الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

محطات من حياة الروائى اللبنانى الراحل جبور الدويهى

فجع الوسط الثقافى العربى بوفاة الروائى اللبنانى جبور الدويهى بعد صراع مع المرض،  وهو صاحب الإنتاج المتميز وكان الدويهى يحمل إجازة فى الأدب الفرنسى من كلية التربية فى بيروت، ودكتوراه فى الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة (السوربون الجديدة).



أما أولى رواياته، «اعتدال الخريف» 1995، فكانت مسرحًا يحمل العديد من الشخصيات الواقعية، اعتمد فى بنائها على الكاريزما الواقعية من المحيط الاجتماعي، بينما يعيش العم منصور مهووسًا بالخسارات والكمائن والخوف من الناس وبيته الذى لم يكن بباب وحيد، ودومًا يتعامل مع الحدث بالمزيد من الحرص الأمنى.

ونال عددا من الجوائز الأدبية المرموقة، من بينها جائزة سعيد عقل 2015 عن روايته «حى الأميركان»، وجائزة الأدب العربى عام 2013 عن روايته «شريد المنازل»، التى رشحت أيضا ضمن «القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية» عام 2012.

كذلك وصلت «مطر حزيران» (2006) التى تُرجمت إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية، إلى القائمة القصيرة للجائزة نفسها عام 2008، واختيرت ضمن اللائحة القصيرة لجائزة «بوكر» للرواية العربية.

وفى رواية ”شريد المنازل“ اشتغل الدويهى على ثنائيات أزلية تخص الإنسان، حيث الحزن والسعادة، والحب والحرب، والوطنية والطائفية، والوعى والتعصب، والتشرد والانتماء.

وفى هذه السردية يوغل الدويهى بتفاصيل حياة طفل ينشأ فى غير عائلته التى تخلت عنه، وفيما بعد تتطور الشخصية، لتخضع لاختبارات الهوية والانتماء والتعصب والمشاركة الاجتماعية، إخفاقات عديدة تمر بها شخصيات الدويهى فى هذا العمل الذى أراد من خلاله تنقية فكرة الهوية، وإعادة ترسيخ الانتماء للبنان لا الطائفة أو الحزب أو القائد، تلك الأفكار التى جعلت من الوطن اللبنانى خرابًا لوقت طويل.

ومن خلال شخصية إسماعيل فى رواية «حى الأمريكان» العام 2014، خاض الدويهى تجربة أكثر عمومية من خلال فضح ممارسات التطرف فى الوطن العربي، ناقلًا حقبة من الزمن تنم عن فراغ المجتمع العربى من الحرية الشخصية، ووسطية القالب الدينى.

وهذا العمل يصور البيئة التى يخرج من خلالها المتطرف للقتال وإسباغ الدموية والموت على المشهد بعموميته، فنجد شخصية «إسماعيل محسن» ابن حى الأمريكان ركيزة العمل، الذى يسقط فى حفرة الإرهاب من خلال تجنيده للعمليات الإرهابية فى العراق، ويصبح من بعدها ملاحقًا من ذاته أولًا، شاردًا، متخفيًا خلف عنفه ونظرته الضيقة إلى المجتمع.

لكن اللحظة الانقلابية التى تحمل المفارقة والتحول، كانت برجوعه عن قراره تفجير نفسه فى حافلة، لأجل وجود طفل يشبه أخاه، وبدلًا من تفجير الرصاص، يبدأ بافتعال حركات لإضحاك الطفل.. هذه الصورة القطبية بين الضحك والموت صنعها الدويهي، بمشهد مكثف حول صراع الهوية للشاب العربى.

ونعى عدد من أهل الأدب الراحل، من بينهم الروائى والناقد والكاتب المسرحى اللبنانى إلياس خوري، الذى كتب أن الدويهى «يعانق أمطاره الداخلية ويمضى تاركا إرثا أدبيا ونضاليا كبيرا»

أما الكاتبة اللبنانية سوسن الأبطح فترى أن شخصية الروائى الراحل جبور الدويهى البعيدة عن الاستعراضية، أبقت حميمياته متوارية عن عيون القراء، ممارسته الكتابة بخفر من دون كثير جلبة، جعلت رواياته هى المتداولة فيما بقيت المقابلات معه قليلة، وبوجه شحيح. لكن لجبور شخصية تستحق أن تروى، هو فى حياته كما فى كتاباته له مسار متشعب ومركّب يشبه لبنان نفسه. مما لا نعرفه عن جبور حبه للسينما وعلاقته بالمسرح وتعلقه بالتصوير الفوتوغرافى، قبل أن يصبح روائيًا، ثم لجوئه للصور كمصدر بحثى فى كتابة رواياته، وأشياء كثيرة أخرى تكشف للمرة الأولى. بدأت علاقته بالأدب باكرًا من المرحلة الثانوية، حيث عكف على قراءة نهمة لكبار الأدباء، مثل دوستويفسكي، بلزاك وفوكنر، وتشارلز ديكنز، عدا الروائيين العرب. كتب النقد الصحافى فى مجلة «لوريان لكسبرس» الصادرة بالفرنسية وفى ملحق صحيفة «لوريان لوجور» الأدبي، وبقى حلم الرواية يراوده على أن أقدم، لحسن حظ قرائه، واتخذ المبادرة. ورغم تعدد موضوعاته، إلا أن روايات جبور دويهي، هى حكاية الصراعات اللبنانية التى لا تنتهى، إذ بقيت الحرب الأهلية اللعينة، فى عمق وجدانه، والبحث عن مخرج يؤرقه.

فى مطلع شبابه، فى ستينات القرن الماضى، انضم جبور الدويهى إلى «حركة الشباب الزغرتاوى»، حركة يسارية شيوعية ملتزمة بالنضال الفلسطيني، تطالب بحقوق اجتماعية. ثم ذهب طالبًا جامعيًا إلى بيروت كما بقية رفاقه فى الحركة، انضم إلى الحزب الشيوعى اللبناني، وحلم كما أبناء جيله بالعدالة والتغيير. ثم سافر إلى فرنسا ونال شهادة الدكتوراه، وحين عاد كانت الحرب الأهلية فى انتظاره.

ذلك لم يمنعه من الانخراط فى المسرح. أسس مع سيمون قندلفت وجان هاشم، ومثقفين آخرين «فرقة الديوان» المسرحية فى زغرتا. قدموا أربع مسرحيات «مهاجر بريسبان» و«حكاية فاسكو» لجورج شحاده، «عرس الدم» للوركا و«الملك يموت» ليوجين يونيسكو. شارك جبور بحرارة فى هذه التجربة مترجمًا من الفرنسية إلى العامية اللبنانية وممثل عرف تجربة الوقوف على الخشبة. وقعت «مجزرة البحصاص» فى طرابلس عام 1983 التى راح ضحيتها عدد من الشبان الزغرتاويين، بينهم الدينامو الفنى للفرقة بيار فرشخ، لينتهى الحلم المسرحي. «هذا ما يفسر وجود شيء من روح المسرح فى روايات جبور، بقى المسرح حاضرًا فى أعماله، ولم يغب أبدًا.

بدأ جبور الدويهى الكتابة بالفرنسية، وبقى يكتب بها مقالاته الصحافية التى ثابر عليها. لكنه لحظ أن مواضيع روايته، يعبر عنها أفضل باللغة العربية، لأنها تحكى قصصًا محلية. تطورت جملته، واشتغل على أسلوبه. بدأ بـ«اعتدال الخريف»، التى تنقل جانبًا من نشأته الأولى. هى أشبه بأوتوبورتريه. «مطر حزيران» جاءت أطول، وفيها نفس ملحمي. لم تكن عربية جبور ضعيفة يومًا. كان فى الأصل قادرًا على الكتابة باللغتين. حين يعرض نصوصه على أصدقائه قبل النشر، على جرى عادته، يأخذ عليه بعضهم تلك التراكيب اللغوية التى تسربت إلى أسلوبه من الفرنسية.

وتضيف الأبطح: من يعرف جبور الدويهى، يدرك أنه هو نفسه شخصية روائية تستحق أن تروى، بمثابرته، وبتناقضاته التى تجمع بين الهدوء الظاهرى والغليان الداخلي، بين قدرته على التوغل فى حكايا أبعد من الجغرافيا، مع بقائه فى أمكنة محدودة. هو الأستاذ الجامعى الذى قضى عمره فى تدريس طلابه الأدب الفرنسى فى الثانويات والجامعة اللبنانية، ليصبح بعد ذلك اسمًا روائيًا بارزًا فى الأدب العربى بفضل لغته التى اشتغل على تثقيفها وتطويعها، وأسلوبه الوصفى الذى يشبه عمل نساج لا يمل ولا يتعب هو صاحب الرأى السياسى الحاد والصريح الذى لا لبس فيه، لكنه يكتب فى رواياته ما هو أبعد من حدود اللحظة الآنية والتباساتها وغموض حساباتها. تلك حنكة تحسب له وهو من جيل عاش الحرب الأهلية وعرف مرارتها وتقلب قادتها، وضحاياها الكثر وهم يسقطون بالمجان. فى كل رواياته بقى جبور الدويهى مشغولًا بالصراعات البائسة التى عرفها عن كثب فى بلدته زغرتا قبل أى شىء، ولم يكن ما حدث فى لبنان والمنطقة إلا ما يشبهها. يقول: «أنا من بلدة أصيلة لا عمر لها. وليس فى ذاكرة أهلى أى ترحال سوى نزوحهم الشتوى إلى بلدة لهم فى السهل، تطل بحياء على البحر»، ويصف أهالى منطقته قائلًا «كأنهم نبتوا هنا مستظلين السماء وبشجر الجوز على كتف وادٍ سحيق يسكنه الضباب». والأهم أنهم «يتوارثون الأرض ويتنازعون عليها بقساوة وطول أناة، لا يأتمنون الكتب على تاريخهم، لأن تفاصيل القرون الغابرة لا تزال شاخصة فى حياتهم. يخبرون قصصهم منذ ألف من السنين، يحفظونها عن ظهر قلب، ويوم يكتبونها تكون بداية نهايتهم.