الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

ثقافة إدمان الهوس الافتراضى

فى الزمن الرقمى والإنترنت وتكنولوجيا الاتصال لا نستطيع إلا تقدير إنجاز البشرية والفتوحات الهائلة التى مكّنت من تيسير التواصل وجعله فى متناول غالبية السكان فى العالم.



طبعًا كل الإنجازات تظل إيجابية وتدافع عنها وظيفتها التى من أجلها تم ابتكارها ووضعها، لكن المشكل يكمن دائمًا فى كيفية الاستعمال والتوظيف. فى هذا السياق، نلحظ أن استعمال العالم العربى والإسلامى لتكنولوجيا وسائل الاتصال تغلب عليه بعض الخاصيات التى نعتبرها مهمة من ناحية ما ترمز إليه، وما تكشف عنه من حقائق جديرة بالحفر فيها علميًا ومحاولة استنطاقها.

نظرًا لتعامل الإنسان مع وسائل التكنولوجيا الهائلة، فإنه من الطبيعى أن يصاب بالإدمان؛ بداية بالتلفاز والـ«ريموت كنترول»، مرورًا بالهاتف الذكى وأجهزة الحاسوب، ونهاية بـ «الإنترنت» ومواقع التواصل الاجتماعى مثل «تويتر» و«فيسبوك".

فالأرقام تشير إلى ملايين من العرب يستخدمون منصتى «تويتر» و«فيسبوك» وغيرهما، كما أن هذا الاستخدام، وهنا مكمن الاستغراب، يستغرق فى معدل يومى ساعات، ما يدفعنا لوضع مجموعة من نقاط الاستفهام.

فالوقت المخصص لشبكات التواصل الاجتماعى مقارنة بالمجتمعات الأوروبية يعد أكبر بكثير، بشكل يشير إلى نوع من الهوس والإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي.

فالواضح هو وجود مشكل فراغ وتعويض، ويحيل هذا المشكل بدوره إلى مشكلات أخرى عدة مختلفة الأبعاد؛ ذلك أن ظاهرة الإدمان على الافتراضى لساعات طويلة هى موقف من العالم الواقعى ذاته وتعبير عن اغتراب عميق.

اختلف العلماء فى تعريف كلمة «إدمان»، فيصر البعض على أن الكلمة لا تنطبق إلا على مواد قد يتناولها الإنسان، ثم لا يقدر على الاستغناء عنها، وإذا استغنى عنها تسبب ذلك فى حدوث أعراض الانسحاب لتلك المادة التى تعرضه لمشاكل بالغة، وبالتالى لا يستطيع أن يستغنى عنها مرة واحدة، بل يحتاج إلى برنامج للإقلاع عن تلك المادة، باستخدام مواد بديلة وسحب المادة الأصلية بشكل تدريجي، كما هو الحال فى أغلب حالات المخدرات.

فى حين يعترض بعض العلماء على هذا المفهوم الضيق للتعريف، إذ يرون أن الإدمان هو عدم قدرة الإنسان على الاستغناء عن شيء ما، بصرف النظر عن هذا الشيء، طالما استوفى بقية شروط الإدمان، من حاجة إلى المزيد من هذا الشيء بشكل مستمر حتى يشبع حاجته حين يحرم منه.

وبالتالى اقتنع بعض العلماء أن هناك من يسمون بمدمنى الإنترنت، فى حين اعترض آخرون وتعرضوا لاستخدام بعض الناس الإنترنت استخدامًا زائدًا عن الحد على أنه نوع من أنواع الرغبات التى لا تقاوم  وبصرف النظر عن التعريف واختلاف العلماء فى التسمية؛ فإنه لا خلاف على أن هناك عددًا كبيرًا من مستخدمى الإنترنت يسرفون فى استخدام الإنترنت حتى يؤثر ذلك على حياتهم الشخصية. وقد حدد العلماء مجموعة من التأثيرات والأعراض للإدمان على الإنترنت كإهمال الشخص لعمله أو دراسته أو تأثر مواعيده وعلاقاته الاجتماعية بسبب كثرة جلوسه على الإنترنت وتمحور حياته حوله، مما يأتى بنتائج سلبية بالطبع على حياة الفرد.

فأى ارتباط بين ظاهرة البطالة والهوس الافتراضي؟ وأى صلة بين الفراغ فى الواقع والإدمان على الافتراضى؟ وإلى أى مدى يعكس حجم الزمن المخصص لشبكات التواصل الاجتماعى إهمالًا للعمل، باعتبار أن تثمين قيمة العمل يشترط إيلاء الوقت وكيفية عدم إضاعته الاهتمام اللازم؟

ما من شك فى أن البطالة سبب قوى من أسباب الهوس بالافتراضى لأن إهدار الوقت يعنى أن القائم بذلك لا وقت ثمينًا له ولا شيء جديًا يشغله. وهذا إلى حد ما صحيح مع توضيح أن عددًا كبيرًا من الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعى فى الفضاء العربى الإسلامى إنما يقومون بذلك أثناء العمل، وهو ما يفسر الأرقام المتدنية جدًا بخصوص مدى حسن استثمار الوقت أثناء العمل.

وبشكل عام، فإن البطالة لا يمكن أن تكون السبب المقنع فى تبرير الهوس الافتراضي، لأن البطالة يمكن أن تكون حافزًا لاستغلال الوقت فى البحث عن العمل أو فى تحسين مَلَكات الباحث عن العمل وإثراء ملفه.

ومن الأعراض الأخرى، الشعور بالاكتئاب والضيق والتوتر، عند عدم القدرة على الدخول إلى شبكة الإنترنت، وكلما طالت مدة الابتعاد عن الإنترنت زادت الأعراض. والشعور بالراحة النفسية والسعادة الغامرة عند العودة لاستخدامه. وأيضًا عدم القدرة على التحكم فى الوقت الذى يحدده الشخص لنفسه، للجلوس واستخدام الإنترنت. فربما يحدد الشخص لنفسه 3 ساعات يوميًا مثلًا كحد أقصى، ثم يجد نفسه قد تصفح الإنترنت لمدة قد تزيد على 7 ساعات. فإدمان الإنترنت يؤدى إلى إهمال قيمة الوقت فى سبيل الحصول على المتعة التى يشعر بها الفرد عند استخدامه للإنترنت.

طبعًا من المهم الإشارة إلى أن الإبحار فى الافتراضى والرهان على أصدقاء افتراضيين إنما يعكس نوعًا من الهروب من نمط العلاقات الاجتماعية التقليدية والتوغل فى الوهمى ... ومن دون أن ننسى العلاقة بالذات التى أصبحت وفق غالبية التدوينات والمنشورات فى شبكات التواصل الاجتماعى استعراضية ومظهرية ولا تفصل بين الحميمى والخاص والعام. بل إن هناك من يبدأ يومه بالتحية الصباحية وينهى اليوم بتحية المساء، ما يعنى أن كل الزمن الذى يتحرك فيه إطاره افتراضى..

تسبب الإدمان فى اضطراب نوم صاحبه، بسبب حاجته المستمرة إلى تزايد وقت استخدامه للإنترنت، إذ يمضى أغلب المدمنين ساعات الليل كاملة على الإنترنت، ولا ينامون إلا ساعة أو ساعتين حتى يأتى موعد عملهم أو دراستهم. ويتسبب ذلك فى إرهاق بالغ للمدمن، ما يؤثر فى أدائه فى عمله أو دراسته، كما يؤثر ذلك فى مناعته؛ ما يجعله أكثر قابلية للإصابة بالأمراض.

يتسبب انغماس المدمن فى استخدام الإنترنت وإمضائه أوقات أطول وأطول، فى اضطراب حياته الأسرية، إذ يمضى المدمن أوقاتا أقل مع أسرته، كما يهمل واجباته الأسرية والمنزلية؛ ما يؤدى إلى إثارة أفراد الأسرة عليه.

اللافت من جهة ثانية أن إهدار الوقت فى وسائل التواصل الاجتماعى فيه دليل على أننا أمة لا تحسن توظيف الوقت؛ خصوصًا أن التحديات الماثلة أمام المجتمعات العربية اليوم والمتمثلة أساسًا فى الرهان على العمل وبذل الجهد والتقدم فى مسار التنمية والقيام بالإصلاح والمعارك الثقافية القيمية التى تحتاج إلى عناية خاصة ونفس طويل والمثابرة... كل هذا يحتاج بدوره إلى الوقت ويتناقض مع كل مظاهر إهدار الوقت.

المشكل أن الهوس بالافتراضى أصبح يشكل الكبار والصغار والشباب وينطوى على برود تجاه الأطر الاجتماعية المعهودة مثل الأسرة والصداقة وغير ذلك.

بسبب وجود الإنترنت فى مكان عمل كثير من الناس، يحدث فى بعض الأحيان أن يضيع العامل بعض وقت عمله فى اللعب على الإنترنت، أو استخدامه فى غير مواطن تخصصه، وهو ما يشكل مشكلة أكبر إذا كان العامل مدمنًا للإنترنت، كما أن سهر مدمن الإنترنت طيلة ساعات الليل، يؤدى إلى انخفاض مستوى أدائه لعمله.

 ووفق ما نشرته صحيفة «الديلى ميل» البريطانية فإن علماء اكتشفوا أن الهواتف المحمولة تجعلنا نمشى بسرعة أقل مع خطوات مبالغ فيها لتجنب العقبات التى يصعب رؤيتها بسبب تركيز النظر فى شاشات الهواتف، ويقول علماء: إن هذا التغيير فى الخطوة يمكن أن يسبب مشكلات فى الظهر والرقبة على المدى الطويل، ويذكر دكتور ماثيو تيميس المؤلف الرئيس للدراسة التى أجريت فى جامعة أنجليا روسكين فى كامبريدج: أن خطوات المشى بهذه الطريقة تكون مشابهة لخطوات شخص فى الثمانينيات من العمر. الصحة العالمية: إيجابيات التكنولوجيا والإنترنت تفيد المسنين تذكر منظمة الصحة العالمية فى «التقرير العالمى حول التشيخ والصحة» الذى أصدرته مؤخرا، أنه بالنظر إلى المستقبل لا إلى الماضى فإن التغيرات التكنولوجية ترافق تشيخ السكان، وتخلق الفرص التى لم تكن متاحةً أبدًا فى السابق، وعلى سبيل المثال، فإن الإنترنت يمكن أن يؤمن استمرار الاتصال بالعائلة رغم المسافات، وإتاحة المعلومات يمكن أن توجِّه المسن فى رعايته لنفسه أو توفر الدعم للقائمين على رعايته، وصارت الوسائل المساعدة مثل أجهزة تقوية السمع أكثر وظيفية، وأكثر يسرًا مما كانت عليه فى الماضي، والأجهزة المحمولة صارت توفر فرصًا جديدة لرصد الصحة والرعاية الصحية المصممة وفق احتياجات الشخص.

أما النقطة الأخرى الجديرة بالتركيز أيضًا فتتمثل فى توظيف شبكات التواصل الاجتماعى فى إلحاق الأذى بالآخر مع ما يعنيه ذلك من سلوك عدوانى وعنيف، والحال أن الهدف الأولى من هذه الشبكات هو تيسير التواصل بين الناس للتعارف والمشاركة وتبادل الآراء والمعلومات والمعارف والقصص والتجارب بشكل يغنى الثقافة الإنسانية ويجعلها أكثر تنوعًا.