الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الحرب الروسية الأوكرانية هل هى صراع حضارات أم صراع قوميات؟

يعكف المثقفون والمفكرون فى جميع أنحاء العالم على دراسة إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة قد بدأت شرارتها عقب الغزو الروسى لأوكرانيا وما أحدثه من دمار هائل فى 24 فبراير الماضي فيما وصفته روسيا بـ«عملية عسكرية خاصة» لتقويض القدرات العسكرية لجارتها الجنوبية والقضاء على من تصفهم بالقوميين الخطيرين.. إن الأداء الضعيف للقوات العسكرية الروسية فى أرض المعركة والرد الموحد من جانب الولايات المتحدة وحلفائها إزاء الغزو الروسي، أربك حسابات بوتين، فبدلًا من انتصار خاطف، يتعرض بوتين لخطر مواجهة هزيمة مهينة أو مأزق، حيث إن العقوبات الغربية تصيب الاقتصاد الروسى بالشلل.



 وقد احتدم الصراع بين البلدين منذ عام 2014، عندما دخل الجيش الروسى إلى الأراضى الأوكرانية، إثر انتفاضة اندلعت فى البلد أسفرت عن تغيير رئيسها الصديق لروسيا بحكومة موالية للغرب، ثم ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، ودعمت الحركة الانفصالية فى الشرق. جرى التفاوض على وقف لإطلاق النار فى 2015، غير أن القتال لم يتوقف.

ورغم أنّ صناعة الكتب والعوالم الثقافية ستكونان من أوّل المتأثرين بالحرب الدائرة على الأراضى الأوكرانيّة، فإنّ التضامن الغربيّ الواسع إثر الاجتياح الروسّى الأخير سيفتح دون شك آفاقاً لا نهائيّة أمام الأدباء والمفكرين الأوكرانيين، ولن يُستغرب إن قررت مؤسسة نوبل منح جائزتها المرموقة للأدب لأديب أو أديبة من تلك البلد بعد أن عاندتها كثيراً.

وكانت آخر محاولة جادة لمنح تلك الجائزة لكاتب أوكرانيّ تعود إلى الثمانينيات عندما طرح اسم الشاعر والمنشق الأوكرانى فاسيل ستوس لمنحه الجائزة أثناء احتجازه فى سجن سوفياتي، غير أنه ما لبث توفى فى ظروف مريبة قبل بدء عملية تقديم الترشيحات فعلى الأرض، وبحكم التاريخ السّوفياتى المشترك، كانت الغلبة ولوقت قريب للإنتاجات الثقافيّة الروسيّة: الأفلام السينمائية والتليفزيون والكتب وموسيقى البوب مقابل مواد قليلة باللغة الأوكرانية، ولا شكّ أن بعض الأفكار التى قد تتسرب من خلال الكتب الروسيّة، لا سيّما بعد ضم القرم إلى روسيا عام 2014 تضم إشارات تمسّ السلامة الإقليمية لأوكرانيا، أو تعد تحريضاً على الكراهية العرقية والدينية، لا سيّما بعد نشوء الصراع المسلّح شرق أوكرانيا بين حكومة كييف والانفصاليين ذوى الأصول الروسيّة ودعم موسكو لهم.

وبغض النّظر عن مبررات تلك الإجراءات، فإن من نتيجتها أن ازدهرت أعمال النشر باللغة الأوكرانيّة وتضاعف معدل عدد النسخ المنشورة من الكتاب الواحد كما عدد العناوين فى مختلف مجالات الأدب والفكر، فيما تراجع تداول ونشر الكتب بالروسيّة لا سيّما بعد أن أصبح التعليم بالأوكرانية إجبارياً فى مدارس البلاد، بدءاً من عام 2020 - رغم وجود أقليّة روسيّة يزيد عددها على 8 ملايين نسمة فى الجمهوريّة الأوكرانية التى يصل مجموع عدد سكانها إلى نحو 45 مليوناً.

كما تدعم جهات حكوميّة ومؤسسات شبه حكوميّة - مثل الصندوق الثقافى الأوكرانى ومعهد الكتاب الأوكرانىّ والمؤسسة الثقافيّة الأوكرانيّة - بسخاء تمويل ترجمات من إنتاجات كتاب أوكرانيين إلى لغات غربيّة إضافة إلى دعم الإنتاج الثقافيّ بشكل عام.

هذا الازدهار غير المسبوق فى إنتاج الكتب أتاح للقطاع الإبداعيّ باللغة الأوكرانيّة (كالأغانى والموسيقى والأفلام والفيديو) هوامش أوسع للانتشار، ما انعكس إيجاباً على الثقافة الوطنيّة والاقتصاد القوميّ على حد سواء.

ويرى الروائى الأوكرانى أندريه كوركوف أنه لم يكن هناك أدب حرب قبل اندلاع النزاع. كانت المؤلفات فى أغلبها تتناول قضايا الجنس، والمخدرات، وموسيقى الروك آند رول - وروايات الجريمة بالطبع، بيد أن الحرب الجارية ستخلق أدباً موازياً - أدب يألفه المحاربون القدامى، وبعض المتطوعين. ربما يتخذ هؤلاء المؤلفون طريقهم فعلياً إلى الخطوط الأمامية الآن.

إذا تجاوزت أوكرانيا تلك الأزمة، فسوف تبدع المزيد من الأدبيات الحربية، لكن ذلك لا يعنى أن الأدب سوف يتطور إلى الأفضل، وإنما يعنى فقط أن الأدب سيكون أكثر تسييساً من قبل، مثل الأدب السوفياتى، لكن بنوع مغاير من الدعاية أو الأفكار الوطنية، ويفرق كوركوف بين الروس والأوكرانيين، والفارق بين التاريخين الروسى والأوكرانى، وبين العقليتين الروسية والأوكرانية، نظراً لأن بوتين وكل رفاقه يكررون فى كل يوم أن الأوكرانيين والروس متماثلون - وأننا إخوة ويتعين علينا أن نتعايش معاً. هذا غير صحيح بالمرة، وهى قصة طويلة للغاية. كان الأوكرانيين، عبر ثلاثة قرون من الزمان، مستقلين تماماً عن القياصرة الروس، وعن أى نوع من الحكم الإمبراطورى.

وعبر كوركوف عن أمله أن يجد العالم طريقة لإيقاف بوتين ليترك أوكرانيا بسلام، لأن هدفه هو تدمير البلاد والقضاء على استقلال أوكرانيا، وإذا حدث ذلك، فسوف يغادر نصف السكان إلى أوروبا، مهاجرين أو لاجئين، وسوف يأتى الروس على كل ما تبقى من البلاد، وسوف يتصرفون مثل البلاشفة عام 1917، لن يختلفوا عنهم فى شىء.

وفى بادرة ثقافية مهمة للاعتراض على هذه الحرب قرر الصحفى الروسى دميترى موراتوف، الفائز بجائزة نوبل للسلام العام الماضى مناصفة مع الصحافية الفلبينية ماريا ريسا المؤسس المشارك لموقع «رابلر» الإخبارى، التبرّع بميداليته لبيعها فى مزاد علنى لجمع الأموال للاجئين الأوكرانيين.

فى كتابه الشهير «صراع الحضارات»، إعادة صنع النظام العالمي» قال صامويل هنتنجتون بأن انقساماً حاصلاً بين الشعوب والأنظمة فى الزمن اللاحق بانهيار الاتحاد السوفياتى أوائل التسعينيات من القرن العشرين سيؤدى إلى صراع بين الحضارات، لا سيما بين الحضارة الغربية ذات النظام الرأسمالى الحر، وقبل نصف قرن كان الكاتب المنشق الأكثر شهرة، ألكسندر سولجنتسين، صاحب الرواية الشهيرة «أرخبيل الكولاج» كانت هذه الرواية ولا تزال العمل الأكبر الذى تحدث عن فظائع الإرهاب السياسى الذى عرفه الاتحاد السوفياتي، وتمتد جذوره إلى ما بعد قيام ثورة 1917. فى تلك الرواية، الرائعة أدبياً على أية حال، أتى سولجنتسين يومها ليقول بكل وضوح وقوة، ما كان سلفه باسترناك قاله بشكل خجول فى روايته الأشهر «دكتور جيفاكو»،أبرز نموذج على صراع الهوية الواحدة بين الروس والأوكرانيين، فقد كان سولجنتسين من أب روسى وأم أوكرانية، ومنذ العام 1968 توقع الانفجار الذى نشهده الآن بين الفريقين يوم قال :«يؤلمنى أن أكتب هذا فى حين أن أوكرانيا وروسيا ممتزجتان فى دمى وقلبى وفكرى، لكن حواراتى الكثيرة مع الأوكرانيين فى معسكرات الاعتقال أكدت لى مدى الحقد الذى يحملونه (ضد الروس)، ولذا، فإن جيلنا لن ينجو مع الأسف من أن ندفع ثمن أخطاء آبائنا».