السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى الذكرى الـ 400 على ميلاده

«لافونتين».. كاتب فرنسا الأشهر وصاحب الأثر البالغ فى الثقافة العربية

تحتفل فرنسا هذا العام بالذكرى الأربعمائة على ميلاد كاتبها وشاعرها الكبير جان دو لافونتين ( 1621- 1695 ) ويعد لافونتين أشهر كاتب أطفال فى تاريخ الأدب العالمى وتجسد ذلك فى كتابه الشهير» حكايات لافونتين» الذى ترجم إلى معظم اللغات الحية.



يمكن تقسيم كل أعمال لافونتين إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي: (القصص الخرافية)، و (النوادر والحكايات)، والأعمال الأخرى التى تتناول موضوعات متنوعة. ومن بين هذه الأقسام، يعتبر القسم الأول هو المعروف منها عالميًا. وتظهر الجوانب المتعددة التى تتميز بها موهبة لافونتين فى عمله المعروف باسم The Fables أكثر من أى نوع آخر من أعماله. وسار الكثيرون على درب لافونتين فى كتابه (القصة الخرافية)

استلهم الشاعر أعماله من إيسوب الإغريقى إذ يقول فى مقدمة كتابه الذى نشره 1678م:»هذا هو كتابى الثانى الذى يحوى قصصًا خرافية تدور على ألسنة الحيوانات الذى أقدمه للجمهور... ولا بد أن أعترف أن الجزء الأكبر من كتابى قد استلهمته من كتابات كليلة ودمنة التى كتبها بلباى الحكيم الهندي» وبلباى هو اسم للفيلسوف الهندى بيديا، « وعن هذا الكتاب اقتبس لافونتين ما يقارب عشرين حكاية إلا أنه لم يأخذ سوى مادة موضوعاته ثم تصرف فيها حسب مقتضيات فنه».

ترك لافونتين اثنى عشر كتابا تحوى 243 حكاية شِعرية نُشرت بين الأعوام 1668 و1694. وقد ألّف لافونتين، الذى ألهمه مؤلفو الحكايات القديمة الكلاسيكية، وبالأخص حكايات إيسوب، قصصاً عن الحيوانات المتحدِّثة، تحكى كل رواية قصة نابضة بالحياة، تنتهى عادةً بعبرة أخلاقية. وتشمل العِبَر التى من بينها أن «القوة تصنع الحق» كما فى الذئب والحمل؛ وعبرة ترى الرجل الصغير فتزدريه كما فى الأسد والفأر؛ وعبرة فى التأنى السلامة كما فى السلحفاة والأرنب وحكمة من جدَّ وجَد كما فى سائق العربة العالق فى الوحل.

وصف لافونتين الأثر التعليمى لحكاياته فقال: أنا استخدِم الحيوانات لتعليم البشر، وذلك عبْر استخدام جميع نبرات الكلام وجميع المواقف، من أجل خَلْق كوميديا ضخمة من 100 فصل يكون مسرحها الكون.. لاقت الحكايات نجاحا كبيرا ومتواصلاً عندما نُشرتْ، وظلت إلى اليوم واحدة من أعظم كلاسيكيات الأدب الفرنسي. كما ألهمت حكايات لافونتين عدداً من التشكيليين العالميين مثل دومييه وشاجال.

كتب كثيرون عن لافونتين فى لغات شتى وحتى فى اللغة العربية، وترجمت خرافاته إلى لغات جمة، فهو يمثل أجمل تجليات الشعر الفرنسى فى ميدان الحكايات الخرافية التى تجرى خاصة على ألسنة الحيوانات. ويقال عنه إنه صنع ملحمة فرنسا الخرافية.

 وقد ذهبت بعض أبياته مضرب مثل أو تعبيراً شائعاً يستخدمه الفرنسيون فى حياتهم اليومية، كان لافونتين جريئاً فى نقد السلطات الدينية المسيحية فى عصره، عصر لويس الرابع عشر، الذى سمى «ملك الشمس»، واعترض على سيطرة الكنيسة وهاجم الكهنة وعظاتهم ورفض فكرة الخطيئة وفرض الاعتراف على مسمع الكاهن فى كرسى الاعتراف الشهيرة كاثوليكيًا.

 وانتهز لعبة القناع الحيوانى ليهاجم الزعماء والأثرياء ورجال الدين وحتى العلماء، ولم يوفر الفلاحين والعمال اليدويين.. عُرف شعره بدقة الملاحظة والوصف البارع والتخييل والترميز الذكى والحكمة واستخلاص العبرة أو الأمثولة التى تمثل غاية القصيدة عطفاً على جماليتها وطرافتها الحكائية.. وعمد إلى التلاعب بالأوزان الفرنسية مخضعاً إياها لمزاجه الإيقاعى والحكائى.

وربما يكون أفضل نقد لقصص لافونتين الخرافية هو ما قاله اللغوى والمستشرق الفرنسى سيلفستر دى ساسى عندما قال إن تأثير قصص لافونتين الخرافية يدخل السعادة على قلوب ثلاثة أجيال مختلفة: فالطفل يبتهج بالنضارة والحيوية التى تتميز بها القصة، أما دارس الأدب المتلهف فيجد فيها ضالته المنشودة من الأدب تام الكمال الذى يظهر فى طريقة السرد بينما يستمتع الرجل المجرب بما فيها من تأملات بارعة فى الشخصية الإنسانية وفى الحياة. وقد عرف لافونتين الحكاية بقوله:» الحكاية الخلقية على لسان الحيوان ذات جزأين، يمكن تسمية أحدهما: جسما، والآخر: روحا، فالجسم هو الحكاية، والروح هو المعنى الخلقي. ويحدد الدارسون أربعة مصادر رئيسة لحكايات الحيوان الجارية فى الأدب الأوروبى وهى المجموعة الخرافية الأوروبية الهندية، وخرافات أيسوبس، وحكايات هوراس، وحكايات فيدروس، كما ترجمت الآداب اللاتينية واليونانية وآل كل هذا التراث الضخم إلى لافونتين الذى قعد لهذا الفن وأمسى رائدة وكان من قواعده: «الحرص على التشابه بين الأشخاص الخيالية والأشخاص الحقيقية فى سياق الحكاية؛ فيختار الكاتب صفات أشخاصه الأولى بحيث تثير فى ذهن القارئ الشخصيات الثانية، فلا ينبغى أن يسترسل فى وصف الشخصيات الرمزية من الحيوانات وغيرها حتى ينسى القارئ صفات الشخصيات المرموز إليها من الناس، ولا ينسى الرموز فيتحدث عن الشخصيات المرموز إليها حتى يغفل القارئ عن الرموز التى هى وسائل الإثارة الفنية، بل يجب أن يختار خصائص الشخصيات الرمزية بحيث تكون كالقناع الشفاف تتراءى من ورائه الشخصيات الرمزية، كما راعى لافونتين تطور الشخصيات حسب الحدث، وقواعد التصوير الفنى أى دقة الوصف المتصل بالحدث.

جميل أن نستعيد الشاعر لافونتين فى الذكرى الأربعمئة لولادته من خلال ترجمة جبرا، مع أن آخرين ترجموا أيضاً هذه «الحكايات» وفى طليعتهم الكاتب المصرى محمد جلال عثمان، وحملت مختاراته عنواناً كلاسيكياً هو «العيون اليواقظ فى الأمثال والمواعظ» وصدرت عام 1885 ولم تلق ترحاباً فى النقد والصحافة، بل إن بعضهم استهجن هذه الترجمة والغاية التى تسعى إليها.

 وما تجدر الإشارة إليه هنا أن «أمير الشعراء» أحمد شوقى كان اقتبس أو استوحى بعض قصائد لافونتين ولكن بحرية تامة، ويقال إنه اطلع عليها من خلال ترجمات عثمان، علماً بأنه أقام فى باريس خلال منفاه المرفه واطلع قليلاً على الشعر الفرنسى القديم، وأهمل الجديد كل الإهمال. وتعود إلى الذاكرة هنا قصيدة «الديك والثعلب» التى استقاها من لافونتين وحفظها تلامذة المدارس فى مصر وبعض الدول العربية، ويقول مطلعها الطريف جداً: «برز الثعلب يوماً/ فى ثياب الواعظينا»... وردت هذه القصيدة فى المجموعة التى خص شوقى الأطفال بها وباتت قراءتها نادرة اليوم. لكن شوقى ما لبث أن كف عن اقتباس لافونتين وراح يكتب على سجيته قصائد تحضر فيها الحيوانات. ومن مترجمى مختارات من «حكايات» لافونتين سامى قباوة (دار المؤلف) وجورج أبى صالح فى ترجمة منظومة، وزناً وقافية، مع النص الفرنسى. 

ولكن هل تأثر أحمد شوقى بحكايات لافونتين؟.. يصدر شوقى ديوانه الشوقيات فى جزئه الأول بقوله: « وجربت خاطرى فى نظم الحكايات على أسلوب (لافونتين) الشهير وفى هذه المجموعة شيء من ذلك فكنت إذا فرغت من وضع أسطورتين أو ثلاث أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئا منها فيفهمونه لأول وهلة ويأنسون إليه ويضحكون من أكثره وأنا أستبشر لذلك»، فقوله: (أسلوب لافونتين) أى فنه الذى اشتهر به فيحاكى الطريقة والقالب أى أنه فى محاكاته «لم يكن مترجما لحكايات لافونتين كما يدعى بعض النقاد بل أضاف عليها من وحى شاعريته، وفيض عبقريته، ورؤيته الشعرية، وشخصيته الرقيقة القريبة إلى عالم البراءة والجمال»، كما أن هذا النداء والنزوع الشعرى جاء فى مرحلة تحديث الشعر العربى وقد وجد أدباء العرب فى محاكاة الأجناس الأدبية الأوروبية عصرنة لأدبهم الذى أخذته قرون عقم وجمود، فالصلة إذن بين حكايات شوقى وخرافات لافونتين تكون فقط من جهة إعدادها إعدادا تعليميا، فالحديث عن تأثر شوقى بلافونتين يجب ألا يتجاوز مضمون هذه الحكايات، بالإضافة إلى ذلك أن صورة الحيوانات فى نصوص شوقى ودلالاتها الرمزية وإيحاءاتها لا تتجاوز الصورة التى احتفظت بها الخرافات والأساطير والأمثال الشعبية قديما وحديثا، شرقا وغربا بما لا يميز صورته فى الشوقيات بطابع خاص، ولا يهون السبيل إلى مصدر له معين إلا أن نقول مصدر شوقى فى ذلك التراث الإنسانى العام، كما أن فى الحكايات التى نظمها شوقى حس قرآنى دافق على نواح متنوعة منها سواء من جهة اللغة.