الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«العابرون» عرض مسرحى متجدد المتعة والقيمة بمرور الزمن

 ضمن فعاليات الدورة التاسعة والعشرين من مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى قدم العرض المسرحى «العابرون» على خشبة الطليعة للمخرج عمر غايات وبطولة عماد إسماعيل، شارك العرض فى مسابقة الأعمال القصيرة التى تم استحداثها هذا العام، تعتبر هذه الإعادة الرابعة للعابرون الذى سبق وأن قدم عام 2006 ضمن فعاليات مهرجان الشباب المبدع بالمركز الثقافى الفرنسى، وحصل على جائزة أفضل عرض، أفضل إخراج، وأفضل سينوغرافيا، ثم تمت إعادته ضمن فعاليات مهرجان «كايرو بيروت» عام 2009 بألمانيا، وأعيد مرة ثالثة ضمن فعاليات مهرجان الشباب المبدع بالمركز الفرنسى، ثم كانت إعادته الأخيرة ضمن فعاليات التجريبي.



 

«العابرون» عمل تجريبى من الدرجة الأولى، يقدم فيه المخرج رؤيته عن الحياة والموت فى دقائق معدودات، ربما كان من بين أفضل العروض المسرحية التجريبية التى قدمت خلال دورة هذا العام، فهو دعوة للفكر والتأمل فى واقع الحياة أكثر منه مجرد عمل مسرحى تقليدى ينتمى للعروض الاعتيادية التى اعتدنا تكرار رؤيتها على خشبات المسارح، يروى العرض قصة قصيرة بسيطة حملت سردا لأفكار أكثر مما حملت أبعادا درامية، يحكى بطله عن آخر 30 دقيقة فى حياته كيف يصارع ويسرع للإلحاق باستغلالها حتى يلحق ميعاده..!، «هلحق ميعادي» جملة تكررت على لسانه كثيرا بين حيرة وخوف من ضياع الوقت وتأمل فى واقع حياته البائس، التى ربما لن يتكمن فيها من الإلحاق بموعده وتنفيذ طموحه ورغبته، جاءت فكرة العرض من جملة قرأها المخرج فى أحد أيام مشاركته ضمن فعاليات مهرجان أفينون بفرنسا، وهو مار فى أحد شوارع باريس وجد صاحب محل مغلق علق لافتة كتب عليها «أنا هموت بكرة».. استوقفت هذه الجملة المخرج عمر غايات وبطل العرض عماد اسماعيل، ودعتهم إلى التأمل فى معنى ما يوحى إليه هذا الرجل، ما الذى جعله يكتب تلك الجملة، فقررا معا نسج فكرة لعرض مسرحى حول فلسفة الحياة والموت، وما الجدوى من هذا السعى خاصة ونحن نعلم بحتمية وقوع الموت، مزج بين أفكار البير كامو فى اسطورة سيزيف وبعض مقالاته وفكره.. واقتراب ساعة الوفاة.

تجرد العمل من أشكال المسرح التقليدى، وحلق فى سماء الفكر والفلسفة والتأمل، ليأخذ الجمهور فى رحلة روحية وفكرية مع بطل العرض الذى يجرى مسرعا فى مكانه كى يلحق موعده، نعيش معه 30 دقيقة يستعد فيها لهذا الموعد داخل صندوق مغلق يقف البطل مواجها الجمهور وداخل هذا الصندوق تتوفر له وسائل المعيشة والحياة يبدأ فى الاغتسال أمام الجمهور وحلاقة ذقنه استعدادا للخروج يرتدى ملابسه، دائم النظر فى ساعته، التى يحاول أن يسبق زمنها كى يصل إلى موعده يستعرض رحلة حياته التى شهدت الكثير من المعاناة فى مهن متعددة وفى النهاية لم يصل إلى شىء منها.

  بدت خشبة المسرح مثل لوحة فن تشكيلى رسم عليها المخرج بالنور وأجساد السائرون فى رحلة العبور أفكاره عن الوجود، جميعنا جئنا إلى هذه الحياة عابرين بها نسير فى طرق متفرقة، يعبر كل منا رحلته ويحاول الإلحاق بأحلامه وغايته لكن دون جدوى، فى خلفيه المسرح يسير بشكل دائم مجموعة من البشر فى حركة سير لا تنتهى فهذا السعى الدائم رغبة فى الوصول متصل بدوام الحياة وبالتالى اتزنت حركة هذا السير الدائم مع هذا البطل الساكن فى صندوق صغير الذى يتحرك داخله ويقف متكلما أحيانا وصامتا أحيانا أخرى، وفى مزج بديع بين التمثيل والتعبير الحركى للراقص حازم حيدر الذى ظل يتحرك بجسده حركة دائرية مستمرة ومتواصلة مع سير السائرين وكفاح البطل فى الوصول، وكأنه المركز الرئيسى وطاقة الجذب العليا لكل هذه الحركة الكونية الدائرية التى لا تتوقف عن السير فى معاناة ورغبة أملا فى الوصول.

جنح المخرج للرمز فى التعبير عن أفكاره أكثر من الكلمات وبسرد الأفكار على لسان البطل عماد اسماعيل أكثر من مجرد تقديم حوار مسرحى تقليدى وكانت السينوغرافيا والإضاءة التى لعب بها فى كشافات النور التى وضعت أعلى رأس البطل وتوزعت بالتوازى على خشبة المسرح بالغة التعبير خاصة عندما ينظر إليها العابرون والبطل مشيرين بأصبع السبابة إلى أعلى وكأنهم يستحضرون ساعة الوفاة قبل رحلة الوصول، كما أشرنا العمل عبارة عن لوحة فنية تعبيرية رسمت بالإضاءة والحركة والديكور شديد البساطة والتعقيد فى آلية استخدام كل الأدوات التى استخدامها عماد اسماعيل بسرعة ومهارة فائقة اثناء حديثه وسرده لرحلة حياته ورغباته ثم استسلامه لساعة وفاته دون أن يلحق بموعده الذى سعى إليه بشدة، استخدم عماد ادوات متعددة نزع ملابسه ثم أعاد ارتداءها وفى لحظة الاستسلام بدأ فى إعداد الهيئة النهائية التى يبدو عليها الموتى بعد ارتداء الكفن، حالة مسرحية استثنائية قدمها بطل العرض والمخرج وصاحب التعبير الحركى حازم حيدر فى مزج نادر بين عناصره الثلاثة، لم ينفصل أو يشرد عنصر عن الآخر بل قدم فى وحدة واحدة متماسكة، ثم فى مقطع الفيديو الأخير الذى سار فيه الجميع بالشوارع عابرون ويختفى كل شخص مع السير اثناء هذا العبور، عمل بديع تناول فكرة فى غاية العمق بعناصر فنية منحت الصورة البطولة أكثر من الحوار المرسل، بجانب التمثيل الذى اعتمد على تأمل البطل فى رحلته الحياتيه بأسلوب سرد وقائعها علينا بأداء مزج فيه بين المرارة والسخرية، مرارة السعى وسخريته من عدم جدواه فى تحقيق أى شىء، بدا عماد اسماعيل رجلا حائرا بائسا تقتحمه مشاعر اضطراب دائمة حتى استسلم فى النهاية بألم شديد لساعة الخلاص، جهد نادر بذله اسماعيل فى منطق لعب هذه الشخصية التى كانت أقرب لرجل شارد يناجى نفسه أكثر منها شخصية درامية كتبت للمسرح والتمثيل وهو ما يشير لمهارة الممثل الكبيرة فى قدرته على التمكن والسيطرة على هذا النوع من التجسيد الذى يستعرض فيه الممثل نفسية البطل ودقة مشاعره الداخلية ووعيه بالعالم والوقت أكثر مما يستعرض فيه إمكانياته وحرفته كممثل قادر على رسم أبعاد لشخصية درامية، عرض باعث على الدهشة وفتح خيال وفكر المتلقى لمراجعة الذات والتأمل فى واقعه الحالى ورحلة حياته وتقدير قيمة الوقت قبل أن يفوته الموعد مع الحياة!