الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

شكسبير برؤية عصرية لم ترها من قبل على مسرح السلام

هاملت بالمقلوب

تتنوع القراءات المسرحية لـ «هاملت» التى دائمًا ما يصفها النقاد والمفكرون أنها أشد مآسى شكسبير صقلًا وأكملها شكلًا وأكثرها تنوعًا، بمرور الوقت وعلى اختلاف العصور تتعدد الرؤى والأشكال فى تقديم شخصية «هاملت» حول العالم، من فرط ما تحتويه هذه المسرحية من أبعاد ساسية ودينية وإنسانية، شخصية ثرية دراميًا تعد النموذج الأمثل لصنع إبداع من نوع خاص سواء على مستوى التأليف الدرامى أو التمثيل المسرحى، تثير وتحفز رغبة كل كاتب أو ممثل على اللعب بها وتأديتها لما تحمله من تنوع وتقلبات نفسية وأبعاد شديدة العمق والتعقيد، هكذا تعددت القراءات لشخصية هاملت حتى أصبحت وكأنها ليست مجرد شخصية خيالية كتبها وليم شكسبير، بل كأنها دراما تاريخية جاءت من وحى تاريخ سحيق.



فى «هاملت بالمقلوب» غزل الكاتب أفكاره ووجد المساحة والبراح لنسج خياله، يقدم المؤلف الدكتور سامح مهران إبداعًا استثنائيًا على شخصية «هاملت» الغنية والمحيرة دراميًا، أحدث مهران انقلابًا كبيرًا فى «هاملت» شكسبير وانقلابًا يناسب الواقع المعاصر، فماذا لو تناولنا هاملت اليوم فى عصر السوشيال ميديا والسماوات المفتوحة، لابد أن تنقلب موازينها وأسسها الدرامية التى تأسست عليها من قرون مضت، ماذا لو أصبح هاملت ملهمًا لشباب الدنمارك ونموذجًا للحرية والنضال من أجل تغيير أوضاع يرفضها، فبدلًا من أن كان متمردًا وغاضبًا ساعيًا للثأر لمقتل أبيه فقط، الذى مات بمؤامرة بين أمه وعمه، أصبح «هاملت» اليوم متمردًا وساعيًا للثأر للإنسانية فهو يرتدى ثياب المخلص أو المسيح الذى ننتظر عودته لتخليص البشرية من شرور العالم المحيط بها، انقلب هاملت فى عين مهران وبدأ فى رسمه رسما آخر غير ما عهدناه فى مسرحية شكسبير الأشهر.

إذا كان هاملت بما يفسره البعض رمزًا لعقدة أوديب من شدة ولعه بأمه وسعيه للانتقام منها للثأر لأبيه بدافع الحب وكراهيته لحبيبته ولكل النساء بعد خيانة أمه لأبيه، تأسس على تلك العقدة العرض أيضًا الذى لم يكتف فقط بتناول حب وسعى هاملت للثأر بينما وضع الكاتب أزمة الارتباط العاطفى بالأم بشكل عام كأساس فى سير الخطوط الدرامية للمسرحية، لم تتعلق المسألة بغضب هاملت على أمه بينما كان الجنس هو أصل الشرور..أو هو سلاح السياسة الأشهر فى الإيقاع به، ثم ممارسة الدعارة تحت غطاء وتستر الدين. يذهب سامح مهران بهاملت إلى أفق آخر أوسع وأرحب، افق انقلبت فيه معايير هاملت التقليدية كما انقلب فيه الواقع فى كل شىء، ففى هاملت مهران يبدأ العرض بهلاوسه المجنونة المتتالية وبين إصابته بالجنون أو ادعائه للجنون نراه فى مستشفى للأمراض العقلية يسعى الأطباء لاكتشاف حقيقة جنونه من عدمه ثم نشاهد مشاهد عتابه لأمه, وفى مشهد خاطف يأتى شبح أباه وكأنه ظل من زمن مضى يحرضه على الثأر، لكنه لم يعد للظهور من جديد كأنه كان مجرد ظل يتبعه ومضى،  فـ«لهاملت» عبء وهم آخر تجاوز حدود الثأر لأبيه، ثم نرى أوفيليا ابنة القس المنتمى لسلطة ملك الدنمارك فى ثياب عاهرة تراود هاملت عن نفسه وتسعى لإغوائه، لكنه يرفضها مؤكدًا أنه أصبح رجلًا لا يقرب النساء، ويحضتنها أبوها القس وهى ترتدى تلك الثياب، فى إشارة واضحة لفساد سلطة رجل الدين الذى شارك فى المؤمرات منذ بداية العرض وحتى نهايته.

ففى هذه المسرحية قراءة جمعت بين سلطة الدين الفاسدة المزاوجة بالطبع للسياسة، التى يتآمر فيها القس مع ملك الدنمارك للإيقاع بهاملت وقتل أمه معلنًا أنها كانت سيدة شريفة ماتت حزنًا على أبيه، ثم يتزاوج رجل الدين مع الملك بإعلان ابنته اوفيليا زوجة لملك الدنمارك بعد وفاة الملكة الأم، ومع تصاعد تلك الأحداث يسعي القس والملك، للتخلص من هاملت نهائيًا باتهامه بالتحرش الجنسى, وينتهى به الأمر إلى حبسه فى مستشفى للأمراض العقلية مدى الحياة.

كما فقع أوديب عينيه بعد علمه بما ساقه القدر إليه من جريمة كبرى بقتل أبيه والزواج من أمه، عاقب أوديب نفسه على ذنب لم يرتكبه عن عمد بل دفع إليه بفعل القدر، وفى هاملت بالمقلوب يعاقب هاملت نفسه أيضًا على ذنب وضعه فيه القدر، ارتكبت أمه جريمة قتل وخانته حبيبته، ففى مشهد محاولة إغواء أوفيليا له التى تحولت بفعل الزمن إلى فتاة تشبه العاهرات أو هكذا تراها عيناه، يعلن هاملت أنه تخلص من أعضائه حتى يعيش فى سبيل الرب طاهرا لا يقرب النساء، اشترك هنا هاملت مع أوديب فى قرار كل منهما بالحرمان من لذة الحياة ومتعة استكمال العيش فيها، فهو لا يرغب فى المواصلة بسبب ما رآه من فساد العالم حوله، وبرغم حالة التمرد والغضب التى يبدو عليها طوال العرض والتى يسعى معها للإقدام على فعل لم ينفذه حتى أصبح له أتباع ومريدون يحرضونه ويحبونه على فعل ما ينتظرون منه من إصلاح ما يتعرض له الشعب من حوله، إلا أنه يفضل كما فى المسرحية الأصلية الانعزال داخل نفسه وجنونه والعيش فى عالمه الخاص، من شخصية غير قادرة على فعل أى شيء إلى شخصية تسعى فى طريق التمرد على كل شىء.

«هاملت بالمقلوب» انقلبت فيها معايير وشكل مسرحية هاملت الأصلية, نص شديد التميز والخصوصية تفرد فيه المؤلف سامح مهران لإبداع عمل مسرحى لم يشبه نظيره فى قراءة هاملت من قبل ففى «هاملت بالمقلوب» أنت على موعد لمشاهدة مسرحية هاملت كما لم ترها من قبل، ولم يتوقف هذا التميز والإبداع على عمل المؤلف فقط بل كان للمخرج مازن الغرباوى وضع خاص فى هذا العمل المسرحي، الذى يسجل به مازن لنفسه مرحلة جديدة من النضح الفنى  استطاع فيها المزاوجة بين عناصر الحركة والصورة المسرحية استعان بتقنيات بصرية فى مشاهد متعددة بدءًا من شاشات السينما وظهور شبح الأب، وهو ما أضاف حالة من المتعة والإبهار, أتقن وأحسن الغرباوى صنعا فى أكثر من مشهد، خاصة فى مشاهد اتهام هاملت بالتحرش وتداخل الفيديوهات مع أداء الممثلين على المسرح وحالة اللغط والفوضى التى أصابت المدينة بعد إعلان هذه التهمة ومحاكمة هاملت، انعكست بالمشهد نفس حالات الانفجار التى تحدثها مواقع التواصل الإجتماعى مع انتشار أى فضيحة أو قضية خاصة لو تعلقت بإحدى الأسر الحاكمة ثم مشهد هواجسه التى تضخمت داخل المستشفى والتى سعى فيها مازن لاستخدام عرائس ضخمة تحاكى خياله المريض، استوعب الغرباوى الخطوط والأبعاد الدرامية المتنوعة لنص مهران الأفضل والأعمق والذى يعالج بذكاء شديد مسرحية هاملت فى قالب جرىء ومعاصر للغاية.

بالطبع ساهم عنصرى الديكور والإضاءة فى صناعة صورة مسرحية مبهرة ومميزة أضافت للعمل وبشدة فى تقسيم خشبة المسرح إلى مستوي القصر ثم مستشفى الأمراض العقلية التى حبس فيها هاملت مع صنع لحظات إضاءة قدمت حالة مسرحية أقرب للغموض والعزلة بما يتوافق مع هذه الشخصية الغامضة والمحيرة والمنعزلة نفسيًا وإنسانيًا عن العالم المحيط بها، بذل الفنان عمرو القاضى جهدًا حتى يخرج بالشخصية كما أراد لها المؤلف والمخرج وبدا وكأنه ملتزمًا بتعليمات مخرج العرض وبشدة لكن كان ينقص هذا الالتزام الغوص بشكل أعمق فى أبعاد تلك الشخصية الثرية والمعقدة دراميًا التى كتبها المؤلف على الورق فحتى الآن اكتفى القاضى بالأداء الظاهرى لهذه الشخصية ولم يمس أعماقها، يحسب له الجهد المبذول والتزامه الشديد بتوجيهات المخرج لكن مازال هناك المزيد، كذلك تميزت كل من سمر جابر فى دور أوفيليا ونهاد سعيد فى دور جرترود, بينما ينقص الممثلون وبشكل كبير المزيد من التدريب على إتقان إلقاء الكلام ومخارج الألفاظ، فهناك الكثير من الجمل التى لم تكن واضحة نظرًا لسرعة الإلقاء وعدم الاهتمام أحيانًا بمخارج ألفاظ الحروف، وعلى النقيض اتضح فارق الخبرة وثقل التجربة المسرحية مع ظهور أيمن الشيوى فى دور العم، وخالد محمود فى دور القس ظهر الاثنان وتجلت حالة الاتزان وشد الإيقاع بالعرض المسرحي، فكلاهما كان أفضل ما جاء بالعمل على مستوى الأداء التمثيلى فى إتقان الأداء والإلقاء وسلاسة التعبير عن ابعاد الشخصيات التى قاما بلعبها كل منهما أمام الآخر، وبالطبع كان للفنان خالد الصاوى حضور خاص فى مشاركته الصوتية بالشاشة التى ظهر بها خلال الأحداث فى دور شبح الأب، كما كان لمحمد خيام حضور آخر فى مشهد الطبيب الذى لعبه بمهارة واقتدار وكأنه صاحب خبرة قديمة بالوقوف على خشبة المسرح، وكعادتها تميزت مروة عودة فى إضفاء وإضافة لمساتها على صناعة الصورة فى تصميم أزياء العرض المسرحى سواء الخاص بالمجاميع أو بأبطال المسرحية، «هاملت بالمقلوب» عمل مسرحى استثنائى وتجربة فريدة يكتب بها مازن الغرباوى شهادة ميلاده من جديد كمخرج يدخل فى حلبة المنافسة مع الكبار، العرض تأليف سامح مهران، ديكور وإضاءة صبحى السيد، أزياء مروة عودة، موسيقى طارق مهران، فيديو مابينج رضا صلاح.