الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى الذكرى الـ 19 لرحيله

صدور السيرة الذاتية للمفكر إداورد سعيد بقلم أحد تلاميذه

صدر حديثا عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت السيرة الذاتية للمفكر العربى الفلسطينى الشهير ادوارد سعيد



هذه السيرة التى كتبها تلميذ إدوارد سعيد بلغة توثيقية تحاول أن تكشف الجانب الآخر من سعيد، أو ما لم يقله فى سيرته «خارج المكان» أو ما قاله ولم يكن يقدّم حيثياته الموضوعية مثل سبب تركه لفيكتوريا كولدج، وبروح التلميذ المُحبِّ لأستاذه يؤكّد أنَّ سعيدًا كان أكبر من واقعه، نعم هذا ما قاله، وما حاول فعلًا التأكيد عليه عمليًّا من خلال تناول أعمال سعيد بالتحليل والتدقيق والتمحيص، لكن ليس المنتج الفكرى هو ما أراد المؤلف أن يكون عمدة الكتاب، هو ينقل تجربته مع سعيد واحتكاكه بحياته، فكما يقول إنَّ الذين عرفوا سعيد من قراءة كتبه فقط لم يروا كل ما فيه، لكن ماذا أرانا تِمُثى برنَن من الجانب الآخر.. طفولة قلقة العلاقة مع أبيه وديع، عشق سعيد للموسيقى، أحلامه أن يكون عازفًا، مشكلته فى فيكتوريا كولدج التى تركها ورحل إلى ماونت هيرمن فى أمريكا، حلمه أن يكون طبيبًا وكيف آلت الأمور به إلى طريق الأدب.

لا يبدو أنّ كتاب الاستشراق هو كل شئ فى سيرة سعيد ولا ما كتبه بعده؛ إذ يظل موقف سعيد من القضية الفلسطينية وما كتبه من المواقف الحاسمه فى حياته، يحكى لنا الكتاب كيف أدرك سعيد هويته للمرة الأولى من خلال حكايات نبيهة أخت أبيه الأولى، فقد تركت فيه أثرًا كبيرًا بما روته من قصص مُحزِنة عن المصاعب التى واجهها الفلسطينيون بعد ١٩٤٨، وصف سعيد تلك السنوات فى طفولته بأنَّها كانت شرنقة، بينما يؤكّد تمُثى بأنّ شخصيته السياسية كانت قد تبلورت فى تلك الفترة، ومع إيمانه بقضية فلسطين يبدو أنَّه لم تكن مشكلته مع اليهود كجنس، فالكتاب حافل بأسماء المعلِّمين اليهود الذين تتلمذ على يدهم إدوارد سعيد، مثلًا تعلم الموسيقى على يد البولندى إجناسى تيغرمان، ولاشك أنَّه اعتُمِد كموسيقى محترف بعد عدة سنوات من الدراسة فى جامعة برينستون، ولكن كان قراره بالانغماس فى الأدب هو الذى قاد إلى أهم ما كتبه وهو كتاب الاستشراق.

لا تبدو علاقة سعيد بالدين جيدة أو قوية، البعض حاول تصويره ملحدًا، لكن الرجل يبدو علمانيًا متسامحًا مع الاعتقادات الإيمانية، قال عن نفسه «أنا ملتزم بالعلمانية، ولكن هذا لا يعنى أننى ضد الدين»، وما يهمنى أنا كقارئ لسعيد أنَّ الرجل حاول أن يكون منصفًا ومتسقًا فى تقييماته التى أثارت عاصفة من الجدل حول الاستشراق، والبعض مثل رودنسن شكّك فى إمكانياته لتقديم مثل ذلك النقد للاستشراق بوصفه متخصّصًا فى حقل الأدب الإنجليزى والأدب المقارن، ويُدرك الكتاب أنَّ ثمة تناقضات فى أطروحة سعيد لكنه يرفض تلك النبرات التشكيكية فى قدراته، ويرى أنّ كثيرًا من الاتهامات لا أصل لها مثل كون سعيد من أتباع ما بعد الحداثة، فى حين يقول تمُثى أنَّ سعيدًا نسف مفهوم ما بعد الحداثة و عارض ما بعد البنيوية ووصف جاك دريدا بأنَّه «مفكّرًا منحلّاً متصنّعًا». قرأ سعيد فى التحليل النفسى السياسي، وكان من أنصار الحركة النسوية، لكن ما يمكن الاستفادة فيه من سعيد فعليًا هو نقده للاستشراق ولو كانت هناك مؤاخذات، وكذا ما تكلَّم عنه الكتاب من كون سعيد لم يكن مستعدَّا لحصر الإمبريالية فى «الاتجاه الذهنى» وحده، بل ربط ذلك بالحقائق المادية المتمثِّلة فى الاستيلاء على الأراضى، قد يكون من الحقائق أنَّ أطروحة سعيد حول القضية الفلسطينية شائكة بل ومرفوضة، لقد رفض سعيد أوسلو ووصفها بالخيانة، لكن بالمقابل كان سعيد يذبح فلسطين وهو يقوم بالتأويل الهوياتى لها، كيف لم ينقد تمُثى هذا؟! ويؤمن سعيد بأنَّه من غير الممكن إبعاد الفلسطينيين و«الإسرائيليين» عن بعضهم البعض، وأنَّ «اليهود الإسرائيليين» وُجدوا فى فلسطين ليبقوا فيها إلى الأبد، ومن الوهم الاعتقاد بعكس ذلك. ولذا فهو يرى أنَّ تحرير «اليهود الإسرائيليين» المغلوبين على أمرهم من الصهيونية التى لوثت طهارة اليهود «المساكين» إلى حد البراءة، يقع على الفلسطينيين حيث العبء الأخلاقى يتمثل فى نهاية المطاف «فى النقلة من التعرض للانتهاك إلى المسئولية عمن يمارس الاضطهاد، من المعاناة إلى التكفير عن الآخر».

لقد أصابت سعيد حالة هذيان واسترخاء عقلي، أو قل إن شئت الدقة، فى لحظة هزيمة نكراء تكبَّدتها الحركة الوطنية الفلسطينية، جعلته يقرر أنّ الحل يكمن فى ترتيبات فيدرالية تؤدى إلى نظام ثنائى القومية، إن تِمُثى يرفض تسميه هذا الأمر انهزامية ويُعلِّله بأنَّه انطلاق من واقع سياسى لا يسر، بالتأكيد قول تِمُثى هو الذى لا يسر، بتصورى لم يقدّم الكتاب التحليل المناسب لانهزامية إدوارد سعيد هنا، وأرى أنَّ المشكلة الحقيقية هى أنَّ ثمة فرضية مهيمنة على منظرى ما بعد الاستعمار الذين يعد سعيد أبرزهم وممن وضعوا الإطار النظرى لذلك التوجه.

تنطلق الفرضية من فكرة أنَّ الاستعمار أعاد تشكيل الجماعات المستعمَرة. لذا تبقى من المهمات الأولى للمقاومات المحلية أن تتمثَّل منطقًا لا يعيد المجتمع إلى الحِقبة السابقة على الاستعمار، إلى مرحلة النقاوة ما قبل التاريخية، بل عليها أن تشتق فعاليتها من حرمانات الحاضر الراهن، وأن تجترح لمجتمعها طبيعة ثالثة تتجاوز الحِقبة الاستعمارية.