الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

70 عاما من التغلغل داخل المجتمع الألمانى

«برلين» تحاصر مصادر تمويل الجماعة الإرهابية

ترجمة – سعيد شعيب



مرَّت السياسة الألمانية تجاه جماعة الإخوان المسلمين، منذ وصولها إلى ألمانيا عام 1950، بمراحل عدة من التطور. فى المرحلة الأولى، شاب هذه السياسة عدم فهم كبير للخطر الذى تشكِّله الإسلاموية بشكلٍ عام، وجماعة الإخوان المسلمين بشكلٍ خاص على المجتمع. الجدير بالذكر أن جماعة الإخوان المسلمين فى ألمانيا تأسست من طرف سعيد رمضان (1926-1995)، صهر مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا (1906-1949)، الذى كان مسئولًا عن «لجنة بناء المساجد» والتى بنت مسجد ميونيخ. تحول مسجد ميونيخ فى فترة الستينيات، بالتعاون بين رجل الأعمال المصرى يوسف ندا والسورى - الإيطالى غالب همت، ليصبح ليس فقط مقرًّا للإخوان المسلمين فى ألمانيا فحسب، بل فى أوروبا بأسرها.

من جانبٍ آخر، تطورت لجنة المساجد لتصبح مركز تنسيقٍ لوجود الإخوان المسلمين فى ألمانيا، يربط بين المساجد والمراكز الإسلامية، ومختلف الجماعات والجمعيات «الواجهة» فى جميع المدن الألمانية الكبرى. فى منتصف فترة الثمانينيات، أصبحت هذه اللجنة الهيكل الممثل الرئيس للإخوان المسلمين فى ألمانيا، وغيَّرت اسمها إلى الجماعة الإسلامية فى ألمانيا أو (IGD)، تحت إشراف مهدى عاكف، عضو جماعة الإخوان المصرية، الذى أصبح إمام المسجد، وبعد ذلك المرشد الأعلى للإخوان بشكلٍ عام. تعزَّز وجود الإخوان فى ألمانيا من خلال تدفق الإخوان من مصر وسوريا، الإخوان السوريون الذين استقروا فى ألمانيا بعد إخفاق تمردهم الكامل فى أوائل الثمانينيات يميلون إلى التركز حول مدينة آخن، بالقرب من الحدود مع بلجيكا. تعاونت مجموعة آخن التى يهيمن عليها السوريون مع الإخوان المصريين فى ميونيخ، لكن كلا الفريقين بقيا منفصلين.

تسبب هذا الافتقار إلى الفهم واللا مبالاة من جانب صناع السياسة الألمان فى توسيع وجود الإخوان المسلمين فى جميع أنحاء ألمانيا. وفى هذا الصدد، قال دبلوماسى ألمانى: «كان هناك رأى سائد مفاده أن الصراعات بين جماعة الإخوان المسلمين وحكوماتها لا تهم ألمانيا، وأن هذه كانت «مشاجرات داخلية»، لم يستوعب صانعو السياسات لدينا أهمية الحركة الإسلاموية لأن الدين كان يُعتبر على نطاقٍ واسع عاملًا مهمًا للتخلف، وبدا الإسلامويون متخلفين فى حين كان يُنظر إلى الديكتاتوريات فى الشرق الأوسط على أنها عناصر تحديثية».

من بين الأمثلة على كيفية حدوث ذلك سيطرة الجماعة الإسلامية فى ألمانيا على عددٍ من المؤسسات، لا سيّما المركز الإسلامى فى كولونيا (IZK)، الذى تأسس فى عام 1978 على يد النسخة التركية من جماعة الإخوان، المعروفة باسم «ميلى جوروش»، كما خضعت رابطة الطلاب المسلمين الألمان (MSV) لتأثير الجماعة الإسلامية فى ألمانيا.

ومع ذلك، فإن الدولة الألمانية، من خلال أجهزة استخباراتها، حافظت على قدرٍ من المراقبة على جماعة الإخوان المسلمين، وجمعت معلومات عن الشبكات، وربما حاولت تجنيد مخبرين، ولكن يبدو أن النية كانت ببساطة مراقبة ما كان يحدث فى أوساط المهاجرين الذى تفهمه الحكومة بشكلٍ سيئ، بدلًا من أى نيّة استراتيجية أو أى قلق بشأن التهديدات المجتمعية أو الأمنية للإخوان المسلمين، كما أن أجهزة الأمن الألمانية «تصرَّفت بشكلٍ غير متسق: فقد أشرفت عن كثبٍ على مسجد ميونيخ فى سنواته الأولى، ولكن يبدو أنها فقدت الاهتمام بعد ذلك».

حدثت نقطة التحوّل الرئيسة لألمانيا فى كيفية تعاملها مع جماعة الإخوان المسلمين فى عام 2001، بعد هجمات 11 سبتمبر. إذ بدأت ألمانيا التحقيق فى شبكات الإخوان المسلمين، وتأثير الأيديولوجية على التطرف والإرهاب فى الدولة. وبدأ الدور التاريخى لجماعة الإخوان المسلمين كمنصة انطلاق للإرهابيين البارزين، بمن فيهم مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن والزعيم الحالي، أيمن الظواهري، فى جذب الانتباه.

وقد بدأ الألمان فى النظر، على وجه الخصوص، فى مدى ارتباط الجماعة الإسلامية فى ألمانيا باتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا (FIOE)، المعروف باسم مجلس المسلمين الأوروبيين (CEM) منذ عام 2020، الذى يعتبر أحد أهم الشبكات العابرة للحدود الوطنية لشبكة الإخوان المسلمين فى أوروبا. كانت هذه بداية المرحلة الثانية من السياسة الألمانية، عندما امتنعت عن الاتصال الرسمى مع جماعة الإخوان المسلمين، وغيرها من الجماعات التى تتبنى الإسلام السياسى أو الإسلاموية، كجزء من برنامج التعاون الألمانى لمكافحة الإرهاب مع حكومات دولٍ مثل الأردن وسوريا ومصر. ومع ذلك، استمر الإخوان فى اكتساب النفوذ بين المسلمين فى ألمانيا، ونشروا أفكارهم حول الشريعة الإسلامية والنظام السياسى المثالي، وهى أفكار تتناقض بشكلٍ حاد مع المفاهيم الغربية للسيادة الشعبية، والديمقراطية الليبرالية.

بدأت المرحلة الثالثة من سياسة ألمانيا تجاه جماعة الإخوان المسلمين فى عام 2011، مع بداية الربيع العربي، عندما تحوَّلت برلين إلى تبنى سياسة «الانخراط الحذر»10. لقد فوجئت الحكومة الألمانية بالثورات العربية، التى قادت إلى وصول الإخوان إلى السلطة فى مصر وتونس، وصعودهم إلى مواقع السلطة فى ليبيا، وسارعت إلى إيجاد سياسة جديدة. ورأت أن الحكومة التركية ربما تمثل حلًا وسطًا معتدلًا لحزب إسلاموى فى السلطة داخل بنية دولة علمانية. بيد أن ذلك خلق توترات فورية لأن جماعات الإخوان، على الرغم من أنها قالت الأشياء الصحيحة عن الديمقراطية وحقوق الأقليات، فإنها احتفظت بوجهات نظر تتعارض مع السياسة الألمانية، مثل العداء لوجود إسرائيل.

غير أن هذه السياسة لم تدم طويلًا. فقد سقط نظام الإخوان المسلمين فى مصر فى عام 2013، وانزلقت ليبيا فى دوامة الحرب الأهلية فى عام 2014، وتبدَّل موقف تركيا بشكلٍ حاد نحو الاستبداد فى عهد الرئيس رجب طيب أردوغان. وقد أدّى إنشاء «خلافة» داعش وموجة الإرهاب فى أوروبا من عام 2014 إلى عام 2017 إلى تغيير التصورات فى جميع أنحاء القارة عن الإسلامويين «غير العنيفين»، وفى صيف عام 2021، انهارت حكومة الإخوان التونسيين أيضًا فى مواجهة المقاومة الشعبية.

فى المرحلة الرابعة بالنسبة لألمانيا من التعامل مع جماعة الإخوان، حذا الألمان حذو دول مثل النمسا وفرنسا، التى عززت تدابير مكافحة الإرهاب والتطرف على أراضيها. ومن ثم، شرعت ألمانيا فى بحث الأضرار الاجتماعية التى تسببها الجماعات المتطرفة، ليس فقط الإسلامويين مثل جماعة الإخوان المسلمين، ولكن أيضًا جماعات مثل الذئاب الرمادية القومية المتطرفة التركية. وبدأ الألمان فى الانتقال إلى سنِّ تشريعاتٍ، خاصة تلك التى تهدف إلى تقييد مصادر التمويل الأجنبية للجماعات الإسلاموية، وتحديد خريطة التمويل من المساعدات المالية الحكومية، والإعفاءات الضريبية، والاستثمارات مثل العقارات، وتنظم أنشطة الإسلامويين داخل ألمانيا.

على المستوى الأمنى، يتخذ «المكتب الفيدرالى الألمانى لحماية الدستور» نهجًا أكثر نشاطًا تجاه جماعة الإخوان، ويراقب هياكلها ونواياها.

مركز دراسات عين على التطرف فى أوروبا

صراع على عرش الإرهاب

«نصرة الإسلام» أخطر من داعش والقاعدة على أمن المنطقة

فى عام 2017، ظهرت جماعة جهادية جديدة فى منطقة الساحل، تُسمَّى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين. فى البداية، كان يمكن توقع اختفاء الجماعة أو استيعابها من قبل الجماعات الأخرى، ومع ذلك، فلم تنجُ الجماعة فحسب، بل ازدهرت أيضًا، وأصبحت أكثر شهرة من جماعاتٍ مثل تنظيم داعش- ولاية الصحراء الكبرى، وغيرها، ما دفع القوات الفرنسية فى المنطقة إلى تحويل انتباهها إليها.

يمكن أن تعود الأهمية المتصاعدة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى مؤسسها وزعيمها، إياد أغ غالى، وهو جهادى محترف يُجسّد شخصية «كبير الجماعة»، الذى يمارس السلطة على قادة فرعيين مستقلين من خلال الدعم المادى والسلطة. غالي، الذى تورط سابقًا مع تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى، والجماعات المنشقة عنها، والتابعة لها مثل «أنصار الدين» و«كتيبة ماسينا»، ليس مجرد مجاهد، بل هو رجل أعمال عمل فى قنصلية مالى فى المملكة العربية السعودية لمدة ثلاث سنوات، قبل أن تُرحله السلطات لإقامة علاقاتٍ مع المتطرفين. هذا السجل الشخصى يوضح بجلاء طموح غالى غير المستتر الذى قاده فى نهاية المطاف إلى تأسيس جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.. يتفوق غالى فى استغلال فراغ السلطة المحلية والإقليمية، والروابط القبلية والعائلية، ويحقق مكاسب شخصية إلى جانب المكاسب الأيديولوجية، أحد أبناء عمومته، على سبيل المثال، مالك أبو عبدالكريم، كان أحد كبار عناصر القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى المسؤول عن العديد من عمليات اختطاف القاعدة، ولا غرابة أن غالى عمل كمفاوض فى أخذ الرهائن والمساومة عليهم بعد ذلك. كما أنه يتمتع بعقلية سياسية فذّة قادرة على فهم الحقائق والفروق الدقيقة فى المنطقة. لقد استوعب الدروس المستفادة من إخفاقات الجماعات الأخرى، مثل «دولة أزواد الإسلامية»، التى استمرت بضعة أشهر فقط؛ بسبب فرضها الصارم للقوانين الإسلامية مثل بتر أيدى اللصوص، وحظر الكحول والسجائر والموسيقى.

الشعبوية الرعوية

نجح غالى فى تبنى سياسية «الشعبوية الرعوية»، التى تستمد من قواعد اللعبة التى يتبعها تنظيم القاعدة لتشكيل تحالفاتٍ مع الجماعات المحلية من خلال الاعتراف بمظالمها المحلية. ساعدت هذه السياسة، إلى جانب حالة التشظى المتنامية فى جميع أنحاء منطقة الساحل، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين على تحقيق الهيمنة المحلية والمحافظة عليها. وفى حين أن الجماعة تستخدم العنف بالتأكيد لتحقيق تفوقها، فإنها تخفِّف من حدة ممارسة العنف بمجرد أن تحقِّق الهيمنة المنشودة. وقد أثبت هذا التكتيك فعاليته –ليس فقط بالنسبة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين– لأنه يبثُّ الرعب فى قلوب السكان، ويدفعهم إلى الخضوع، ثم ينقل العبء إلى السلطات الحكومية التى لا تحظى بالفعل بشعبية لدى الناس، الذين يرون أنها فاسدة وبطيئة وغير فعّالة. هذه البيئة غير المستقرة تمنح الجماعة ميزة عندما يتعلق الأمر بالتفاوض مع الحكومة.. إضافةً إلى ذلك، تتمتع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بحضورٍ قوى على وسائل التواصل الاجتماعي. فمن خلال الاندماج مع كتيبة ماسينا -جماعة ذكية على وسائل التواصل الاجتماعى، تتمتع بحضورٍ كبير على الإنترنت- نجحت الأولى فى تشكيل سردية الصراع، يشتهر أمادو كوفا، زعيم كتيبة ماسينا، باستخدام واتساب وفيسبوك وتلجرام فى تجنيد أعضاء من قبائل الفولاني. وتستخدم جماعة أنصار الدين، الجماعة التى أسسها غالي، تطبيق تلجرام لتصوير نفسها على أنها المنافس الرئيس للحكومة العسكرية القمعية فى مالى.

وإلى جانب التحديات العملية المتمثلة فى توحيد الفصائل المختلفة لمقاومة «الصليبيين»، تُظهر جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التزامًا أكثر صرامة بالأجندة اللاهوتية السلفية الجهادية. ففى كتيبين مهمين صدرا فى عام 2020، يُسلّط عالم الدين الموريتانى قتيبة أبونعمان الشنقيطى الضوءَ على كيف أن الجماعات الإرهابية الناشئة مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تسحب البساط من تحت أقدام تنظيم القاعدة وداعش. ويبرز الشنقيطى التناقض بين نهج القاعدة البطيء والثابت، الذى يدعو إلى التجنيد والمشاركة المحلية لكسب تأييد السكان والمجندين، ونموذج داعش، الذى يحاول تمكين المجاهدين من العمل.

ما يظهر أيضًا فى وثائق الشنقيطى هو التأكيد على الحاجة إلى تحرير فلسطين ودعم القضية الفلسطينية – وهو أمرٌ غير مفاجئ، بالنظر إلى هجوم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين فى يناير 2019 فى أجويلهوك، الذى أسفر عن مقتل عشرة من قوات حفظ السلام التشادية، وإصابة خمسة وعشرين آخرين. وفى إعلان مسؤوليتها، زعمت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين أنها جاءت ردًا على التطبيع بين إسرائيل وتشاد، وتضمنت إشارة على دعوة للتحرك من قبل زعيم القاعدة أيمن الظواهرى.

إسحاق كفير - مركز دراسات عين أوروبية على التطرف.