الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مهام الرسول الثلاث فى تزكية المؤمنين






لقد أسند المغالون بلا ضوابط لرسول الله صلى الله عليه وسلم مهام ووظائف ليست من مهامه، ولا من وظائفه كرسول ونبى مرسل من لدن الله، كالطب النبوي، ووهم البركات والكرامات فى فضلاته وغيرهما، وهم يتصوّرون ما هم فيه تديّنا أو حبّا للرسول، وقد قاموا بما قاموا به ثمّ نشروه بين الناّس، بينما هم لم يراجعوا القرآن قبل أن يسترسلوا فى معتقداتهم وخيالاتهم، وكان من نتاج لهفتهم على التنافس فى ابتداع الحب بلا ضابط أن فاتهم كثير من العلم الذى كان يجب أن ينتفعوا به أو ينفعوا به النّاس، بل أفسدوا عقول أهل الإسلام وأفسدوا عليهم حياتهم بين مجتمع البشر.
 
إن مهمة الرسول من الأهمية بمكان بحيث يستحيل أن يغفل عن ذكرها القرآن، ولقد حددها الكتاب الكريم فى مهام محددة، وهى مهمة يجب على كل أب وأم أن ينتهجوها، لأنها هى الوسيلة الناجعة لتزكية نفوس الأبناء وتقويمها لتكون نفوسا سوية، ولأننا مأمورون باتباع النبى فإن ابتعادنا عن ذلك الاتباع إنما يُفرز نتائج نعانى منها بما قدمته أيدينا، وقد أورد الله ذكر المهمة بآيات ثلاثة، حيث يقول تعالى:ـ
 
1- ({رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }البقرة129.
 
2- ({لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ }آل عمران164.
 
3- ({هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ }الجمعة2.
 
لقد كانت الآيات الثلاث تبّين فى ألفاظ محكمة ودقيقة مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالى مهمة أولياء الأمورـ فهو له مهام محددة حددتها الآيات وتنحصر تلك المهام فيما يلي:
 
1- يتلو عليهم آيات الله. 2- يعلمهم الكتاب والحكمة. 3- يزكيهم.
 
وبتلك المهام الثلاثة وبممارستها، سواء من الرسول، أو من العبد مقتديا بنبيه، يتم إزالة الضلال، فلا شيء فى مهمة رسول الله غير هذا، و من تصوّر أن للرسول مهمة البشارة والنذارة متكئا على قوله تعالى:(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ }فاطر24 ـ فلابد أن يعلم أن البشارة والنذارة ليستا من مهام الرسول، إنما هى من وسائله لتحقيق الأهداف والمهام المذكورة، والقرآن الكريم فيه البشارة والنذارة، فعلى ذلك فإن قيام الرسول بمنهج ومهمة تعليم الكتاب، ستدخل فيه البشارة والنذارة التى أرادها الله ليراود بها عباده لطاعته.
 
أما وظيفة البلاغ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ.....الخ الآية67 المائدة) فليست أيضا من المهام (الأهداف) ولكنها الوظيفة التى يؤدى بها النبى المهمة، ويؤدى بها الآباء المهمة.
 
 وعودة مرة أخرى إلى المهام المحددة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنتبينها الواحدة تلو الأخرى، فعلى ذلك فإنّ كلّ من استمع إلى تلاوة من آيات كتاب الله فهو بذلك يحقق حقيقة من حقائق منّة الله عليه كمؤمن قال الله عنه: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ}آل عمران164؛ فكلمات (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) تعنى تكرار السماع وتكرار القراءة، ولا تعنى بحال تلاوة مرّة واحدة لا يعقبها مرات ومرّات، وبذلك السّماع وتلك التلاوة يتم إزالة ثُلُثُ الضلال عند كلّ مسلم.
 
أمّا تعلُّم الكتاب والحكمة فهو يزيل الثُلُثُ الآخر من الضلال، ولا عجب إذ حضّ ربّ القرآن على تعلّم القرآن وتدبّره قائلا:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}محمد24؛ وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}ص29 ـ كذلك حضّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعلّم القرآن وعلومه فقال فى مواضع كثيرة ما يعنى (خيركم من تعلّم العلم وعلّمه).
 
أمّا الحكمة فهى الرشاد فى اختيار أفضل السبل، ويصاحبها دوما توفيق الله للمؤمن وفق درجة إيمانه وإخلاصه وتدبّره لمرامى ومقاصد الشريعة، ووفق ما قدّره الله له من خير.
 
أمّا مهمة تزكية المؤمنين فتعنى تطهير قلوبهم وصدورهم من براثن الضغينة، ووحشة الفُرقة، وقسوة الكراهية والغل والحسد، فكلّ ذلك من أمراض القلوب، مع عدم الانصياع للحق أو صعوبة الرجوع إليه، وتهيئة تلك القلوب إلى حُسن استقبال تعاليم كتاب الله وحُسن الانقياد لما تعلّمه العبد من الصالحين من العلماء، وأن يصل العلم ليكون عقيدة فى نفس المؤمن لا ليكون علما لا ينتفع العبد به، وأن يصل العبد إلى مرامى القدوة الحسنة والمآثر الطيبة التى تعود عليه بالنفع وعلى المجتمع فى الدنيا والآخرة، وهى تعنى النماء المستمر باتجاه الخير، وبذلك ينجلى العنصر الثالث من عناصر الضلال.
 
وحقيقة غالب أهل الإسلام فى عصرنا الذى نعيشه بعيدة كل البعد عن منهج التزكية، فسماع القرآن قد يكون سهلا لمن يسّر الله له السماع والتلاوة، وتعلّم العلوم الشرعية والحصول على أعلى الدرجات العلمية فيها أمر ميسور لمن بذل بعض الجهد، لكن الجهد كلّ الجهد فى مقاومة آفات النفس البشرية التى لا تستقيم للمسلم على حال وما ذلك إلا لأنّ الشيطان يجرى منها كمجرى الدم فى العروق، وأطماعها وشهواتها لا تقف عند حد، لذلك فإنّ مهمة التزكية كانت على عهد رسول الله بثّا مباشرا من سلوكه صلى الله عليه وسلم، كذا تعاليمه للصحابة الأجلاّء كانت منارة الهدى لتلك النفوس، أمّا بعد مماته فتكمن فى الانقياد لصحيح سنّته، وحينما أذكر كلمة (صحيح سنته) لا أعنى بها كتب الصحاح وإن كنت لا أعيبها فى مجملها، ولا أعنى التوارث الفقهى غير المنضبط على حقيقة النبوّة، إنما أعنى الانضباط فى السنّة لتكون متوائمة مع الكتاب وغير متصادمة مع نصوصه ولا نتأوّل نصوص الكتاب لنصنع شرائع وتشريعات وننسبها لرسول صلى الله عليه وسلم.
 
والتزكية التى يقوم بها المسلم لنفسه تكون عبر تطبيق كتاب الله، ودراسة سيرة سيد الأوّلين والآخرين، والبحث فى ثناياها، وحسن التفرقة بين أهدافها وبين الوسائل التى كانت متاحة لرسول الله فى زمانه ليصل إلى تلك الأهداف، كذا معرفة ما تقدّم من فعله صلى الله عليه وسلم وما تأخر حتى نستظهر السُّنة الحقيقية، فقد جمع البخارى ومسلم وغيرهما من رجال الصحاح كلّ ما كان عن رسول الله تقديما وتأخيرا، فلا بد من الاعتماد أيضا على علم العلماء فى هذا الشأن حتّى نصل إلى حقيقة السُّنة، فاللباس والتداوى وشكل تصفيف شعره صلى الله عليه وسلم ليس مما يقرّب إلى الجنّة قيد أنملة، ولبس البنطال وحلق اللحية ليسا مما يقرّب إلى النّار قيد أنملة، وإن كنت أرى أن من يفعلون تلك الأمور (اللحية والسواك وما شابه) هم الأقرب إلى تزكية النفس لكن عليهم أن يخرجوا معتقداتهم المظهرية من منهاج القرب أو البعد عن الله، وحتى لا يزكوا أنفسهم على بعض ممن هم أفضل منهم ممن لا ينتهجون بنهجهم فى المظهر واللباس.
 
لكن تزكية النفس التى توصل إلى درجه التقوى تكون فى طريقته صلى الله عليه وسلم للتّقرب من ربه وإصابة هدف رضاه، وهى على سبيل المثال فيما روى أنه كان يواظب على الدعوة إلى الله، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومن صور الحياة الخاشعة التى كان يحياها صلى الله عليه وسلم من التزام بصوم نوافل وكثرة الصدقة وصلاة الليل وإعانة الملهوف وعيادة المريض وكفالة اليتيم ومصادقة أهل الخير والعدل فى الرضا والغضب وإيتاء ذى القربى، وجماع ذلك كله فيما روى عنه أنه كان خُلُقُه القرآن.
 
فإن المسلم إن تحلى بتلك الصفات، وواظب على هذه الوسائل فإن نفسه ستسمو، وسيصل حتما إلى درجة التقوى، حيث يقول تعالى (....فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}النجم32؛ فدلّ هذا على أنّ تزكية النفس تكون بما نهج عليه النبى من منهاج القرب إلى الله فقط دون غيره من المناهج التّصوّرية، والعبد المسلم الذى يلتزم بهذا المنهاج سيصل حتما إلى درجة التقوى، حتّى وإن كان حليق اللحية، أو يرتدى البنطال، فلا قربى لله فى لحية، ولا فى سروال، ولا مهمة لرسول الله ولا هدف فيهما يبعث على التقوى، إنما هى عادة قومه الذين نشأ فيهم وكانوا فيها سواء بسواء، ولا شأن لقرب من الله أو بعد فى تلك الترّهات، كما انها لا شأن لها بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند الذين يعيشون الدين بالوهم.
 
وتزكية النفس هى تلك التى نطلق عليه فى زماننا لفظ التربية، لكننا نمارسها بغير هدف ديني، وبلا هدف لرضوان الله عزّ وجلّ، ولا نبع لها من قاعدة علمية أو تربوية معتمدة، فكان أن أصبحت تربية الأجيال للأجيال غير مرتبطة بمنهاج تربوى نابع من دين الله، بل أصبحت أمرا اجتهاديا يشكر كلّ منا نفسه على ما قدّمه من تربية لأولاده بلا مقياس يُقاس عليه جهده، وأصبحنا جميعا عبيدا للميراث بلا سند وبلا سبب؛ فكان أن قمنا بإنزال الضرر بأبنائنا دون دراية منّا.
 
 ومن أمثلة الإضرار، ربّ البيت الذى ينام ومعه أهله فى وقت صلاة الفجر، إنما يرسى بأهل بيته قاعدة الإهمال والتفريط فى الفرائض والواجبات، وعدم الاكتراث لما يفوت من طاعة، كذا عدم الاكتراث لما يُحَصِّله العبد من ذنوب، وهو ينشئ قاعدة صلبة من الجحود على شعائر الله، فما بالك بما هو أقل من شعائر الله؟، إن هذا الأب ينطبق عليه قول المولى عز وجلّ ({وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }الشمس10 ـ فهو لم يزكّ نفسه ولم يزكّ أولاده بل أوردهم مورد التهلكة بينما هو يصيح: (أنا ربّيت عيالى أحسن تربية)، فهو يتصور إنفاقه بسخاء على عياله أنه أحسن تربية، لكن أين هو وأمثاله من قوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}طه132!!.
 
إن كافة الأمراض السلوكية التى يعانى منها مجتمعنا ناجمة من تباعدنا عن منهجنا الثابت الذى منحنا الله إياه، وذهلنا عنه حين تلاطمنا على شواطئ الشرق والغرب، نلتمس منهم، ونقلد ما يحدث فى منتدياتهم ومجتمعاتهم بلا ضابط من منهج سماوى قويم، وخرجنا من إطارنا السماوى إلى مناهج العبيد، فكان نصيبنا همجية التحرش، وفوضى المخدرات، وانتشار العنف، والابتعاد عن الوطنية والإخلاص فى كل دروب حياتنا.