الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

د. محمد سليم شوشه يكتب لـ«روزاليوسف»: اللوكاندة شعرية سرد التوتر والقلق والمفارقات

رواية اللوكاندة للأديب المصرى ناصر عراق الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة مؤخرا 2020 هى واحدة من الروايات المهمة الصادرة مؤخرا والحافلة بالجماليات، وتمثل وحدة من وحدات المشروع السردى الممتد لناصر عراق الذى يبدو واضحا جدا أن خطابه السردى ومشروعه الممتد المتجسد فيه ينحت فى مسار خاص به له أبعاده الفكرية كما له جمالياته الخاصة وقدراته السردية التى تؤكد قدر تميزه وقدر ما يحقق عبر الخطاب السردى من طاقات بحثية ومساءلة للتاريخ المصرى وممارسة تأملات واستفسارات عديدة وطرح العديد من الأفكار والأسئلة حول مصير الإنسان المصرى عبر المراحل التاريخية العديدة وبخاصة الفترة الخاصة بحكم أسرة محمد على وهى الفترة التى لا تمثل رواية اللوكاندة الرواية الأولى فيها، بل هى حقبة ذات اهتمام خاص لديه وأصدر عنها عدد من الروايات أبرزها الأزبكية وهذه التى نحن بصددها الآن. 



الحقيقة إن خطابه السردى بصفة عامة يؤشر نحو قدرات خاصة ويدل على أنه يملك عديد الجماليات، ويعمد إلى نوع من السرد الروائى الذى يقدم أكبر قدر من الإفادة من فن السينما وقدراته، فتنظيم الخطاب السردى واستراتيجيته التى ينبنى وفقها هى استراتيجية مشهدية سينمائية بتميز كبير فى الأداء والتنفيذ على أكثر من مستوى من التقنيات السردية التى يمكن رصدها، منها ما يخص الزمن وحركته ومنها ما يخص النقلات بين المشاهد والتنقل بين الخطوط الدرامية والحكايات الفرعية والنقلات بين الأماكن ومنها ما يخص تشكيل الحركة ورصدها وتقاطعات الخطوط ورصد أشياء المكان ووصفها فى امتزاج مع الحركة وغيرها الكثير من التقنيات السردية التى هى ثمرة الوعى الكبير بالفن السينمائى وتشكيل المشهد أو بنائه، وكيفية عمل حال من الإرجاء لبعض العناصر أو تأخيرها لأجل التشويق، وكيف يمكن حساب المواضع التى تلتقى فيها الخطوط الدرامية وتتقاطع الرغبات وكيفية صنع العوامل أو النماذج الفاعلة فى بنية الحكاية من الأساس.

تشكيل الخطاب الروائى وبناؤه وفق أحدث تصورات الدرس النقدى تنقسم إلى قسمين، بنية الحكاية ثم خطابها السردى، فالأول هو الحكاية بشكلها المجرد من صراع لأطراف أو لعناصر وعوامل وشخصيات ورغبات فى مكان مشترك أو فى ساحة مشتركة أو فى تقاطع ومساحة تجمعهم، كنوع من تعارض المصالح بين طرفين أو أكثر، فهذا الشكل من بنية الحكاية قبل تحويلها إلى خطاب سردى هو بالأساس يتكون فى عقل الكاتب/منشئ الخطاب السردى قبل عمليات الكتابة أى قبل أن يتجسد فى خطاب سردى، وهذا الشكل لبناء الحكاية تعد دراسته مهمة لأنه كاشف عن عقل الكاتب وعن طرائقه فى إنشاء الصراع أو الأطراف التى يقوم عليها العالم السردى لديه.. ثم المرحلة الثانية وهى تحويل هذه الحكاية إلى خطاب سردى عبر تقنيات معينة تجعل تلك الحكاية بكافة أطرافها وعناصرها تبدو مستثمرة لكافة قدراتها حتى تتجلى بأشكال جمالية أو لتبدو فى أقصى درجات التشويق.

رواية اللوكاندة هى واحدة من النماذج المثالية فيما يخص بنية الحكاية وتشكيل الأطراف التى يقوم عليها العالم الروائى، أو نموذج الفواعل والعوامل، بحسب السيميائية السردية وتحديدا نموذج جريماس فى مربعه السيميائى الشهير، فبنية الحكاية أو العالم الذى تقوم عليه الرواية يتشكل من صراع هو بذاته طريف وفيه مفارقة كلية مبدئية لا تتجلى بشكل سافر أو مباشر، حيث إن الصراع يقوم بين طرفين أساسيين هما الوالى عباس حلمى الأول حاكم مصر وشاب مصرى نحيل وفقير ولا حيلة له ولا قوة إلا حبه للحياة وهو عليوة أبو زهرة، هذا الصراع الذى يكاد يكون عداءً شخصيًا بين الوالى وذلك الشاب وتعرف به مصر كلها، هو قوام تلك الرواية التى تبلغ حدا بعيدا من التشويق.

من هذه المعادلة الكبيرة لطرفى الصراع تتشقق أدوار وظيفية مساعدة أخرى كثيرة فى الرواية، كلها على قدر من الأهمية، فيبدو لدينا فى النهاية أن كل شخصية لها دور وظيفى محسوب بدقة، ونضرب مثلا بشخصيتى والد عليوة وأخيه غباشى، وهما شخصيتان رغم كونهما أحياء طوال مدة الرواية أو من المفترض أنهما كذلك حسب معلومات عليوة، فهما لا تحضران إلا من خلال وجدان عليوة ولا دور وظيفى مباشر لهما أو تجلٍ فى عالم الرواية إلا عبر التهيؤات وأحلام وتخيلات وحسابات عليوة وكونهما أهم مَن تبقى له من عائلته، فيشتاق لهما أو يخاف عليهما إن عرفا بمصيره أو يتخيل وقع أخباره عليهما وهكذا.

أما الشخصيات الحاضرة دائما فى فضاء الحكاية فلها أدوار مهمة حتى وإن كانت هامشية وعابرة مثل بعض شخصيات المقهى المواجه للوكاندة أو شخصية نبوية أو الشيخ زغلول أو حودة صبى المقهى، فهنا نشعر أن التقنية السينمائية قد أدت دورها بدقة قبل البدء فى تنفيذ الخطاب السردى وكتابة الرواية، فلم تعط أى شخصية مساحة وحضورا فى المشهد إلا إذا كان لها دور وظيفى مهم وقيمة دلالية مهمة عبر هذا الحضور. 

بعض الشخصيات الفرعية بشكل خاص تؤشر نحو الحالة الشعبية العامة، وتشكل خلفية عريضة للمصريين فى تلك الفترة الصعبة وكيف أنهم عانوا من الجباية وسوء الأحوال الاقتصادية وأن العامة من الشعب برغم الفقر كانوا على قدر كبير من عزة النفس والكبرياء وكانت قوتهم عظيمة بداخلهم مهما بدا مظهرهم مترديا، وهذا ما يتجلى فى أكثر من شخصية مثل نبوية بائعة الفطير والجبن والعسل أو بائعة الفجل والجرجير فى سوق الغورية، وكذلك فردوس العاهرة الشخصية الأكثر أهمية ومساحة منهما وهى التى كانت فى جوهرها أكثر شرفًا من كثير من الرجال، ونرى كيف يكون لديها موقف من الظلم ومما يثار فى البلد من قضايا وكيف تمنح وتملك القدرة على إنقاذ صديقها أو تمد له يد العون ليكون إنسانًا شريفًا، وهى التى تبدو فى ظاهرها ساقطة!

فى الحقيقة أن هذه الرواية حافلة بكافة أشكال المفارقة وأنماطها وتتنوع مساحات هذه المفارقات وأنواعها من مفارقات كلية أو كبرى أو متسعة تتشكل من الخطوط الرئيسة فى دراما الرواية أو مفارقات عابرة وصغيرة تتشكل من الشخصيات الفرعية أو المواقف العابرة، فكأن الرواية كلها نسيج ممتد من المفارقات التى هى بالأساس مفارقات نابعة من طبيعة الحياة ومن عبثيتها أحيانا ومن سخرية القدر من هؤلاء البشر، وهى من الأشياء الأساسية المشكلة لجماليات الرواية وتجعلها على قدر كبير من الجمال وتخلو تماما من أى تزيّد أو إسهاب.

ما يمثل القيم الجمالية الأكبر فى خطاب رواية اللوكاندة هو قدر ما تم شحنها به من التوتر والقلق، حيث تصبح الرواية حلبة صراع بين فريقين، فريق هو صاحب الحق والقضية وهو فريق عليوة وأسرة الدكتور ويليام براون وعامة المصريين، وفريق ثان هو فريق الظلم والغطرسة والمكاسب المالية وهو بقيادة الوالى عباس حلمى ومدير قصره أدهم بك والقنصل الإنجليزى الذى يبدو أحيانا فى دور الوسيط وغيرهم الكثير من الشخصيات الأخرى مثل أندرو أو جنود الوالى من الألبان أو الأرناؤوط، فهذا الصراع لا يخبو أو يضعف فى أى مرحلة من مراحل الرواية، حتى تبدو من بدايتها إلى نهايتها مغامرة سرّية محفوفة بالمخاطر والقلق والتوتر، وفى كل لحظة هناك انتظار لمفاجأة أو خبر أو فرمان أو واقعة أو حدث متوقع يغير مسار الحكاية، وهكذا يبدو القارئ مشدودا للحكاية من أول مشهد حتى آخر مشهد ليعرف مصير هذا الصراع ولصالح أى فريق سيكون محسوما.

هذه المسألة المرتبطة بشحن العمل بالتوتر والقلق هى نتاج عوامل وتقنيات سردية كثيرة، لأنها مرتبطة بما يعرف بالتبئير أو وجهة النظر ومرتبطة بتقاطع الخطوط الدرامية والمصائر ومرتبطة بتداخل هذه المصائر وتفاعل الشخصيات فى فضاء العمل، وثمة قواعد ضمنية فى الذهن السارد تعبر عن معادلات وقوانين هذا الصراع وتعارض الرغبات والأهداف، وأن كل هذا الكم من التوتر والصراع هو نتاج حسبة عقلية دقيقة خاصة بالشخصيات وانتقائها وتحديد سماتها وملامحها، فلو كان على سبيل التمثيل لدى شخصيتى الدكتور ويليام أو زوجته أى قدر من الخلل أو التراجع أو الخوف أو عدم الإصرار أو عدم الرغبة فى التحصُّن بما لديهما من حماية بريطانية أو كانا شيئا آخر أو لم يكونا بكل هذا الحب لابنتهما المتبناة أو لم يكن لديهما هذه الثقافة الخاصة التى شكلهما بهما السارد لاختلفت الحكاية تماما واختلّت أو كانت منهارة، لكن هذه الحسبة الدقيقة فيما يخص أطراف هذا الصراع هى حسبة عميقة وتبدأ من التفاصيل الصغيرة، من مهنة الدكتور ويليام وانحيازاته السياسية وعلاقته بالفكر الاشتراكى والنزعة الشيوعية الصاعدة فى العالم فى تلك الحقبة، أى أنها نتاج عوالم كثيرة مرتبطة بالمرحلة التاريخية أو الزمن، والانحيازات هى التى شكلت هذه البنية الروائية الحافلة بالصراع والإصرار وكانت على هذا القدر من التكامل بين عناصرها. 

بشكل عام نجد أن الرواية فيها عدد آخر من اللمحات الجمالية الأخرى المهمة مثل لغة الخطاب السردى التى كانت على قدر كبير من الجمال ومشحونة بالانفعالات والعواطف وكانت لغة داخلية أى مرتكزة على التبئير الداخلى، ولهذا فإن هناك توفيقًا كبيرًا فى كونها اعتمدت على تقنية الأصوات، وذلك لتحقق عددا من النواتج الأخرى، فتحقق عددا من مستويات الوعى المتفاوت بعالم الرواية وبأحداثها وترصدها من وجهات نظر مختلفة ربما تكون هى الأكثر قربًا من بعضها باستثناء شخصية بدر الدين، ولكنه له دور مهم فى آخر الرواية فكان له صوت حيث يصنع تشويقا عبر تتبعه لمسار عليوة واختفائه ومحاولة كشفه، ولكن ما نقصد هنا أن رواية الأصوات خلقت نوعا من النبض والدفء الإنسانى فى لغة السرد لكون الأحداث دائما ما يتم رصدها عبر مشاعر الشخصية وموقفها النفسى ولهذا تأتى اللغة على قدر كبير من الانفعال والتوتر ومحشونة بالمشاعر سواء وطأة الخوف من الإعدام أو الأمل فى الهرب منه أو الأمل فى الزواج والارتباط بالحبيبة فيما يخص عليوة، أو غيرها من مشاعر الحب والرغبة فى النجاة بالأسرة والابنة وتوفير الحياة الكريمة والإنسانية اللائقة لها فيما يخص أصوات الدكتور ويليام وزوجته، أو وطأة مشاعر الفشل وعدم التحقق والرغبة فى الغدر وقلة الحيلة بالنسبة لشخصية بدر الدين المهتز والمطرب ومسلوب الوعى ويعيش حالا من الأنانية والتبعية، وهكذا تأتى الرواية ولغتها حافلة بالجماليات والانزياحات أو الاستعارات التى هى فى الأساس نابعة من مشاعر متصارعة وأمواج من العواطف المضطرمة والرغبات المتباينة أو القيم الإنسانية الكثيرة مثل الخوف والشجاعة والقلق والأمل والعجز والفقر والغنى والأنانية والإيثار والفداء والقدرة على العطاء وغيرها الكثير ما يشكل لوحة الحياة الثرية بكافة المعانى والقيم.