الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

كوميديا موسيقية استثنائية على المسرح القومى

فى إنتظار بابا

 كانت ومازالت الأسطورة مرجعًا لنقد الواقع، وإعادة صياغته وقراءته وطرح أفكار جديدة لتفكيكه وتحليله، فتحت الأساطير اليونانية على وجه التحديد خيال الفلاسفة والكتاب، لنقد وإسقاط خيالهم وأفكارهم على الواقع على مر العصور، وخلال كل الأزمنة كانت الأساطير اليونانية المنبع الرئيسى للفن، تأسس عليها تأويلات اجتماعية وسياسية وأحيانًا نفسية، كما فعل فرويد على سبيل المثال عندما منح مساحة كبرى لقراءة وتحليل أسطورة أوديب وإلكترا، ووضع لهم أساسًا علميًا سيكولوجيًا بنى عليه استنتاجًا نفسيًا فى شكل علاقة البنت بأبيها وعلاقة الابن بأمه.



 كانت أسطورة إلكترا مرجعًا للدراسات النفسية فى وضع نموذج لعقدة تعلق البنت بأبيها وأطلق عليها عقدة إلكترا، وأصبحت من أشهر التحليلات النفسية وربما أهمها فى دراسة خلل العلاقات العائلية، إلكترا فى الأسطورة اليونانية القديمة أحبت آباها إلى درجة الجنون وتآمرت مع أخيها لقتل أمها كليتمنسترا وعشيقها، كان للملك «أجاممنون» حاكم أرجوس باليونان ولزوجته «كليتمنسترا» ابن اسمه «أورست» وابنتان «إلكترا» و»ايفيجيني», وعند ذهاب ذلك الملك لحصار طراودة وجد البحر قد هاج, فأشارت عليه الآلهة بأن يقدم ابنته «ايفجيني» ذبيحة يكسب بها رضا الآلهة، ففعل ذلك بالرغم من سخط زوجته على هذا المسلك, فلم تغفر له هذا العمل إنما دبرت بالاتفاق مع عشيقها «ايجست» قتل زوجها «أجاممنون» وكان لها ما أرادت، ومنذ ذلك الحين عزمت «إلكترا» على الانتقام لأبيها واعتمدت على شقيقها «أورست» فى أن يقتل هو أمهما وعشيقها.

انطلق المخرج المسرحى سمير العصفورى من تلك العقدة ليؤسس عليها بناء عرضه «فى انتظار بابا»، تدور أحداثه حول أسرة فاسدة تعيش فى حالة من التطاحن والصراع بسبب الميراث هذه الأسرة تكره وتمقت عودة الأب، الذى تنادى به وتصر عليه الابنة عزيزة فى حالة مرضية وجنونية، على مدار لعبها للشخصية فهى المعادل المعاصر «لإلكترا» اليونانية, كما يشرح مخرج العرض مع بدايته، فى مسرحية داخل مسرحية صنع سمير العصفورى حالة جديدة من الفرجة، ففى البداية يخرج مساعد المخرج ليؤكد لنا أننا سوف نشاهد عملًا مسرحيًا, وفريق العمل لا يعلم ماذا أراد به المخرج، يظهر كل ممثل بشخصيته الحقيقية باعتبار أنه له شخصية أخرى محددة داخل هذه المسرحية التى تشير سماح أنور فى أكثر من موضع إلى أن الفكرة فى رأس مخرجها وحده وحتى الآن لا نعلم ماذا نفعل على خشبة المسرح معه فى هذا العرض غير المفهوم.

  قد يبدو العرض مشتتًا وغير مفهوم بالفعل، خاصة مع بدايته، وكأن العصفورى أيضًا أراد السخرية من تعدد أفكاره والأبعاد الاجتماعية والنفسية التى أراد أن يتناولها على خشبة المسرح، فى لحظات انقطاع الغناء والموسيقى، قد يبدو على العرض حالة من التوهان، هذه الحالة وإن تعمد المخرج وضع المشاهد فيها لقياس مدى قدرته على ملاحقة واستيعاب أحداث العرض، بينما تسبب بعض الممثلين أيضًا فى إفساد ما أراد المخرج الوصول به من نتيجة وحالة استثنائية ربما لا تتكرر فى الكثير من العروض، بسبب خروج بعض الممثلين عن النص الرئيسى وتشتتهم واهتمامهم بشكل كبير بالتحدث إلى صالة العرض والخوض مع الضيوف خاصة لو كانوا من أصدقائهم، مما وضع العمل فى الكثير من الأحيان فى حالة ارتباك، لكن ما إن تنطلق المقاطع الغنائية فى سلام شارحة ومفسرة الأفكار التى أراد العصفورى طرحها، يبدأ العمل فى استعادة قوامه من جديد.

يفتتح العرض بأوبريت غنائى يحمل الكثير من التهكم والسخرية على أخلاقيات وأوضاع هذه العائلة المفككة الفاسدة أخلاقيًا وإنسانيا يتأسس عليه الفكرة العامة للعرض..» إحنا عيلة راقية جدًا مترابطين..أخلاقنا فوق الوصف..إحنا ناس متربيين..قلوبنا سوية..والمثل قوية..قناعة متدارية تحت معدنا الأصيل».. وإلى آخر الأغنية يبدأ العرض بهذه الأغنية الساخرة التى تحمل مزيجًا من السخرية والتهكم ومدى إفك هؤلاء فى تفخيم وتضخيم أنفسهم وكأنهم على قناعة تامة بما يقولون، فى شكل وأسلوب كاريكاتيورى ساخر حرص المخرج سمير العصفورى على تقديم تجربته المسرحية الغنائية الموسيقية البديعة، والتى كسرت نواميس المسرح التقليدى فى إبداع أعمال غنائية مكتوبة وملحنة بحرفة عالية وعقلية مخرج ومؤلف ناقد ساخر غزلت هذه الأعمال المغناة وكأنك تستعيد معها شكل مسرح بيرم التونسى،  وكان أهم ما طرحه العرض فى الاستعراض الغنائى للفنانة سماح أنور «راجع راجع..طالع طالع» وشدة مبالغتها فى تفخيم أبيها الذى تنتظر عودته لأنه فى رأيها هو النموذج الأمثل للرجل المتكامل، أو هو بشكل أعم وأعمق النموذج المثالى الذى ندعى أننا ننتظره جميعًا لإصلاح ما أفسده الآخرون، حلم عودة المخلص ..عودة المسيح أو المهدى المنتظر، العودة التى من شأنها أن تصلح ما أعوج من حولنا سواء فى فساد عقائدنا الدينية أو ميولنا الأخلاقية، فالأسرة جميعها فاسدة كل منهم يعرض لنموذج فاسد مختلف عن الآخر، وفى ظل تنوع هذا الفساد توحى تلك الأسرة بأنها صورة مصغرة للمجتمع أنحل فى كل شيء، ولا يجد حلًا سوى خوض المعارك حتى ولو كانت دموية، وهو ما فعلته عزيزة عندما أشهرت السلاح فى وجه أخيها.. كل تلك الأفكار والنقد والطرح الفلسفى شديد العمق، الذى يحمل المزيد من البعد الاجتماعى والسياسى والنفسى، فى تناول فساد المجتمع بتنوع أجياله، فكل جيل فاسد بطريقته حتى وصل بنا مع فساد الجيل الحالى فى استخدام مواقع التواصل الاجتماعى، لنشر الفضائح والنميمة مهما كانت وضيعة، يطرح العمل تساؤلات وربما يحرضك على التفكير فى محاولة تركيب وتجميع ما فككه العصفورى أمامك من دراما متناثرة على خشبة المسرح وعليك بذل الجهد فى إعادة جمعها ووضعها جنبًا إلى جنب مثل لعبة «البازل»، حتى تكتمل الصورة داخلك وتخرج بتفسيرك الفردى الذى لا ينازعك فيه أحد ولا المخرج شخصيًا الذى كتب فى كلمته بكتيب العرض .. «عزيزى المشاهد.. أهلًا بك.. لا أريد أن أطيل الكلام..ولا الوصف.. ولا التحليل.. ولا التفسير».

لكن برغم ما بذله المخرج وبعض من فريق العمل حتى يخرج العرض فى صورة مكتملة إلا أن الصورة لم تكتمل على وجه ثابت، بمعنى آخر لولا الإبداع الكبير والجهد العظيم الذى بذله المخرج سمير العصفورى ومعد الأغانى والملحن أحمد الناصر فى صناعة كوميديا موسيقية غنائية هزلية بديعة، لما كتب لهذا العرض التواصل مع جمهوره أو لما حقق متعته كما ينبغى لها أن تكون،لم ينج من هؤلاء المستخفين بالعمل الرصين صاحب الأبعاد والأفكار الجادة على سخريته اللاذعة، إلا الفنانة سماح أنور التى استطاعت بحرفة وحكمة واقتدار الإمساك بأبعاد الشخصية فى دخولها وخروجها من شخصيتها الحقيقية كممثلة وشخصية عزيزة صاحبة عقدة «إلكترا», كما كان لسماح أنور حضور بالغ كفنانة استعراضية تنوع أداءها بين الرقص والغناء والتمثيل وكانت شديدة الرشاقة والمرونة والإتقان لكل ما تحملته من مسئولية على خشبة المسرح، ثم الفنان أحمد سلامة كان ملتزمًا التزامًا تامًا بشخصية خطيبها المبتز الساعى للسيطرة عليها وعلى الأسرة بالكامل بطرقه الملتوية، ثم بثينة رشوان والتى كانت اختيار وتغيير موفق من المخرج بعد إعتذار الفنانة انتصار عن العرض، لعبت انتصار شخصية الأم وشخصيتها كممثلة من منطق القطاع الخاص ونسيت أو ربما لم تدرك أبعاد الشخصية التى كانت تلعبها، بينما على النقيض أدركت رشوان وكانت على وعى تام فى الالتزام بتقديم شخصيتها الأولى وهى ممثلة جديدة تنضم للفرقة ثم قبولها للعب شخصية أم سماح أنور وحتى الكوميديا التى خرجت من هذا الموقف كانت سلسة بسيطة غير مقحمة أو متكلفة أوساعية لإكراه الجمهور على الضحك، ثم مفيد عاشور أيضًا فى شخصية المخرج، والفنان على كمالو أحد أفراد العائلة وخالد عبد الحميد وبسمة شوقى وماهر محمود، مع بعض التغييرات التى أحدثها العصفورى بالعرض ساهمت فى شد الإيقاع وتكثيف الوقت ووضوح بعض الأشياء الملتبسة ربما كان ذلك مع انضمام الفنانة بثينة رشوان التى ساهمت فى إعادة ترميم ما اعوج من قبل.

ربما كان لهذا العمل شأن آخر أعظم وأرفع إذا قدم بصريًا فى شكل يليق بعمل موسيقى غنائى استعراضى كبير، للأسف رغم أن العرض غنى بدراما مغناة شديدة الروعة والإتقان كانت جديرة بأن تصنع منه نموذجًا لعمل موسيقى هزلى استثنائى لا يشبه غيره من العروض الموسيقية المقدمة بالبيت الفنى، لولا الفقر البصرى الذى بدا عليه فى صناعة الملابس وقطع الديكور الفقيرة والمادة الفيلمية البدائية التى قدمت فى خلفية المشاهد، شارك فى بطولة «فى انتظار بابا» أيمن اسماعيل، سميحة عبد الهادي، بسمة شوقى، فتحى سعد، ماهر محمود، وليد ابو ستيت، تصميم استعراض ضياء شفيق، موسيقى وألحان أحمد الناصر، إعداد سمير العصفوري، أيمن إسماعيل.