الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الشقق المفروشة» مفرخة للإرهابيين

«الشقق المفروشة» مفرخة للإرهابيين
«الشقق المفروشة» مفرخة للإرهابيين




تحقيق - سمر حسن

تاريخ طويل لآلاف الشقق التى تؤجر مفروشة وغير مفروشة من الفضائح بداية من استغلالها فى أعمال منافية للآداب العامة وحتى ارتكاب أبشع الجرائم، فاستُخدمت فى أعمال الدعارة، خاصة حينما تُركت فى أيدى سماسرة الإيجار، وحارسى العقارات «البوابين» لتؤجر لمن يدفع أكثر، أو من دفع الإكرامية تحت مسمى «عمولة».
فى البداية كانت تؤجر لمدة لا تقل عن سنة، وبعد ذلك 6 أشهر، وبعدها لشهر، حتى وصل الأمر لإمكانية إيجار شقة مفروشة لمدة يوم واحد، ولم يقتصر جشع مُلاكها عند هذا الحد بل وصل الأمر لاقتطاع حجرة ودورة مياه من شقته الخاصة وإنشاء باب دخول وخروج خاص بهما تحت مسمى «شقة استوديو» تؤجر بالساعة لأى شخصٍ كان مقابل مبلغ مالى مرتفع، ويستمر الوضع هكذا إلى أن تفوح رائحة المكان ويصرخ الأهالى لكثرة تردد راغبى المتعة على مثل هذه الأوكار.
منذ ثورة 30 يونيو والشقق المفروشة هى الحلقة الفارغة فى سلسلة العمليات الإرهابية، حيث استغل هؤلاء التكفيريون جشع معظم مُلّاكها وحولّوها إلى أوكار لتجهيز معدات التفجير قبل أن ينقضوا على ضحيتهم .. لذلك خاضت «روزاليوسف» فى تجربة البحث عن شقة مفروشة، وكم هو من السهل للحصول عليها لأى شخص، ورصدت الالتفاف حول أهدافها من استخدامها لأغراض السكن إلى مفرخة للإرهاب.

المعـايشة
قُمنا بجولات فى عدة مناطق بالقاهرة بحثًا عن شقة مفروشة أو خالية، لنجد أن إجراءات الحصول عليها أسهل ما يكون لأى شخص، وفى كل مكان ذهبنا إليه خلال جولتنا كنا نظهر بشخصية جديدة، ما بين طالب جامعى أو أسرة، أو موظف حكومى وغير ذلك، اشترك بينهم رغبة المؤجر فى التعاقد مع الشخص الذى يوافق على تسعيرته مهما كان جنسه أو هويته.
طوال فترة البحث لم نلتق بأىٍ من مُلاك تلك الشقق، ولكن السمسار بالاتفاق مع حارس العمارة هما من يتوليان أمر كل شىء، وكلما أغدقت عليهما بالمال كان الحصول على الشقة أمر فى غاية السهولة، يعطون صاحب الملك صورة رائعة عن المستأجر ولا يأتى إلا عند توقيع العقد فقط.
بدأنا من منطقة المنيرة بالسيدة زينب بالقاهرة، والتى وصل فيها ثمن إيجار الشقة لأرقام فلكية بداية من 6 آلاف جنيه وحتى 12ألف جنيه فارغة بلا أثاث، ورغم ذلك فكانت معظم الشقق ساكنة، بدأت الجولة بالذهاب لإحدى سمسارة المنطقة، وهى سيدة تدعى «أم عمر»، والتى كانت تعتمد فى عملها على حارسى العقارات، من خلال إبلاغهم لها فى حال خلو أى شقة فى العقار، وبعد ذلك اصطحبتنا لعدة شقق.
فى البداية أعطت لنا مواصفات خيالية، وبمجرد الوصول وجدنا شقق متهالكة والمفروش منها به أثاثه بالٍ، ثم يدور الحديث بيننا وبينها بأن الشقق سيئة، ولا تستحق هذا المبلغ، فيقطع الحديث حارس العقار، والذى يوضح لنا ضرورة الموافقة على واحدة منهم، ودفع عمولة له «الحلاوة» مُقابل إخبار صاحب الشقة أن المستأجر فرد وأسرته، وليس شخصًا واحدًا بمفرده ليوافق على تأجيرها.
صممنا على الرفض مؤكدين أننا نُريد مشاهدة واحدة أخرى، وبالفعل أرشدنا عن واحدة جديدة، لنلتقى بحارس العمارة، وبمجرد علمنا أنها موجودة فى «بيت أهالى» رفضناها قبل أن نراها ولم نكمل حتى الطريق إليها، فأوضح الحارس أنها صحيح فى بيت أهالى لكن لنا حرية التصرف فى الدخول والخروج واصطحاب أى شىء وأى شخص، وقال نصًا: «لو معاكى واحد زميلك، ولا شنطة فيها شوية حاجات، ولا حد هيسألك فيها إيه، ولا يسأل زميلك طالع فين».
وبالفعل ذهبنا ورأينا الشقة، والتى كانت بحالة جيدة، ووافقنا عليها، فهاتف الحارس صاحبها وأخبره بأن المستأجر «طالبة جامعية» وسيأتى لزيارتها أقاربها وزملاؤها، إلا أنه لم يهتم وسأله هل وافقت على ثمن الإيجار؟، فأكد له أننا بالفعل اتفقنا على كل شىء، حتى عمولة السمسار و«حلاوة» الحارس.
بدأنا كتابة العقد بواسطة الحارس، الذى أوضح لنا أننا عقب الانتهاء من جميع البنود سوف يأتى صاحب الشقة للتوقيع النهائى واستلام النقود قيمة التأمين وإيجار شهر مقدم، ثم نظر إلى البطاقة فوجد «المحررة» مثبت فى بطاقتها إنهاء دراستها الجامعية، فبدأت نبرة صوته تتغير وطالب عمولة مضاعفة حتى يُقنع صاحب العقار، وكانت هذه الحجة التى أفسدت إتمام كتابة العقد واستئجار الوكر.
حاول بعد ذلك بمساعدة السمسارة الوصول لحل وسط إلا أننا تمسكنا برأينا لإفساد المهمة، فنحن ذهبنا لكشف حقيقة وليس للمشاركة فيها.
الجولة الثانية كانت فى منطقة الدقى بالمهندسين، والتى علمنا بعد ذلك أنها مُلقب هى ومنطقة العجوزة بالخليج، نظرًا لكثرة تردد الوافدين من دول الخليج على هاتين المنطقتين، واستئجار الشقق فيهما بأعلى أسعار.
فى البداية تم التواصل مع سمسار من خلال موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، والذى أخبرنا بأنه لديه العديد من الشقق بمختلف الأسعار والمساحات، وعند وصولنا سمعنا أسعار فلكية، وأوضح لنا أن السبب وراء ذلك هو استئجار الوافدين من خارج مصر لتلك الشقق خاصةً إيجار اليوم الواحد.
ظللنا طوال اليوم ننتقل من شقة لأخرى، ولكن الغريب أن معظمهم ممن يُطلق عليه «استوديو» والأصل فيها أنها شقة صغيرة مكونة من غرفة واحدة وصالة ودورة مياه ومطبخ، ولكن ما شاهدناه على أرض الواقع هى عبارة عن غرفة مُقتطعة من شقة وبها دورة مياه ويتراوح سعر إيجارها من 5 آلاف جنيه وحتى 10 آلاف جنيه للشهر ومن 500 جنيه إلى ألف جنيه فى اليوم ومن 250 إلى 500 فى الـ 12 ساعة، وبعضها يؤجر بالدولار.
الكارثة الأكبر التى علمنا بها عندما التقينا «البواب» والذى أخبرنا أن التأجير المفروض يتم بصورة بطاقة الرقم القومى أو جواز السفر، ولكن بسبب كثرة الوافدين فلا يتم تحرير عقد من الأساس خاصةً فى الإيجار بالساعة، وعندما أخبرناه أننا لن نبقى متواجدين فى الشقة طوال أيام الأسبوع، عرض علينا نظام الإيجار بالساعة قائلًا «لما تحبى تييجى ترتاحى ساعة ولا اثنين أنا هفتحلك شقة أنتى واللى معاكى وأخد عمولتى بعيدًا عن المالك وبلا أى إثبات شخصية»، وهكذا استمر الحوار بيننا وبينه حتى تأكدنا أن شقق الإيجار الموجودة يمكن استخدامها بأى شكل من أجل الربح، بعلم مُلاكها أو بدون علمهم.
الجولة الثالثة والأخيرة فى الجيزة، وتمت هى الأخرى من خلال التواصل مع سمسار بالقرب من محطة مترو الجامعة، والذى تم التواصل معه عبر الهاتف فأخبرنا بمكان الشقة، وطلب منا الانتظار بجوارها إلى أن يأتى هو وصاحبها حتى نشاهدها ونقرر، مرّ قرابة الساعة ثم أتى يستقل سيارة بها 4 أشخاص بخلاف سائقها، ويتبعها سيارة ملاكى بدون أرقام أو لوحات معدنية، ودار الحديث بيننا وبالفعل صعدنا إلى الشقة، ويبدو أننا وقعنا فى فخ من أجل سرقتنا إن لم يصل الأمر لتخديرنا وسرقة أعضائنا – حسب تأكيد البعض -، وإن لم نكن قد قسمنا أنفسنا لمجموعتين الأولى صعدت، والأخرى كانت تراقب.
وعندما شكت بالأمر بدأنا بالتحرك لا ندرى أى خطر كنا سنواجه، وبالفعل تم تغيير السيناريو المُعد له من قبلهم واتجهنا إلى أسفل موضحين لهم أننا سنأخذ قسطًا من الوقت ثم نقرر، إلا أنهم مارسوا جميع أنواع الضغط علينا لأخذ أى مبلغ مالى عربون تحت مسمى «ربط كلام عشان منفرجش حد تانى على الشقة».
استقلينا سيارتنا وذهبنا معهم إلى مقر مكتبهم، لنجدها شقة متهالكة ومجهولة فى منزل قديم بالدور الأرضى بلا أى لافتة تدل على وجود مكتب تسويق عقارات، ولا يوجد بها عاملون بخلاف الـ 4 أشخاص والسائق.
اتفقنا على كتابة عقد ابتدائى فى مقابل دفع عربون 1000 جنيه وإيصال أمانة بالمبلغ لضمان حقنا، بالفعل بدأ السمسار كتابة العقد، والطبيعى أنه يكون أشبه بالقسيمة يحتوى على كل التفاصيل سواء الموجودة بالشقة أو بنود التعاقد، إلا أن ما قام به هو إحضار ورقة بيضاء بلا معالم، ليدون بها عقد إيجار شقة بمنطقة كذا ليوم كذا، وكذلك إيصال الأمانة والذى حُرر بطريقة بلهاء فقام بسؤال المحررة عن اسمها، وصاحب الشقة عن اسمه ثم طلب من كلٍ منهما التوقيع على العقد دون إثبات البطاقات، أو أى إجراء قانونى.
وعندما شككنا فى صحة العقد، قال «كنت لسه هقوله هات البطاقة عشان أكتب رقمها» ليرد عليه صاحب الملك «لا البطاقة ليست معى نسيتها»، ورغم انفعالنا عليهم لطريقة النصب الواضحة التى يتعاملون بها وكيف لصاحب مكتب عقارات وسيط فى عمليات بيع وشراء واستئجار لا يعرف أصول المهنة هكذا؟، يرد قائلًا: «أنتى خايفة من إيه ده هو 1000 جنيه مش مبلغ»، ولكننا رفضنا دفع ولو جنيه واحد وتشاجرنا معهم، وتركنا المكان بصعوبة بالغة، لنعلم بعد ذلك من بعض سُكان المنطقة، أنهم مجموعة من البلطجية يستدرجون الزبائن تحت مسمى مكتب عقارى، للنصب عليهم بالتعاون مع حارسى العقارات، بحيث يُسهّل لهم فتح الشقق الخالية من السُكان لخداع الزبائن واستكمال جريمتهم.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، إلا أنها تُفتح أيضًا بمعرفتهم لأى شخص بمقابل مادى دون علم مُلاكها، ومن هنا يتضح دور هذه الشقق المفروشة فى عمليات الإرهاب الأخيرة، وكيف سهل حارسو العقارات المهمة للإرهاب، عن طريق فتح الشقق دون إثبات هوية أو تحرير عقد، ولكن فى مقابل دفع الأموال ليراقبوا ضحيتهم ويجهزوا أدوات عملياتهم الخسيسة.

خبراء القانون
قال د.محمد حامد – خبير قانونى – إن المشكلة ليست قانونية بقدر ما هى أمنية، ولكن لابد من سن تشريع يمنع حارسى العقارات من التعامل مع المستأجر، أو التصرف فى شأن الشقق الخالية بأى شكل، وواصل: كل ما يقوم به هو توصيل المستأجر بصاحب الملك سواء بتحديد موعد للمقابلة أو عبر الهاتف، وأشار إلى أنه من الضرورى إلغاء ما يُسمى بالإيجار اليومى، على أن يتم الإيجار بشكل قانونى، من خلال تحرير العقد وإبلاغ قسم الشرطة التابعة له، وإعطائهم نسخة منه، وشدد على ضرورة عدم ترك مفاتيح الشقق لحراسى العقارات أو السماسرة، ومن يخالف ذلك يُعاقب وفقًا لقانون الإرهاب.

خبراء الأمن
أوضح العقيد حاتم صابر – خبير مكافحة الإرهاب – أن وزارة الداخلية تبذل قصارى جهدها لمواجه الخارجين عن القانون، وبشتى السبل القانونية الموجودة، وتوجه لهم ضربات استباقية موجعة من أجل بتر الإرهاب، وأشار إلى أن استغلال هؤلاء الإرهابيين للشقق المفروشة للاختباء بها، تعتبر مشكلة مجتمعية قبل أن تكون أمنية.
واستطرد: لا يمكن أن يتم القضاء عليها إلا من خلال التعاون المجتمعى، كما أن عشوائيتها تزداد فى المناطق الريفية والقرى أو المناطق شديدة الزحام، والتى يصعب على سُكانها تمييز الأشخاص الجُدد بها، وأشهرها منطقتا فيصل والهرم، وطالب من الأهالى سرعة إبلاغ الداخلية، حال رؤية أى شخص دخيل على منطقتهم، ونوه بأن ضباط المباحث بأقسام الشرطة يقومون بعمل التحريات فور وصول البلاغ، دون ذكر اسم صاحبه لضمان حمايته.
وأكد اللواء رضا يعقوب – خبير مكافحة الإرهاب الدولى – أن مشكلة استخدام الشقق المفروشة فى العمليات الإرهابية، ترجع لعدة أسباب،  أهمها ترك مُلاكها شأنها لحارسى العقارات، وقد يكون مالكها مسافر خارج مصر، وجشع وقلة ضمير بعض حارسى العقارات وأحيانًا جهلهم وخوفهم من هؤلاء الإرهابيين.
وتابع: وكى يتم القضاء على هذه الظاهرة لابد من اشتراك الأهالى مع وزارة الداخلية، عن طريق سرعة إبلاغها حال شكهم فى أحد الأشخاص، وإبلاغ صاحب العقار القسم التابع له عدد الشقق الموجودة لديه، وكم عدد الخالية والمشغولة بالسكان، بالإضافة إلى بيانات السُكان بشكل دوري، ونوه إلى أن كل قسم شرطة يقوم بعمل اجتماع أسبوعى بحارسى العقارات، يعطى لهم التوجهيات ويرفع مستوى الوعى لديهم بخطورة الإرهاب، وعدم التساهل فى عملية الإيجار مع أى شخص، علاوة على ضرورة إحضار صورة من عقد الشقة وبطاقة الرقم القومى للمستأجر إلى القسم، وإن أمكن يُفضل تحرير العقد داخل القسم ذاته، وشدد على العقوبة التى حددها قانون الإرهاب حول مساعدة الأشخاص لهؤلاء الإرهابيون فى عملياتهم الخسيسة أو مخالفة التعليمات.

الداخلية
أكدت تحريات وزارة الداخلية – حسب مصدر أمنى رفيع المستوى طلب عدم ذكر اسمه - أن 85% من جرائم الإرهاب يتم التجهيز لها من خلال الشقق المفروشة، لمراقبة الضحايا قبل عمليات الخسة التى يقومون بها، وأبرزها جريمة الاعتداء على كمين أمنى بالهرم، بالإضافة إلى الضربات الاستباقية التى قامت بها وزارة الداخلية، كالقبض على محمد كمال القيادى الإخوانى فى شقة مفروشة بـ 6أكتوبر، والقبض على خلية إرهابية فى محيط قسم ثانِ المنصورة، والتى كانت تخطط لتفجير القسم والمركز، ناهيك عن كمية المتفجرات وأجهزة التصنت والمراقبة النقود التى يتم تحريزها أثناء مداهمة تلك الأوكار بالشقق المفروشة.