السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

رسائل الأدباء إلى الكاتبات العربيات قصص حب لم تكتمل

الترسل جنس أدبى قديم، ازدهر بخاصة فى القرنين الرابع والخامس للهجرة، وحسبنا أن نتصفح رسائل ابن حزم والخوارزمى وأبى إسحاق الصابى والصاحب بن عباد، حتى نتبين ما أولاه القدامى من عناية فائقة بهذا الفن، الذى بلغ مستوى من النضج الفنى والتطور التخاطبى جعل هذا الجنس من الكتابة ينافس الأجناس الأدبية التقليدية مثل الشعر والمقامة، غير أن حركة المراسلات تراجعت بعد القرن الخامس ولم تعد إلى سالف ازدهارها إلا فى العصر الحديث، حين أدت التحولات العميقة التى شهدها المجتمع العربى، منذ بداية القرن العشرين، إلى ظهور عوامل أسهمت فى ازدهار حركة المراسلات منها هجرة الأدباء وتطور وسائل الاتصال.



الرسائل الأدبية تمثل الصوت الداخلى للكاتب، لأنه فى ثناياها، يبث أكثر الأفكار والمسائل قربًا وتعبيرًا عن نبض قلبه، سواء كان ذلك همًا فكريًا أو إنسانيًا أوجدانيًا، ومن هنا، فإن الرسائل قادرة لأن تعكس لنا الصورة الحقيقية لطريقة تفكير أولئك المبدعين الذين تراسلوا يومًا، وكذلك أجواءهم الاجتماعية ومكوناتهم الثقافية والنفسية وأوضاعهم السياسية بطريقة عفوية وصادقة.

ويتتبع الدكتور شفيع بالزين فى كتابه (الرسائل بين الأدباء العرب فى العصر الحديث) أثر التباعد المكانى والتفاوت الزمانى فى كتابة الرسالة الحديثة. فهذا الفن يعرف منذ القدم بأنه «كلام يراسل به من بعُد أو غاب»، وهذا يعنى أن التراسل يستمد مقوماته ومبررات إنتاجه من التباعد بين الطرفين المتخاطبين، أى من وجود مسافة مكانية وتفاوت زمنى مباعدين بينهما. ولا تظهر آثار هذا التباعد فى الرسائل الحقيقية فحسب، بل تظهر أيضًا فى الرسائل المتخيلة مثل «أوراق الورد» وهى مجموعة من الرسائل كتبها الرافعى إلى صديق بعيد تخيَّله. فعمد الكاتب إلى اختلاق مقام التباعد و«تبعيد» المخاطب أو المرسل إليه، حتى يكون بالإمكان التخاطب ترسلًا. ويشير الباحث إلى أن الأعمال النقدية العربية لم تعرج على مقام التباعد إلا فى القليل النادر، لكنها فى كل الأحوال لم تبرز دوره فى الرسائل وآثاره فى التخاطب. وهذا ما أوضحه الباحث من خلال عدد من الرسائل أبرز فيها أثر هذا المقام، مقام التباعد، فى بنية الرسالة وأسلوبها وطرائق تصريف القول فيها.

ويرى الباحث التونسى الدكتور  شفيع  بالزين أن من خصائص الترسل «الحوارية». فجل الأدباء تعاملوا مع الرسائل المتبادلة على أنها ضرب من الحوار المنعقد بين المرسل والمرسل إليه. فكل مراسلة ليست فى الواقع سوى نصف مراسلة، لأنها لا تكتمل إلا بجواب المرسل إليه، «ويجعلها بالتالى قائمة على جدل الاكتمال والنقص»، فهى مكتملة لأنها تعرض نفسها على القارئ فى هيئة نص مكتمل، وناقصة لأنها من دون جواب المرسل إليه تفقد معناها. ومن خلال عدد كبير من الأمثلة أوضح الكاتب أثر السمة الحوارية فى بنية الرسالة ولغتها وأسلوب كتابتها، ومن أخص خصائص الرسالة عنصر الذاتية، وقد تبسط الكاتب فى الحديث عنها بوصفها مقومًا من مقومات فن الترسل. وهذه السمة لا تتنافى مع الحوارية، لأن الذاتية لا تعنى انغلاق المتكلم على نفسه، بل إن التخاطب الثنائى فى الرسائل شرط من شروط تحقق الذاتية التى تبنى من خلال المقابلة والمواجهة مع المخاطب.

وسوف نلقى الضوء على الرسائل المتبادلة بين مى زيادة وجبران خليل جبران فى «الشعلة الزرقاء»، والرسائل بين أنور المعداوى وفدوى طوقان، ورسائل غسان كنفانى إلى غادة السمان.

 نبدأ بقصة جبران خليل جبران ومى زيادة اللذين عاشا علاقة طويلة دونما لقاء، عُرِفت باسم «الحب العذرى» أو «الحب الصوفى». وما زالت هذه العلاقة تثير الأنظار والتساؤلات.

ليس من شك فى أنّ الرسائل التى بعث بها جبران من المهجر إلى سيدة الأدب فى المشرق العربى مى زيادة من أجمل ما خطته أنامل الأدباء فى سجل أدب الرسائل. كان جبران آنذاك يحيا فى الولايات المتحدة، ومى زيادة فى مصر. وكان يفصل بينهما السهول والجبال والصحارى والبحار، وما لا يقل عن 7 آلاف ميل. فاختصرت الرسائل المسافات بينهما، وألَّفت بين قلبيهما. وقد بلغ ما تم جمعه فى كتاب (الشعلة الزرقاء) يضم  37 رسالة، ارتقت من الإعجاب والتحفظ فى البداية إلى التحرر والتودد فيما بعد. وقد بالغ الشرق فى نظرته إلى طبيعة هذه العلاقة إلى حد نعتها بـ«الحب العذرى» و«الحب الصوفى السامى» و«الحب السماوى»…

لكن هذا الحكم يبدو خاضعًا لنظرة عاطفية من زاوية واحدة، اعتمادا على جملة من الرسائل بعث بها الشاعر المهجرى إلى مواطنته بيد أننا إذا ما تحررنا قليلًا من أغلال العاطفة وحاولنا مشاهدة هذه العلاقة من زوايا متفرقة وقرأنا بين الأسطر وتبصرنا سيرة جبران ونظام حياته وعلاقاته فى البيئة الجديدة، تبينا أن هذه العلاقة – التى نقرأ فيها الإعجاب والتودد والانجذاب – فى الواقع لا تتجاوز حدود الصداقة الحميمة.

من الخطأ الاعتقاد أنَّ مى زيادة نزلت أعلى منزلة فى نفس جبران، فالمرأة التى شغلت قلبه وفكره كانت مارى هاسكل، وهذا ما اعترف به جبران فى رسالة بعثها لها سنة 1926 قال لها فيها: «أنت أعزُّ شخص على قلبى فى هذا العالم»!

ولهذه المكانة أكثر من مبرر فى الواقع، فهذه المرأة كانت قريبة منه تحيا بجواره عكس مى زيادة البعيدة عنه ومارى هاسكل عاشرته لمدة أطول من مى زيادة، إذ أنها عرفته سنة 1904 وكان آنذاك فى الحادى والعشرين من عمره وبقيت بجواره حتى وفاته عام 1931 عن عمر يناهز 48 أى (27 سنة) مقارنة بمى زيادة (20 سنة). وبينما لم تعرف مى زيادة جبران إلاَّ من خلال المراسلة، فإنّ مارى هاسكل عرفته فى الواقع، فكانت له معينا ماليا، ومستشارا ماليا حينما أراد شراء أسهم فى شركات مالية، وسندا معنويا فى مسيرته الفنية، فاعترف بفضلها: «لقد أصبحت فنانًا بفضل مارى هاسكل.

ولا نلتمس أى اعتراف مباشر بحبه لمى زيادة طيلة هذه السنوات، ما يشكك فى مصداقية هذا الحب وأى حب هذا الذى يدوم عشرين سنة دون أن يعبّر فيه الحبيب عن عميق الحب ومرارة البعاد! وها هو جبران من جهة أخرى وعكس ذلك تماما، وبعيدا عن أى خجل أو زهد، يعترف بحبه السرمدى للمرأة التى أحبها حقا، مارى هاسكل: «سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقى كبشريَيْن من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان ذلك هو القَدَر. أنتِ وأنا قريبان؛ ففى الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكرى هذا دائمًا.

لعلّ نظرية «البعيد عن العين بعيد عن القلب« تنطبق على هذه العلاقة، ليس من حيث البعد الجغرافى المعتبر فحسب وإنما أيضًا من حيث البعد الثقافى والفكرى بين مى التى كانت تحيا فى مجتمع شرقى محافظ، مقيدة نساؤه، وجبران فى مجتمع غربى متفتّح، متحررة نساؤه. فاختلاف نهج الحياة والثقافة والتفكير جلى لا ينكر، ما خلق حاجزا منيعا يضاف إلى حاجز المسافة.

ليس من شك فى أن خطابات جبران خليل جبران ومى زيادة ستبقى من أعظم كلاسيكيّات فنّ المراسلة فى الوطن العربى والعالم. لكن، إن كانت لهذه العلاقة قيمة أدبية وفكرية وفنية لا تنكر، فإنها لا ترقى إلى مستوى حبّ صادق حقيقى.

أما المراسلات بين غسان كنفانى  وغادة السمان  فظهرت فى كتاب ينضم إلى قائمة أدب الرسائل والاعترافات... من غسان كنفانى إلى غادة السمان يعتبر غسان أحد أشهر الكتاب والصحفيين العرب.. فلسطينى.. استشهد سنة 1972 وعمره 36 سنة، أما عن غادة فهى كاتبة سورية دمشقية لا تزال على قيد الحياة.

هذا الكتاب لم ينشره غسان كنفانى وإنما نشرته غادة بعد عشرين سنة من وفاته فى ذكرى وفاته فى تلك السنة… الشىء الذى يدعو إلى التساؤل أنه بقرائتك للرسائل يتضح منها أنها رسائل خاصة بينهما بين اثنين كان بينهما نوع من الاعجاب أو الحب وتبادلا الرسائل بكل عفوية! بررت غادة نشر هذه الرسائل بأنهم قد قطعوا عهدا على نشر رسائلهم معا… مع أنه ليس من ضمن الرسائل أى شىء يشير لهذا.. وقالت أيضا إن هذه الرسائل انتقلت من الخاص إلى العام بحيث صارت وثيقة أدبية ونوعا أدبيا الذى ينضم إلى أدب الرسائل والمراسلات غير الرسمية.. مراسلات الاعتراف وأن بنشرها لهذه الرسائل تحيى ذكرى غسان وتكريم لهذا الشهيد.

« لكنها تعترف فى بداية الكتاب بعامل النرجسية الذى يتستر خلف هذه التبريرات بالفخر الذى تشعر به بحب رجل مثل غسان لها وتقول:

«بأن كل أنثى تزهو بعاطفة تدغدغ كبرياءها الأنثوية… وأنها لا تستطيع تبرئة نفسها من ذلك جزئيا» ممكن نجد اختلافا كبيرا وآراء ممن قرأوا الكتاب حول لماذا نشرت هذا الكتاب؟… أنا عن شخصى كنت أحبذ أن تبقى رسائل شخصية تحتفظ بها غادة لنفسها وتعتز بذلك مع نفسها أو تنشر رسائلهما معا.. ومما يجعلها خاصة أن هناك رسائل يستنجد فيها غسان أن تكتب له وفى رسائل أخرى يلومها أنها تكتب لغيره ولا تكتب له.. وفى رسائل أيضا عن ردود غادة.. ردود مجحفة فى حق كمية الحب والتقدير وإن كانت مبتذلة من غسان!

وقد اتهم بعض النقاد أن غادة قصدت تشويه سمعة غسان وإخراجه فى صورة الضعف بعد البطولة والشجاعة التى اقترنت بها

نذكر لكم بعضا من الرسائل:

كان دائما يبدأ رسائله بعزيزتى غادة عزيزتى غادة

أراك دائما أمامى، أشتاقك، أعذب نفسى بأن أحاول نسيانك، فأغرسك أكثر فى تربة صارت كالحقول، التى يزرعون فيها الحشيش، مأساتى ومأساتك أننى أحبك بصورة أكبر من أن أخفيها، وأعمق من أن تطمريها 

… غسان

أيها البعيد كذكرى طفولة، أيها القريب كأنفاسى وأفكارى أحبك، وأصرخ بملء صمتى: أحبك غادة

 أما رسائل الناقد المصرى أنور المعداوى إلى الكاتبة الفلسطينية فدوى طوقان فتضم 17 رسالة جمعها وعلق عليها الناقد الكبير رجاء النقاش وتكشف جانبا مهما من الحياة الشخصية والسرية لواحدة من أهم شاعرات العرب وأهم ناقد مصرى فى نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات. 

وأنه قد نشأت بينهما علاقة حب عذرى أضاف للأدب العربى نصا جميلا

كما تلقى الرسائل الضوء على جوانب عديدة من حياة المثقفين فى ذلك العصر: أفكارهم وعلاقتهم ومعاركهم.

وهذا نموذج من الرسائل المتبادلة بينهما:

< لماذا لم تـجـبـنـى على رسائـلـى الكثيرة؟! 

- صحيح لم أرسل لك ولا واحدة، ولكن هذا لا يمنع أنك أَخطأت بعدم الجواب إليها! 

فدوىٰ طوقان

من رسائلها إلى أنور المعداوى

 

- ‏إنّ أبلغ العذاب عندى، أن تكون هُناك عاطفتان متبادلتان، ثم لا تستطيع إحداهما أن تقول للأُخرى بصوتٍ جهير:

«إنَّـنـى أُحـبَـك» 

- لأنها تحسُّ من قرارة نبضها بأنه حب بغيرِ أَمل!

أنور المعداوى

من رسائله إلى فدوى طوقان.