كبير عند العديد من جماعة الإخوان “السابقين”، مقارنة مع النموذج الثانى السالف الذكر، وهناك عدة مؤشرات أو وقائع تخوِّل للمتتبع أخذ فكرة عن بعض معالم هذا النموذج؛ منها انخراط أصحاب هذا النموذج فى تفاعلات رقمية مع أعضاء التنظيم الإخوانى مقارنة مع باقى التنظيمات الدينية الأيديولوجية، كما لو أن جهازهم الأيديولوجى مازال متأثراً أو خاضعاً لآثار النهل الأيديولوجي، رغم الانفصال التنظيمي.

واقع الأمر أن انفصال المتدين الإخوانى عن التنظيم لا يعنى بالضرورة أنه انفصل أيضاً عن أيديولوجيته، فهذا أمر مرتبط بمحددين اثنين؛ أولهما مرتبط بالرغبة فى الانفصال، حيث قد تكون للمتديّن نية صريحة فى الابتعاد عن التنظيم، لكنه يحتاج إلى الانخراط فى بذل مجهود فكرى لكى يتحرر شيئاً فشيئاً من مرحلة التلقين الأيديولوجي، وقد تمتد هذه المرحلة لسنوات عند البعض أو لعقود عند البعض الآخر. أما المحدد الثانى فيرتبط بوعى هذا المتديّن لتأثير مرحلة التلقين الأيديولوجى التى خضع لها على حالته النفسية والعقلية؛ لأنه غالباً ما تكون مرحلة الانفصال مقدمة لمرور المتديّن بمرحلة مضاعفات نفسية عديدة. ومن الحالات الفردية التى تعبر عن هذا النموذج، حالة الناشط فى العمل الأهلي، رشيد لحلو، وهو فرنسى من أصل مغربي، والذى صدر له كتاب حوارى يتحدث فيه عن تجربته الإخوانية، وتجربة الانفصال عن الفرع الفرنسى للمشروع الإخواني، ولكن فى معرض الإجابات التى يوردها فى الكتاب، نجده يستشهد بالرموز الإخوانية؛ مثل السودانى حسن الترابى والتونسى راشد الغنوشى وأسماء أخرى، كأنه لا توجد أسماء دينية من مؤسسة الأزهر أو القيروان أو القرويين، أو من مؤسسات أخرى، مؤهلة علمياً أكثر من الترابى والغنوشى والأسماء الإخوانية التى يستشهد بها لحلو؛ وسبب ذلك أنه لم يتحرر من السقف الأيديولوجي، بافتراض أنه صادق فى أخذ مسافة من المشروع.

4-نموذج حالة الطلاق الأيديولوجى والتنظيمي، لكن دون أن يكون ذلك قائماً على أرض الواقع

يتعلق هذا النموذج بالمتديّن الإخوانى الحركى الذى يدعى أنه انفصل أيديولوجياً وتنظيمياً عن المشروع، دون أن يكون ذلك قائماً على أرض الواقع، وهذا أمر متوقع إذا أخذنا فى الحسبان دور التربية الإخوانية فى مرحلة الشحن الأيديولوجي، حيث يتميز أصحاب هذا النموذج بممارسة التقية؛ أى الانفصام بين القول والفعل. والأمر مع هذا النموذج أن هذا المتدين يدعى أنه انفصل عن التنظيم، وقد يتباهى بذلك أمام الجمهور، ولكنه من الناحية العملية مازال عضوًا فيه ومازال متأثرًا أيضًا بأيديولوجيته؛ لذلك لا يمكن فصل هذا الاتجاه عن ظاهرة التقية السائدة عند نسبة من أتباع المشروع الإخوانى بشكل عام.

ويكمن أحد الأسباب التى تفسر هذه الازدواجية السائدة عند أصحاب هذا النموذج الرابع، فى التأثير الكبير للأدبيات الأيديولوجية التى تربى عليها المتديّن الإخواني، سواء تعلق الأمر بأدبيات حسن البنا أو أبو الأعلى المودودى أو سيد قطب، وغيرهم الذين يمجدون الجماعة ويعتبرون أنها الأقرب لجماعة المسلمين. فمن  الصعب على متديّن إخوانى تربى على هذا الخطاب، وتشبع به وآمن به أن يتحرر منه بشكل نهائى، هذا على افتراض أنه اقتنع بضرورة القيام بمراجعات، وحينها يمكن أن يمر من مرحلة النموذج الثالث، قبل ولوج مرحلة النموذج الأول، أى الانتقال من مقام الانفصال التنظيمى غير المصاحَب بالانفصال الأيديولوجي، إلى مقام الانفصال التنظيمى والأيديولوجي، أما إذا لم تكن لديه نية القيام بمراجعات، وبقى بالتالى مؤمناً بهذه الأفكار الدينية الشاذة على ثقافة شعوب المنطقة العربية والإسلامية وقيمها وهويتها، وارتأى أن يروج أنه انفصل عن التنظيم، فلا يوجد خيار أمامه سوى تبنى التقية التى تجعله يجمع بين الدفاع فى السر عن هذا الخطاب وإعلان الولاء له، مقابل الترويج للانفصال عنه فى العلن.

على ضوء التصنيف السابق يمكن التوصل إلى الخلاصات التالية:

أنه لا توجد صور نمطية موحدة وجامعة عندما يتحدث أحدهم عن “إخوانى سابق”؛ لأننا عاينا أربعة نماذج على الأقل، تتقاطع فى بعض الممارسات وتختلف فى ممارسات أخرى، مع أنها قادمة جميعها من مرجعية إخوانية، أو من مرجعية إسلامية حركية بشكل عام، لأن الظاهرة تهم جميع الإسلاميين.

من بين العوامل المؤثرة والمساعدة على الفصل بين النماذج أعلاه، هناك عامل تأثير التربية الأيديولوجية من جهة، وعامل السقف الزمنى الذى قضاه “الإخوانى السابق” فى التنظيم؛ فكلما كانت حقبة الانتماء طويلة كانت مضاعفات مرحلة الانفصال عن التنظيم شاقة، وخاصة المضاعفات النفسية، ويُعتبر هذا العامل من أهم المحددات التى تساعدنا على قراءة التباين فى أداء تلك النماذج.

يكشف النموذج الثالث، أى الإخوانى الذى يزعم أنه “إخوانى سابق”، لكنه لم يتحرر بعد من أيديولوجية التنظيم، أننا إزاء خطاب إخوانى يشتغل خارج التنظيم، ونادرًا ما يتم الانتباه له؛ لأن الحديث باسم صفة «إخوانى سابق»، تجعل المتتبع يتوهم أنه لم يعد فاعلاً فى التنظيم، بينما مواقفه العملية، وخاصة مواقفه السياسية لا تختلف عن مواقف التنظيم، كأننا إزاء أعضاء احتياطيين يقدمون خدمة للمشروع من خارجه.

دكتور منتصر حمادة - مركز تريندز