الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

كيف يمكن أن يقضى تجديد الخطاب الدينى على التطرف العنيف ؟

صفحة أسبوعية يقدمها: سعيــد شعيــب



 لقد عاد سؤال الإصلاح الدينى الإسلامى يفرض نفسه بقوة مع تصاعد خطر التنظيمات الإسلامية المسلحة مثل “داعش” و”القاعدة”، وجنوح جماعات الإسلام السياسـي، مثل: جماعة الإخوان المسلمين، وتنويعاتها المختلفة فى العالم العربي، إلى تبنّى الخطاب المتشدد بل التحريض على ممارسة العنف وتسويغه فى سياق الصراعات السياسية مع الدول العربية. وعلى الرغم من حقيقة تأثير الخطاب الإصلاحى فى مكافحة التطرف، وضرورة إدماجه فى سياسات الدول والأطراف المعنية بهذه القضية، فإن العلاقة بين الإصلاح ومكافحة التطرف ليست خطية أو مباشرة، حيث ينبغى أخذ حقائق عدة فى الاعتبار كى لا تتحول “سياسات الإصلاح الدينـي” إلى ذريعة تستغلها جماعات الإسلام السياسـى المتطرفة.

يشير مفهوم التجديد ضمناً إلى أن هناك علاقة تفاعلية بين هذه الأطر والمجتمعات الإسلامية، حيث تتطور مقتضيات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فى هذه المجتمعات بما يتطلب إعادة النظر فى الأصول المؤسسة للتشريع الإسلامى أو إماطة اللثام عن اجتهادات سابقة أزيحت بفعل سيادة تفسيرات بعينها. وبالتالي، يقترن التجديد بالاجتهاد باعتباره أحد مصادر التشريع، سواء كان فردياً أم جماعياً تقوم به “جماعة العلماء” أو “الفقهاء”.

بهذا المعنى، استمر تجديد الفكر الدينى فى الإسلام منذ نشأته وانتشاره فى سياقات حضارية واجتماعية متنوعة. إلا أنه ارتبط بأصول الإسلام نفسه دون أن ينشغل بالآخر؛ حيث غالباً ما ولد التجديد الفقهى والشرعى فى إطار تاريخى يحقق غلبة للمسلمين على مَنْ سواهم. وبالتالي، لم تضطر هذه الاجتهادات الفقهية إلى استعارة موقف الآخر الدينى أو الحضارى أو إعادة رؤية الإسلام بناء على الصراع مع الغرب، فى فترة الحروب الصليبية أو الصراع العثمانى أو الأوروبى لاحقاً.

أما الإصلاح، فهو يشير إلى هذه الاستعارة والتفاعل بين الفكر الدينى الإسلامى وذلك الغربى المسيحي. تاريخياً، يشير مفهوم الإصلاح الدينـى إلى عملية الانشقاق التـى حدثت فى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية مع بداية القرن السادس عشر، ونتج عنها ميلاد البروتستانتية على يد مارتن لوثر وجان كالفين فى وسط أوروبا. لقد كان لمفهوم الدين بصيغته الدينية البروتستانتية/ الإصلاحية تأثير واسع على رؤية العالم الغربى لمفهوم الدين وعلاقته بالاجتماع. وهو المفهوم نفسه الذى شكّل رؤية العالم الغربى خاصة الأنجلوساكسونى ودوائره الاستشراقية للإسلام إبان تصاعد حركة الاستعمار. 

شكّلت تلك الدعاوى المطالبة بـ“إصلاح الإسلام” والتـى اقترنت بتصاعد المد الاستعمارى فى العالمين العربى والإسلامي، على نحو عكس الفجوة الحضارية التـى اتسعت بين الغرب والإسلام فيما كان يرزح العالم الإسلامى تحت نير الحكم العثمانى الرجعي، شكّلت تحدياً أمام النخب الإسلامية وجلها، فى سياق القرن التاسع عشر، فى العلماء. وفى هذا الإطار ظهر “الإحياء الإسلامي” فى محاولة للتركيز على تقاليد “التجديد” الدينى الذى خبت بفعل تراجع الاجتهاد وتصلب المؤسسات الدينية والسياسية، وإيجاد صيغ للتعايش بين الإسلام “والتحديث” القائم على إبراز التقاليد العقلية والفلسفية الأصيلة أو إدماجها مع التقاليد الحديثة. واستهدفت حركات الإحياء التـى قامت على أعتاق مجتهدين، مثل: محمد عبده فى مصر، وسيد أحمد خان فى الهند، والسيد جمال الدين الأفغاني، وخير الدين التونسـي، وعبد الحميد بن باديس وغيرهم، تمكين المجتمعات الإسلامية من الأدوات الضرورية لمواجهة الاستعمار الغربى وإعادة تأسيس ذاتها على أسس قوية.

وغالباً ما يتوارى مفهوم “الإحياء الإسلامي” بسبب ظهوره فى فترة تاريخية معينة انقضت آثارها حالياً، فيما يبرز مفهوما “التجديد” و”الإصلاح” باعتبارهما صنوان، على اختلاف الافتراضات المؤسسة لكل منهما.

 نجحت حركة الإحياء الإسلامى فى القرن التاسع عشر فى إبراز ضرورة “الإصلاح” بأشكاله المختلفة عبر أقطار العالم الإسلامي. إلا أنها أخفقت فى تحقيق هدفها الرئيس وهو الحؤول دون وقوع العالم الإسلامى فى براثن الاستعمار الغربي. وعلى الرغم من قوة أفكارها، فإنها ظلت حبيسة نخب ثقافية ضيقة، ولم تفلح فى تغيير البنية الثقافية لمعظم المجتمعات العربية وهو ما تطلب تدخلاً مباشراً من السلطات الاستعمارية أو سلطات الدول القائمة، فى شكل التحديث من أعلى.

كان هذا الإخفاق إيذاناً بظهور الإسلام السياسـى كرد فعل متطرف على تدهور العالم الإسلامي. وحاول أيديولوجيو جماعات الإسلام السياسـي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، تقديم أنفسهم باعتبارهم امتداداً طبيعياً لحركة الإحياء. ويستند هذا الادعاء على تأثر مؤسسى هذه الجماعات بفكر الإحياء والتأكيد على الظهور التاريخى لجماعات هذا التيار باعتبارها رداً على الاستعمار الغربي، أو بسبب وجود صلة مباشرة بين مؤسس جماعة الإخوان حسن البنّا، والسيد رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده.

بيد أن هذه الادعاءات لا تعتمد على أساس تاريخى أو فكري، وإن كان يقبلها العديد من نقاد الإسلام السياسـى فى العالم الغربى وغيره. ويمكن القول إن هناك مفارقات بين الإسلام السياسـى ومفهومى الإصلاح والأحياء. يمكن توضيحها على النحو التالي:

ارتكزت حركة الإحياء الإسلامى على إعادة مفاهيم التجديد الدينى والاجتهاد الفقهي، فى الوقت الذى استندت فيه حركات الإسلام السياسـى على إعادة “الخلافة” و”العصر الذهبى للإسلام” باعتبارها السبيل الوحيد أمام المجتمعات الإسلامية لمواجهة الغرب.

كان مفهوم رواد الإحياء الإسلامى عن “الإصلاح” واسعاً بحيث شمل أفكاراً عن التعليم والاقتصاد والاجتماع ووضع المرأة، فضلاً عن التشريع والأخلاق العامة، والبنية السياسية للمجتمعات الإسلامية، فيما ترتكز أيديولوجيا الإسلام السياسـي، ربما بشكل مبالغ فيه، على “الدولة” و”السياسة” باعتبارهما الساحة الأساسية للإصلاح. وعلى الرغم من تأكيد هذه الحركات على “شمولية الإسلام” أى قدرته على تنظيم جوانب الحياة كافة، فإن انشغالها بالسياسة أدى إلى اختزال الإسلام فى جوانب سياسية ضيقة، واختزال الحاجة إلى الإصلاح إلى صراع سياسـى دائم. وبالطبع كان الدين هو المحور والأداة الأساسية فى هذا الصراع.

كان سؤال علاقة الإسلام بالحداثة والتحديث، وبالتالى الحضارة الغربية، مركزياً فى خطاب حركات الإحياء الإسلامي. وخلصت أغلب الجهود الفكرية للرواد الإصلاحيين إلى الفصل بين الغرب ككيان استعمارى والحداثة كفكر حضاري. وأظهر الرواد الإصلاحيون فى معظمهم تجاوباً فى التعاطى مع القيم الحضارية الغربية، خاصة مركزية العقل والحرية، وربطها بالإسلام، فى الوقت الذى ناهضوا فيه التمدد الاستعماري.

أما الإسلام السياسـى فقد بنـى موقفاً مرتبكاً أمام قضية الحداثة. يرى بعضهم أن تنظيمات هذا التيار لا يمكن قراءتها بعيداً عن التأثر بالفكر الحداثي؛ حيث التشابه بين بنيتها التنظيمية والتنظيمات السرية والاشتراكية التـى سادت فى أوروبا فى مطلع القرن العشرين. كما أن هذه التنظيمات قد بنت قاعدتها الاجتماعية فى تضاد مع البنية التقليدية للمجتمعات وراحت تؤسس لشرعية دينية مناهضة لمعاهد العلم الدينـى التقليدية فى العالم الإسلامي. وعلى الرغم من أن بعض هذه التنظيمات يدّعى احتضانه للحداثة الغربية التـى لا تتناقض مع الشريعة، فإن الموقف الأصلى لها يؤكد رفض الحداثة وكون الإسلام بديلاً على نحو أقرب إلى “المفاصلة” كما يتضح مثلاً فى أعمال سيد قطب الذى أسس لمرحلة جديدة من الراديكالية الدينية بداية من سبعينيات القرن العشرين. هذه الموجة الراديكالية اندمجت مع تيار السلفية الجهادية الذى أسس لحالة العنف التـى يعيشها العالم الإسلامى والغرب منذ عقود.

 بعد العديد من الهجمات الإرهابية التـى تعرضت لها فرنسا، مثل شارلى إيبدو ومقتل المدرس صامويل باتى على يد لاجئ مسلم، والهجمات بالشاحنات فى نيس وعلى الكنائس، أعلن الرئيس الفرنسـى إيمانويل ماكرون أن بلاده بصدد إصدار تشريع شامل يكافح “الانفصالية الإسلاموية” أى تلك النزعة الإسلاموية المتنامية بقيادة الجماعات المتطرفة داخل الجالية الإسلامية فى فرنسا التـى تعد الأكبر فى غرب أوروبا (على الأقل ٩٪ من سكان فرنسا من أصول عربية أو إسلامية).

يتضمن هذا القانون الذى أطلق عليه أيضاً “إسلام التنوير” مكافحة التعليم الخاص والمنزلى الذى قد يبث أفكاراً متطرفة، ومنع الأئمة المدربين فى الخارج من الخطابة وإمامة الجوامع الفرنسية، وإطلاق برامج تدريب للأئمة الفرنسيين على قيم التنوير الأوروبي، وكذلك التأكيد على إرث التنوير فى الإسلام الذى يمثله فلاسفة مثل أبى الوليد بن رشد فى القرن الثانى عشر، وعبدالرحمن بن خلدون. ويستهدف القانون بناء إسلام يتوافق مع “التنوير”. وتمثل هذه السياسة الفرنسية لوناً من دعاوى الإصلاح الدينى الحالية التـى تفترض أن بناء إسلام تنويرى سيوفر مناعة حقيقية ضد التطرف الذى قد يتحول إلى أعمال عنف وإرهاب.

بعض الاتجاهات الداعية إلى الإصلاح تسعى إلى بناء “إسلام ليبرالي” قادر على التوافق مع القيم الديمقراطية والليبرالية الغربية، سواء بالتركيز على قيم الانفتاح والتسامح والحرية الدينية التى تؤكد عليها بعض النصوص الدينية والتجارب التاريخية، أو بإعادة تفسير الدين فى ضوء افتراضات الفلسفة الليبرالية الغربية القائمة على حقوق الإنسان والفردانية وتقديس الحريات الشخصية. وبالطبع هى قيم مضادة لتلك التـى تحاول الجماعات المتطرفة إشاعتها بالتحريض أو العنف. 

إلا أن تعريف الإسلامى الليبرالى يبقى أمراً غير ممكن الاتفاق عليه، حتى بين دعاته؛ حيث يرتبط التعريف دائماً بحديث عن القيم الإنسانية المشتركة والتعددية والإيمان بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهى ممارسات يمكن رصدها لكنها لا تجيب فعلاً عن ماهية “الإسلام الليبرالي” فضلاً عن الإشكالات الفقهية واللاهوتية التـى قد يثيرها فى سياق غير السياق الغربي.

صاحَب هذا الغموض ظهور تيار “إصلاح” آخر وهو “الإسلام التقدمي”. هنا تبرز التقدمية كنقيض للرجعية الأصولية التـى تتبنّاها التيارات المتطرفة. ولا يختلف هذا الخطاب كثيراً عن خطاب الإسلام الليبرالي، إلا أنها أكثر تركيزاً على القضايا التـى تتماس مع التيارات الليبرالية واليسارية خاصة فى سياق الولايات المتحدة. تتمثل هذه القضايا فى مسائل النوع الاجتماعي، والنسوية، والجنسانية فى الإسلام، والقضايا العرقية. يدعو بعض دعاة هذا التيار فى الغرب إلى إعادة تأويل الإسلام بشكل راديكالى كى ينتج سردية قائمة على إبراز مركزية دور المرأة على مستويات مختلفة فقهية واجتماعية وربما لاهوتية؛ أو أن يتم تأويل الإسلام على نحو يتماس مع تعددية التوجهات الجنسية فى المجتمع أو غير ذلك من قراءات نقدية. قد تجد مثل هذه القراءات صدى فى المجتمعات الإسلامية المعاصرة، إلا أنها تبقى وليدة بيئة غربية محكومة بصراع أبدى بين التقدمية والمحافظة.

من المؤكد أن نشر الآراء الفقهية الصحيحة وقيم التسامح والتعددية وقبول الآخر سواء من خلال قنوات دينية أو تعليمية أو تثقيفية له دور فى بناء سردية مقاومة للنزوع نحو التطرف والراديكالية، إلا أنه من الضرورى عند التفكير فى كيفية بناء هذه السردية الإصلاحية، الأخذ فى الاعتبار الحقائق التالية:

1- إن الأفكار الإصلاحية أو “التقدمية” أو “الليبرالية” لا تضمن فى حد ذاتها مكافحة التطرف. ففرض هذه الأفكار من قبل سلطة ما، كما فى حالة دعاوى الإصلاح المرعى من قِبل الدولة أو السلطة السياسية قد يؤدى إلى تطرف مضاد أو قمع لبعض الأفكار بدعوى كونها رجعية أو غير تقدمية. 

2- إن فرض الأطر الدينية من قِبل الدولة قد يؤدى إلى انحسار الحالة الدينية “المتطرفة” على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل غالباً ما تعود التيارات الدينية بشكل أكثر قوة وراديكالية. الحالة الأبرز فى هذا السياق هو مآل الحالة الدينية فى تركيا بعد عقود من السياسات القومية العلمانية التـى تبنّتها الدولة التركية الحديثة بعد القضاء على السلطنة العثمانية ومعها مراسيم الخلافة الإسلامية. 

بناء على هذه الحقائق، نجد أن فاعلية خطاب الإصلاح الدينى فى مواجهة التطرف يمكن أن تتحقق من خلال المبادئ العامة التالية:

الإصلاح فى نطاق اجتماعى أوسع: تشير الخبرات التاريخية سواء فى الحضارة الإسلامية أو الغرب إلى أن المجتمعات الأكثر انفتاحاً وحرية تميل إلى تبنّى تفسيرات أكثر تقدمية وتعددية للدين والنصوص المقدسة، وليس العكس. وبالتالي، عند الحديث عن الإصلاح، يمكن أن نستلهم تجربة الإحياء الإسلامى المشار إليه سابقاً والتـى كانت تدرك أن إصلاح الفقه والتشريع لن يتأتى إلا بمشروع اجتماعى وسياسـى أوسع من مجرد تنقيح النصوص أو التركيز على بعض الآراء الفقهية التقدمية، أو التأكيد الخطابى على علاقة الإسلام بالتسامح والانفتاح واحترام الآخر. الإصلاح الأرسخ قدماً هو ما قام على قاعدة اجتماعية واقتصادية أكثر تقدمية وانفتاحاً، بحيث يكون المجتمع كله أكثر صلابة وقدرة على التصدى لأى تفسيرات شاذة أو آراء متطرفة.

حسم علاقة الدين بالسلطة: كان الدين وما زال هو المساحة الأكبر المتنازع عليها بين الدولة العربية الحديثة والجماعات الإسلاموية المتطرفة. ادّعت الأخيرة أحقيتها بالحديث عن الدين وفرض نسخة معينة منه على المجتمع، فيما استندت كثير من الدول العربية على “الشرعية الدينية” أو على الأقل تبنّى خطاب دينى موائم لتوجهاتها. تكمن أحد مكونات الإصلاح الدينى إعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسلطة؛ بحيث لا تكتسب “المؤسسات الدينية” سلطة فرض آراء بعينها على المجتمع، أو بالأحرى تتخلى عن احتكار تفسير الدين الصحيح، ولا أن يكون الدين ساحة لاستغلال السلطات السياسية أو غيرها. لا يعنى هذا الفصل النظرى للدين عن الدولة، فهذا غير ممكن على مستوى السياسة العملية، حتى فى أعتى الدول علمانية، ولكن خلق مساحة حرة لآراء وأفكار متباينة ومتعددة تساعد المجتمع على حل أزماته. يكفل هذا دحض دعاوى المتطرفين التـى تقوم على ضرورة “إنقاذ” الدين من براثن التغريب والعلمانية.

محمد العربى -  مركز تريندس